القطب الشمالي.. ساحة حرب قاسية تعطل التكنولوجيا الحديثة

time reading iconدقائق القراءة - 11
جنود كنديون خلال تدريب في مقاطعة كورنوال بمدينة أونتاريو الكندية. 23 يناير 2025 - REUTERS
جنود كنديون خلال تدريب في مقاطعة كورنوال بمدينة أونتاريو الكندية. 23 يناير 2025 - REUTERS
دبي -الشرق

أصبح إرسال المُسيرات والروبوتات إلى ساحات القتال، بدلاً من البشر، أحد ركائز الحروب الحديثة، ولا يبدو ذلك أكثر منطقية مما هو عليه في الامتدادات الجليدية الشاسعة للقطب الشمالي.

لكن كلما اقتربت العمليات من القطب الشمالي، تراجعت فاعلية التكنولوجيا المتقدمة. إذ تشوه العواصف المغناطيسية إشارات الأقمار الاصطناعية، وتستنزف درجات الحرارة المتجمدة البطاريات، أو تتسبب في تجمد المعدات خلال دقائق، بينما تفتقر أنظمة الملاحة إلى نقاط مرجعية وسط الحقول الثلجية الواسعة، وفق صحيفة "وول ستريت جورنال".

"الخصم الأقوى"

وخلال مناورة قطبية شاركت فيها 7 دول في كندا مطلع هذا العام لاختبار معدات تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، تعطلت مركبات الجيش الأميركي البرمائية المخصصة للقطب الشمالي بعد 30 دقيقة فقط، نتيجة تجمد السوائل الهيدروليكية بفعل البرد القارس.

كما تسلّم جنود سويديون مشاركون في التدريب أجهزة رؤية ليلية تبلغ قيمة الواحد منها 20 ألف دولار، لكنها تعطلت لأن الألمنيوم المستخدم في تصنيعها لم يتحمل درجات حرارة بلغت 40 درجة فهرنهايت تحت الصفر.

وقال إريك سليسينجر، الضابط السابق بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA): "القطب الشمالي هو الخصم الأقوى". ويدير سليسينجر حالياً شركة رأس مال مغامر تمول شركات ناشئة في مجال الدفاع، من بينها شركات تسعى لإتقان القتال في القطب الشمالي.

وفي أوكرانيا، تستخدم القوات المسلحة معدات متوافرة تجارياً، من مصادر الطاقة وأدوات الاتصال إلى المواد الكيميائية ومواد التشحيم. أما في القطب الشمالي، فإن استخدام هذه الأساسيات غالباً ما يتطلب إعادة هندسة شاملة.

ويتزايد التنافس بين القوى الكبرى في أقصى الشمال، مع فتح التغير المناخي لممرات بحرية جديدة وإتاحة الوصول إلى الموارد الطبيعية.

وتتمتع روسيا بتفوق عسكري في المنطقة، مع وجود قوات غواصات نووية وقواعد صواريخ ومطارات وموانئ في شبه جزيرة كولا. ويمر أقصر مسار جوي لصواريخ كروز فرط الصوتية الروسية من الجيل الجديد باتجاه أميركا الشمالية فوق القطب الشمالي.

تحديات قطبية

ومن بين الدول الثماني التي تمتلك أراضي في القطب الشمالي، تبقى روسيا الدولة الوحيدة غير العضو في حلف شمال الأطلسي "الناتو". وبين أعضاء الحلف، ينصب القلق الرئيسي لكل من الولايات المتحدة وكندا على الصواريخ الروسية، في حين تجعل حدود فنلندا والنرويج مع روسيا من احتمال التوغل البري مصدر قلق أكبر لهما.

ورجحت "وول ستريت جورنال" أن أي صراع في القطب الشمالي سيدفع مخططي الحروب إلى العودة إلى الأساسيات. إذ تجعل البرودة الشديدة المكونات الشائعة هشة، وتغير درجات الحرارة المنخفضة الخصائص الفيزيائية للمطاط، ما يؤدي إلى فقدان موانع التسرب مرونتها وحدوث تسربات.

كما يتجمد أي أثر للمياه أو الرطوبة ليكون بلورات جليدية يمكن أن تخدش المضخات وتتسبب في انسدادات. وينبغي عزل الأسلاك باستخدام السيليكون بدلاً من مادة PVC القابلة للتشقق.

وتزداد كثافة الزيوت ومواد التشحيم الأخرى إلى حد التجمد. وفي معظم الأنظمة الهيدروليكية القياسية، يتحول السائل إلى مادة لزجة تؤثر في كل شيء، من أدوات التحكم في الطائرات إلى منصات إطلاق الصواريخ وأبراج الرادار. ويمكن لتجمد واحد أن يعطل منصة تسليح كاملة أو يشل قافلة بأكملها.

