
يُشكل التعامل مع مرض السكري مأساة يومية لنحو 500 مليون شخص حول العالم. يُطلب من المصابين بالمرض الالتزام بنظام غذائي صارم بشكل يومي على مدار حياتهم؛ علاوة على الوخز المؤلم لحقن الأنسولين أو زرع مضخات ذلك الهرمون في أجسادهم.
وحتى الآن؛ لا يوجد علاج جذري للسكري. فما هو ذلك المرض؟ ولماذا لم يتوصل العلماء لعلاج له حتى الآن؟ وما الآفاق المستقبلية للتعامل مع ذلك المرض الذي يعصف بحياة الملايين حول العالم؟.
يشير مرض السكري إلى مجموعة من الأمراض يكون فيها الجسم غير قادر على إنتاج أو استخدام الأنسولين بشكل فعال، وهو الهرمون المطلوب لتحويل الطعام إلى طاقة. وسبب الإصابة بمرض السكري غير معروف حتى الآن، ويوجد عدة أنواع لذلك المرض الذي يقع في المرتبة السابعة لأسباب الوفاة حول العالم.
في النوع الأول من داء السكري؛ يفقد المرضى قدرتهم على إنتاج الأنسولين، وبالتالي يجب عليهم حقن الأنسولين يومياً. ,لأنه غالباً ما يتطور عند الأطفال، ويشار إليه باسم "سكري الأطفال". أما النوع الثاني من السكري فينجم عن تراكم مستويات كبيرة من السكر في الدورة الدموية، إما بسبب عدم قدرة البنكرياس على إفراز كمية كافية من الأنسولين، أو بسبب عدم استجابة الخلايا لذلك الهرمون على النحو الصحيح.
ولأن استقرار مستويات الأنسولين هو المفتاح لإدارة مرض السكري. يركز العلاج القياسي حالياً على تكميل الأنسولين في الجسم، عادةً من خلال الحقن (الإبر)، أو مضخات الأنسولين التي يتم ارتداؤها خارج الجسم. يتطلب ذلك اختبار المريض لمستويات السكر في الدم عدة مرات في اليوم، والمحافظة بعناية على مستويات الأنسولين في الدم.
وفي حين أن هذا يعتبر أفضل مستوى رعاية حالياً، يأمل الباحثون في إيجاد طريقة لمساعدة الجسم على إنتاج أو تنظيم مستويات الأنسولين الخاصة به بشكل أفضل.
"علاج للمستقبل"
وتستخدم إحدى هذه الطرق -التي لا تزال قيد البحث- الخلايا الجذعية لإنشاء الجزر المنتجة للأنسولين في البنكرياس. وقد نجح العلماء مؤخراً في علاج مريض مُصاب بمرض السكري من النوع الأول بدواء مشتق من الخلايا الجذعية.
يقول أستاذ علوم الأعصاب والخلايا الجذعية في "جامعة هارفارد" الأميركية دوجلاس ميلتون، وهو مبتكر ذلك الدواء في تصريحات نقلتها مجلة الجامعة، إن علاج مرض السكري من النوع الأول بالخلايا الجذعية "هو المستقبل".
في أكتوبر الماضي، استخدم علماء من الجامعة العلاج المشتق من الخلايا الجذعية؛ جنباً إلى جنب مع العلاج المثبط للمناعة، لمساعدة المريض الأول في المرحلة الأولى من التجارب السريرية على إعادة إنتاج خلايا جزيرة البنكرياس المتمايزة تماماً، وهي الخلايا التي تنتج الأنسولين.
بعد نجاح تلك التجربة الرائدة؛ اعتبر العالم ذلك الدواء اختراقاً محتملاً لعلاج مرض السكري من النوع الأول. إذ شكلت التجربة "نقطة تحول" في جهد دام عقوداً لفهم المرض وعلاجه.
بداية طريقة العلاج
بدأت قصة العلاج بالخلايا الجذعية منذ نحو 20 عاماً. في البداية استخدم العلماء في بعض التجارب السريرية الخلايا الجذعية لدم الحبل السري على وجه التحديد، لعلاج مرض السكري. حققت تلك الطريقة نجاحها الأول في عام 2017، لكن لعلاج السكري من النوع الثاني.
جمع الباحثون وحللوا 13 دراسة نُشرت بين عامي 2006 و2016 تضم 342 مريضاً تلقوا خلايا جذعية، مثل تلك الموجودة في دم الحبل السري، و111 آخرين تلقوا خلايا جذعية مثل تلك الموجودة في أنسجة الحبل السري لعلاج مرض السكري لديهم.
