
توصلت دراسة حديثة إلى أن رفع جرعة أحد أهم المضادات الحيوية المستخدمة في علاج التهاب السحايا الدرني، لا يقلل معدلات الوفاة، رغم الآمال الكبيرة التي عُلقت على هذا النهج لتحسين فرص النجاة ومنع تلف الدماغ.
والتهاب السحايا الدرني هو أخطر مضاعفات مرض السل، إذ يحدث عندما تصل بكتيريا السل إلى الدماغ والأغشية المحيطة به.
وذكرت الدراسة التي نشرتها New England Journal of Medicine، أنه على الرغم من توافر العلاج بالمضادات الحيوية، إلا أن نحو نصف المرضى المصابين بهذه الحالة يفقدون حياتهم، أو يعانون أضراراً دائمة مثل الشلل، أو فقدان السمع.
ويصاب نحو 11 مليون شخص سنوياً بمرض السل حول العالم، ويقضي المرض على حياة نحو 1.4 مليون شخص كل عام.
وعلى الرغم من أن التهاب السحايا يحدث لدى ما بين 1–2% فقط من مرضى السل، إلى أنه يعد الشكل الأكثر فتكاً وتعقيداً للمرض؛ نظراً لتأثيره المباشر على الدماغ.
التهاب السحايا الدرني
الباحث الرئيسي في الدراسة، روب آرنوتسه، الصيدلي السريري وأستاذ علم الأدوية الإكلينيكي في مركز جامعة رادبود الطبي في هولندا، قال إن المشكلة الأساسية تكمن في وصول كميات ضئيلة جداً من دواء "ريفامبيسين"، وهو المضاد الحيوي الأهم في علاج السل، إلى الدماغ.
وأضاف: "هذا يعني أن البكتيريا لا تقضى عليها بشكل فعال داخل الجهاز العصبي المركزي".
ومع ذلك، أشارت دراسات سابقة إلى وجود علاقة بين الجرعات الأعلى من "ريفامبيسين" وانخفاض معدلات الوفاة، ما دفع فرقاً بحثية دولية إلى اختبار هذا الخيار بشكل منهجي.
وأجريت أول تجربة سريرية كبرى لاختبار فاعلية الجرعات العالية من "ريفامبيسين" في تحسين فرص البقاء على قيد الحياة.
شارك في تصميم الدراسة مركز جامعة رادبود الطبي، ونفذت في إندونيسيا، وأوغندا، وجنوب إفريقيا.
شملت الدراسة 499 بالغاً مصابين بالتهاب السحايا الدرني، تلقواً جميعا العلاج القياسي المكون من 4 مضادات حيوية هي "إيزونيازيد"، و"ريفامبيسين" بجرعة 10 مللجرام لكل كيلوجرام من الوزن، و"بيرازيناميد"، و"إيثامبوتول".
وقسم الباحثون المشاركين إلى مجموعتين؛ تلقت إحداهما جرعة إضافية مرتفعة من "ريفامبيسين"، وصلت إلى 35 ملليجرام لكل كيلوجرام من الوزن، بينما تلقت المجموعة الأخرى علاجاً وهمياً، لمدة 8 أسابيع.
بلغ متوسط عمر المرضى 37 عاماً، وكان 60% منهم مصابين بفيروس نقص المناعة البشرية، وهو عامل يزيد من تعقيد المرض وخطورته، وقيم الباحثون معدلات البقاء على قيد الحياة بعد مرور 6 أشهر من بدء العلاج.
نتائج مخيبة للآمال
أظهرت النتائج عدم وجود أي فائدة تذكر من استخدام الجرعات العالية من "ريفامبيسين"، بل على العكس، بدا أن بعض الفئات الفرعية من المرضى واجهت خطراً أعلى للوفاة، فبعد 6 أشهر، توفى 44.6% من المرضى في مجموعة الجرعات العالية، مقارنة بـ40.7% في مجموعة العلاج القياسي.
وقال الباحث المشارك في الدراسة، رايناوت فان كريفل، اختصاصي الأمراض الباطنية والأمراض المعدية، إن "الوفيات الزائدة في مجموعة الجرعات العالية تبدو مركزة في الأسابيع الأولى بعد التشخيص".
وأضاف كريفل، الذي يدرس مرض السل منذ أكثر من 25 عاماً، لا سيما في إندونيسيا: "كانت النتائج مخيبة للآمال بالطبع؛ لأننا كنا نأمل أن تكون هذه هي الحل؛ لكن هذه نتائج مهمة؛ لأنها تخبرنا بوضوح أن علينا البحث عن مسار مختلف.. هكذا يتقدم العلم".
بعد هذه النتائج، بدأ الباحثون إعادة توجيه تركيزهم من البكتيريا نفسها إلى الاستجابة الالتهابية داخل الدماغ.
وتشير تحليلات عينات الدم، والسائل الدماغي الشوكي إلى أن المرضى الذين توفوا كانوا يعانون مستويات أعلى من الالتهاب مقارنة بالناجين.
أوضحت الباحثة المشاركة في الدراسة، ليندسي تي برايك، العالمة المتخصصة في العلوم الطبية الحيوية والسموميات في مركز رادبود، أن الفريق يعمل حالياً على تحليل عينات محفوظة من الدم والسائل الدماغي الشوكي؛ لفهم سبب فشل الجرعات العالية من "ريفامبيسين" في تحقيق الفائدة المرجوة.
وأشار فان كريفل إلى أن بروتين عامل نخر الورم (TNF) ربما يكون عنصراً محورياً في هذه العملية "يساعد ذلك البروتين في القضاء على البكتيريا، لكنه في الوقت نفسه ربما يتسبب في تلف شديد للدماغ. يبدو أننا ندفع الجهاز المناعي إلى رد فعل مفرط يضر بالمريض بدلاً من حمايته".
استراتيجيات علاجية جديدة
وأكد الباحثون أن العلاج الحالي، الذي يجمع بين المضادات الحيوية وأدوية مضادة للالتهاب، مثل الكورتيكوستيرويدات، لا يوفر حماية كافية للدماغ، لذلك تبرز الحاجة الملحة إلى استراتيجيات علاجية جديدة تستهدف التحكم في الاستجابة الالتهابية بشكل أدق.
ومن بين الخيارات المطروحة استخدام مثبطات عامل نخر الورم، وهي أدوية تستعمل أحياناً في مراحل متأخرة من علاج التهاب السحايا الدرني عندما تفشل الكورتيكوستيرويدات.
وقال فان كريفل إن هناك تجارب إيجابية مع هذه الأدوية "لكن لم يجر استخدامها حتى الآن في بداية العلاج، وهي المرحلة التي يموت فيها معظم المرضى".
ويخطط الباحثون لإطلاق تجربة سريرية جديدة لاختبار استخدام مثبطات بروتين عامل نخر الورم في المراحل المبكرة من علاج التهاب السحايا الدرني، على أمل تقليل الوفيات ومنع التلف الدماغي الدائم.
ويأمل الباحثون أن تمثل هذه المقاربة تحولاً في علاج أحد أخطر أشكال السل، بعدما أثبتت زيادة جرعات المضادات الحيوية وحدها أنها ليست الحل المنشود.









