سمّت الفنانة والشاعرة إتيل عدنان أصولها المتعدّدة بـ"هويات التعدد المضاعف"، وتعني بها تعدّد الأشياء التي تشكّل كينونة المرء، ويختار منها في آخر المطاف، الانحياز للهوية المتأزمة، أو الواقعة في أزمة.
الفنانة الراحلة مولودة في بيروت (1925-2021)، من أب سوري وأم يونانية، وهي تحمل الجنسية الأميركية، وتتحدث العربية والفرنسية والإنجليزية.
والدها كان ضابطاً في الإمبراطورية العثمانية، تزوّج خلال الحرب العالمية الأولى من والدتها، "كان الاثنان يتحدثان بالتركية، وأنا أتحدث باليونانية"، تقول الراحلة.
تذكر في حوارها الشهير في جامعة "أفينيون" الفرنسية (10 يوليو 2009)، "درستُ في مدرسة دينية فرنسية، وكانت الراهبات تقول عني "مسكينة إتيل الصغيرة، هي تلميذة نجيبة، لكن والدها مسلم".
تقول عدنان: "في حضن المنزل العائلي، كنتُ أنا، فقط أنا لا غير. لكن حين التقيت في أميركا بالمهاجرين الفلسطينيين والأردنيين والعراقيين، قوي الجانب العربي من هويتي؛ ولما بدأت الحرب الأهلية في لبنان، أصبح انتمائي لهذا البلد أقوى. لقد حدّدت الأزمة ولائي للبنان".
التحقت عدنان بجامعة "السوربون" في باريس لتدرس الفلسفة، ثم جامعة هارفارد في الولايات المتحدة، ثم شرعت في تدريس فلسفة الفن في جامعة "بركلي" وهي في الثلاثين من عمرها.
نصوص عن الحب واللغة
قبل أيام صدر كتاب جديد بعنوان "إتيل عدنان في الحب واللغة" عن (دار رياض الريس 2024)، من تعريب الكاتب فواز طرابلسي وتقديمه، وهو من أقرب الأصدقاء إلى الراحلة.
في الكتاب جمع طرابلسي النصوص التي اختارتها الفنانة للنشر في مجلة "بدايات" الفصلية، التي أسهم طرابلسي في تأسيسها، وتولى رئاسة تحريرها (2012-2022).
يقول طرابلسي: "إتيل عدنان هي ابنة الجيل الذي هزّته هزيمة يونيو 1967، وانتشى بانتصارات الجزائر وفيتنام، ووضع المخيّلة في السلطة مع طلاب وشباب العالم في ربيع 1968، الجيل الذي مجّد تشي غيفارا نموذجاً للإنسان الجديد. وها هي تهتف: "أيها الشعراء، غيّروا العالم أو اذهبوا إلى بيوتكم".
يضيف: "في الأسلوب، أريد أن أتحدث عن إتيل سيدة الضغط والتكثيف في القول. تقطّر الكلام تقطيراً في عملية طبيعية، واسمعها تلخّص ساحر الجاز الأميركي ديوك إلينغتن بعبارة من خمس كلمات: إنه يحوّل الضجيج إلى مُخمل".
ويوضح أن الكتاب "هو عبارة عن مجموعة من النصوص تحكي فيها الفنانة قصّة الأب وأيام الطفولة في بيروت، وتتأمل في الكتابة بلغة أجنبية، وتتحدث عن قصورنا أمام كلفة الحب. وفي الشعر، تحضر بيروت وبعلبك واثنان من شعراء إتيل المفضلين، فلاديمير ماياكوفسكي وبابلو نيرودا".
نشيد قيامة العرب
هكذا نفهم لماذا اتسم قلمها بالشعر السامي الممزوج بمسحة من الأسى والشجن. وهي أعلنت سنة 1960 جملتها القوية التي تبوح فيها بأن "العالم يعيش حرباً أبدية، مع انعدام أي انتصار ممكن".. إنه موت عالم، والناس لا يدركون ما الذي يقتلونه.
لذا هو شعرٌ يمسك بالأساسي، ولا يؤمن بالتحسينات البلاغية، شعر يلعب على المفارقة والتناقض كي يصرخ بحقيقة الإنسان في وجه العالم. كما أبدعت ذلك في قصيدة عصماء بعنوان: "قيامة العرب"، مع انفجار الحرب الأهلية اللبنانية.
قصيدة ملحمية مكوّنة من الأناشيد حول رمزية الشمس، وآلية التكرار، كتبتها بالكلمات وبالرسومات معاً، وشرحت وجود هذه الأخيرة على أنها "ما لم يُقال".