وتُعد الأضواء الشمالية إحدى أبرز عوامل الجذب السياحي في القطب الشمالي، لكنها تمثل أحد أكبر مصادر الإزعاج بالنسبة للمخططين العسكريين.

وتنشأ ظاهرة الشفق القطبي، المعروفة رسمياً باسم "أورورا بورياليس"، نتيجة تفاعل جسيمات مشحونة من الشمس مع المجال المغناطيسي للأرض، الذي يبلغ ذروته عند القطبين.

وتتسبب هذه الظاهرة في تداخل الاتصالات اللاسلكية وأنظمة الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية التي توفر بيانات تحديد الموقع والتوقيت.

دروس من حرب أوكرانيا

ومن الدروس التي يمكن استخلاصها من الحرب في أوكرانيا الدور الحاسم الذي يمكن أن تؤديه الشركات الناشئة الخاصة في دفع عجلة الابتكار بالتعاون مع الحكومات.

وأطلق المستكشفان البريطانيان بن ساندرز وفريدريك فينيسي في وقت سابق من هذا العام شركة "أركتيك ريسيرش آند ديفيلوبمنت" (Arctic Research and Development)، وهي شركة ناشئة تهدف إلى نشر أنظمة ذاتية التشغيل في المناطق القطبية.

ويشبه ساندرز وفينيسي، اللذان قطعا مجتمعين نحو 7 آلاف و500 ميل على الزلاجات في القطب الشمالي، تصميم التكنولوجيا المخصصة لأقصى الشمال ببناء برنامج فضائي مصغر.

ويضم فريق العمل موظفين ذوي خلفيات في أبحاث الفضاء والاستخبارات وعلوم المناخ والقطاع العسكري. ويُعد سليسينجر، المستثمر في رأس المال المغامر، من أوائل الداعمين للشركة.

وتطور الشركة برمجيات مخصصة للاستخدام في القطب الشمالي، إلى جانب خرائط افتراضية تصور المنطقة بدقة أكبر من إسقاطات "مركاتور" الشائعة، التي تشوه المسافات في المناطق القطبية.

كما تُختبر المعدات داخل مُجمد كبير في وحدة صناعية بريف إنجلترا، حيث يمكن تعريض الأجهزة لدرجات حرارة تصل إلى 94 درجة فهرنهايت تحت الصفر.

وقال ساندرز: "كيف تمكنا من تشغيل مركبة بيرسيفيرانس الجوالة على سطح المريخ لسنوات وهي ترسل البيانات بسلاسة، ولم نتمكن بعد من نشر مركبة ذاتية التشغيل في القطب الشمالي؟". وأضاف: "على مدى جزء كبير من تاريخ البشرية، كانت تلك مناطق مجهولة على الخرائط".

ومن بين المنتجات التي تطورها الشركة صندوق برتقالي اللون بحجم حقيبة سفر يُعرف باسم "آيس لينك" (Icelink)، وهو مركز اتصالات عالي السعة لا يتجاوز وزنه 40 رطلاً، ويضم أيضاً هوائيات لنظام تحديد المواقع وبطاريات متخصصة تدوم لأيام.

ويُدرك ساندرز أهمية اختبار أدق التفاصيل تحت الضغط. ففي إحدى رحلاته الفردية إلى القطب الشمالي، انكسر جزء من رابط زلاجته، ما اضطره إلى إلغاء الرحلة بالكامل، متكبداً خسارة تجاوزت 200 ألف دولار.

ظروف جوية قاسية

كما تفرض طبيعة الطقس في القطب الشمالي شكلاً مختلفاً لأي حرب محتملة مقارنة بمناطق أخرى. ففي أوكرانيا، أنتج مصنعو الطائرات المُسيرة مئات الآلاف من الطائرات الرباعية الصغيرة والرخيصة التي تعتمد على الاتصالات الرقمية لتحديد الأهداف.

غير أن هذه الطائرات ستفشل في القطب الشمالي، حيث يتعين تجهيز المُسيرات بأنظمة إزالة الجليد، ومحركات قوية لمواجهة الرياح العاتية، والعمل بوقود الطائرات أو الديزل بدلاً من البطاريات. وغالباً ما تكون هذه الطائرات كبيرة إلى حد يتطلب مقطورة أو مدرجاً لإطلاقها.

ويُعد تشغيل أجهزة الراديو وحده "كابوساً لوجستياً". فقد تواصلت شركة خاصة أخيراً مع الجيش السويدي لعرض شاحن بطاريات يُجر على زلاجة. لكن وزنه، الذي تجاوز 400 رطل، كان سيجعله عالقاً عند أول طبقة من الثلوج الناعمة.