هي لا ترمز إلى شيء ما. في تلك اللحظة التي يتعذر علينا فيها إيجاد الكلمة. هي لحظة توقف، امتداد غير لفظي للفكر، أو حتى قبل الفكر، عندما نخربش شيئاً ونحن نفكّر.
شق بطن الكلمات
هذا ما جعل شعرها، الذي يصيب في مقتلٍ حين قراءته بقوة إيحاءاته وصوره، يعانق قضية الفرد، بما هو إنسان يسعى إلى تأكيد هويته وكينونته. كأنما إتيل عدنان بدأت من وعي مأزوم، فتح عينيها على شيءٍ أعمق من المكر المزدوج للجغرافيا وللتاريخ، بل على كينونة الإنسان وأسرار الطبيعة.
كانت شاعرةً شاملةً. وهو ما نلمسه في الأنطولوجيا الشعرية التي أصدرتها (دار لوبوان) الفرنسية تحت عنوان بليغ: "سوف يأتينا القدَر بمواسم صيفٍ كئيبة".
نورد هنا أبياتاً دالّة: "نقطة انطلاق الشعر حافّة جرف/ والكلمات شُقّ بطنها، ليعاد استخدامها كأجزاء/ وها قد حل اضطراب عظيم، وانفصل الربيع عن عناصره/ صار كائناً".
وتقول في قصيدة أخرى: "بضع قطرات من الندى أقوى أثراً من مجموعة أفكار متراكمة".
نقرأ في قصيدة "حديث مع الزهور": "أعلم أن الزهور تشعّ أقوى من الشمس/ وسيعلن كسوفها نهاية الزمان/ لكني أحب الزهور لأنها خائنة/ أجسادها الهشّة/ تزيّن شوارع خيالي/ ولولا وجودها/ لكان عقلي قبراً مجهولاً هنا".
نقتطفُ من ذات الديوان: "لندع النوافذ تُفتح كي يهدأ القلق الذي ينبعث من الأثاث/ ها هو البحر يرسل أمواجه عالية جداً، ملحاً للأرض".
تتعقذب هذا الجمال في امتدادات الأمكنة، وتعاقب الأزمنة، وفي قوى الطبيعة، كاستعارة ضرورية كي تستمر الحياة بما يكفي لمواجهة القلق، هذا الرديف للعيش اليومي الذي تعرف إتيل عدنان وصفه.
ترسم بالعربية
ذات الاستعارة قامت بها الشاعرة والفنانة، حين امتشقت الريشة و"حرّرت يدها" لترسمَ، بإيعازٍ من أستاذة لاحظت موهبتها، هي التي تُدرِّس تاريخ الفن، ولا تجرّب أن ترسم بدورها".
منذ ذلك الحين، وهي في الرابعة والثلاثين من عمرها، لم تتوقف عن إبداع لوحاتٍ بألوان بهيّة، عُرضت في متاحف عالمية منها "غوغنهايم" في نيويورك.
هكذا أنطقت الألوان والخطوط في تجريدٍ ناعمٍ بكل مكنونات روحها وتجليات فكرها. تجريد يضاهي مشاهد طبيعية لا تعلن عن ذاتها أحياناً، ومشاهد هندسية لها توازن مبهر.
ألحقت هذه التجربة بتوظيف الحرف العربي، كي تبدع بالعربية شعراً تشكيلياً أو تشكيلاً شعرياً، هي التي لم تتورّع من مزج الكلمة بالرسم كما أشرنا إلى ذلك.
وأوردت مجلة "دياكريتيك" المتخصّصة عن الفنانة: "فتح لي الرسم طريقة تعبير أخرى. وبما أن لغتي العربية لم تكن جيدة، قلت لنفسي بدافع التحدي: سأرسم بالعربية".
وهكذا تستعيد إتيل عدنان حضور اللغة العربية في جنسٍ تعبيري خالص هو الفن التشكيلي، وفسّرت ذلك بكونها أحبّت الرسم، "لأن العالم أقرب إلى فكرة الرسم، فهو ملموس، الجبال، الأنهار، العالم." (مجلة En attendant Nadeau الأدبية).
الإنصات للصمت
كل إبداع إتيل عدنان يمنح طاقة متجددة لمن يقترب منه، سواء عند تأمل القصائد التي تدبّجها، أو الفن الذي يومض في عيون من يشاهده.
عنوَنتْ أحد دواوينها بـ"تحريك الصمت"، وهكذا نقلته إلى الأمكنة المشتعلة ليتمكن المتلقي من الالتفات إلى أهواله التي يخفيها. وفي ذلك كان إبداعها هو مرآة العالم.