وقال فريدريك فلينك، قائد جناح التدريب الدولي في مركز الحرب شبه القطبية بشمال السويد: "تكمن المشكلة حالياً في أن كثيرين في القطاع الصناعي لا يدركون ما يحتاجه الجنود على أرض الواقع". وأضاف أن أفكارهم "قابلة للتنفيذ نظرياً، لكنها غير عملية".

وتابع: "لدينا نحن أيضاً على الأرض تصور عما نريده"، لكنه أقر بأن تلك الأفكار "قد لا تكون واقعية تقنياً".

وعلى مدى 3 فصول شتاء متتالية، قدم مركز الحرب شبه القطبية ملاحظاته لشركة أميركية تطور نوعاً جديداً من زلاجات التزلج الريفي بروابط لا تنكسر تحت ضغط عمل الجنود في الميدان.

الذكاء الاصطناعي "محدود الفاعلية"

ولفتت الصحيفة إلى أن الذكاء الاصطناعي يظل "محدود الفاعلية" في القطب الشمالي. ففي أوكرانيا، يُستخدم لتسريع اتخاذ القرار عبر معالجة كميات هائلة من البيانات.

وتتميز مناطق شرق البلاد بكثافة سكانية عالية تفوق بنحو 50 مرة كثافة مناطق القطب الشمالي في إسكندنافيا وفنلندا، حيث يقطن في المتوسط 5 أشخاص فقط في كل ميل مربع.

وتضم هذه المناطق شبكات طرق وسكك حديدية واسعة، ومنشآت لإنتاج الطاقة وصناعات ثقيلة. أما في حال تحول القطب الشمالي إلى ساحة قتال، فإن غياب هذه العناصر سيحد من كمية البيانات المتاحة أمام أنظمة الذكاء الاصطناعي.

وتتفاقم آثار التشويش المتعمد في القطب الشمالي. فالأقمار الاصطناعية التي تدور حول خط الاستواء غالباً ما تحجبها انحناءات الأرض في أقصى الشمال، ما يقلل عدد الأقمار المرئية مقارنة بمناطق أخرى من العالم. ويجعل ذلك من التشويش، الذي يعد مصدر إزعاج في أماكن أخرى، تهديداً خطيراً للسلامة.

اقرأ أيضاً

كيف غير الذكاء الاصطناعي مفهوم الحرب؟

كشف موقع أكسيوس أن الذكاء الاصطناعي تحول إلى أداة هجومية عابرة للحدود، مع استخدام النماذج التوليدية، وتنفيذ هجمات ذكية تستهدف البنية التحتية الحيوية حول العالم.

وفي عام 2019، سجلت هيئة الاتصالات النرويجية Nkom ست حالات فشل في نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في شرق إقليم فينمارك شمالd البلاد المتاخم لروسيا.

وفي عام 2022، وهو العام الذي غزت فيه روسيا أوكرانيا، ارتفع العدد إلى 122 حالة. ومنذ أواخر عام 2024، أصبح التشويش متكرراً إلى درجة دفعت الهيئة إلى التوقف عن إحصائه.

وقال إسبن سليته، رئيس إدارة الطيف الترددي في Nkom: "يجب تقبل أن هذا هو الواقع، والبحث عن حلول".

وفي هذا الإطار، اجتمع ممثلون عن أكثر من 100 شركة في جزيرة أندويا النرويجية خلال سبتمبر الماضي، للمشاركة في فعالية "جامر تست" (Jammertest). ويشهد الحدث السنوي اختبار معدات، تشمل طائرات مُسيرة وساعات ذرية وهوائيات ورقائق إلكترونية، في مواجهة التشويش في المناخ القاسي للقطب الشمالي.

وقالت هايدي أندرياسن، الشريكة المؤسسة لشركة "تيستنر" (Testnor) المنظمة للفعالية، إنها تعتقد أن التشويش لا يمثل عملاً عدائياً روسياً مباشراً، بل نتيجة جانبية لجهود موسكو لحماية أصولها العسكرية في شبه جزيرة كولا القريبة من هجمات الطائرات المُسيرة.

وأضافت: "في القطب الشمالي، ومع الظروف الجوية القاسية وانعدام خط الرؤية، يمكن أن يصبح التشويش مسألة حاسمة".

وتابعت: "قبل سنوات قليلة، لم يكن أحد يهتم بهذا الأمر لأنه كان نادراً، لكنه اليوم أصبح مشكلة يومية".

تصنيفات

قصص قد تهمك