وفي حين لم يستجب الجميع للعلاج، لاحظ الباحثون تحسناً في التحكم بالجلوكوز، وتقليل الاعتماد على الأنسولين لمدة تصل إلى أربع سنوات.
الخلايا الجذعية
وأظهرت النتائج وعداً بعلاج مرض السكري من النوع الثاني باستخدام الخلايا الجذعية، إلا أنها لا تزال تترك بعض الأسئلة من دون إجابة، بما في ذلك من هم المرشحون المثاليون، وما هي أفضل طريق لحقن الخلايا، وما هي الجرعة المثلى، وهل هناك حاجة لعمليات نقل الدم المتعددة بعد زرع الخلايا الجذعية.
وفي نفس العام؛ أظهرت تجربة سريرية أجريت في البرازيل، شملت 21 مريضاً بالغاً يعانون مرض السكري من النوع الأول، أن حقن الخلايا الجذعية قد يعالج المرض، على الأقل لسنوات.
ونُشرت النتائج خلال عام 2017 في مجلة "فرونتير إن إميونولوجي"، وأظهرت أن معظم المرضى أصبحوا لا يحتاجون إلى الأنسولين لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة، ولم يضطر مريض واحد إلى استخدام الأنسولين لمدة ثماني سنوات.
كانت الخلايا الجذعية في هذه الدراسة عبارة عن خلايا جذعية مكونة للدم، وهي نفس النوع من الخلايا الجذعية الموجودة في دم الحبل السري، نظراً لأن داء السكري من النوع الأول (غالباً ما يُشار إليه باسم سكري الأطفال) هو مرض مناعي ذاتي يظهر في وقت مبكر من الحياة، ومن السهل معرفة أين يمكن أن تكون نتائج هذه الدراسة مفيدة للأشخاص الذين تم تخزين دم الحبل السري لديهم عند الولادة.
ودم الحبل السري هو أفضل مصدر لهذه الخلايا الجذعية المكونة للدم، بسبب عدم وجود أي طفرات ناتجة عن الشيخوخة.
في الدراسة البرازيلية، استمر مرضى السكري من النوع الأول لمدة تصل إلى 30 شهراً، بعد الحقن بالخلايا الجذعية، بدون أنسولين. ومع ذلك، بعد هذه المدة، بدأت الفوائد في الانخفاض واستأنف معظم المرضى استخدام ذلك الهرمون.
"مصنع الأنسولين"
وتشير تلك النتائج إلى أن آليات إضافية قد تلعب دوراً في الإصابة بمرض السكري من النوع الأول، أو أن الخلفية الجينية قد يكون لها تأثير. ولمواجهة هذا التأثير، تم غرس الخلايا التنظيمية التائية؛ وهي خلايا متخصصة في وقف المناعة، ومنعها من مهاجمة الخلايا الجذعية المزروعة في التجربة الجديدة التي قادها ميلتون.
يقول ميلتون لـ"مجلة هارفارد"، إنه وفريقه بعد عشرين عاماً من البحث؛ توصلوا للطريقة الأمثل التي تجعل جسم المريض قادراً على إنشاء "مصنع الأنسولين" الخاص به.
تختلف خلايا البنكرياس المُصنعة للأنسولين عن معظم خلايا الجسم. فتلك الخلايا لا تستطيع تجديد نفسها.
حين نتبرع بالدم على سبيل المثال؛ يتم تجديده بواسطة خلية الدم الجذعية. فالجسم لديه القدرة على تعويض الدماء المفقودة بإنتاج المزيد منها. يختلف الأمر في الخلايا المنتجة للأنسولين؛ فبمجرد إزالتها أو تلفها، لا يستطيع الجسم تعويضها وبالتالي يفقد الجسم قدرته على إنتاج الأنسولين.
كانت تلك هي المرحلة الأولى في تجربة ميلتون، التي استغرقت نحو 15 عاماً كاملة. ثم جاءت المرحلة الثانية والتي تهدف للإجابة على تساؤل: هل يُمكن استخدام الخلايا الجذعية وجعلها تنتج خلايا "بيتا" البنكرياسية المسؤولة عن إنتاج الأنسولين.
وطيلة 15 عاماً أخرى، نجح علماء الفريق في ابتكار طريقة لحث الخلايا الجذعية على إنتاج خلايا "بيتا".
في تلك الأثناء؛ كان باحثون من "جامعة فلوريدا" يبحثون عن طريقة لمنع الجهاز المناعي من مهاجمة الخلايا الجذعية المحقونة. وجاءت الإجابة من الغدة الزعترية.
تقع تلك الغدة في الجزء العلوي من الصدر؛ وتنتج الخلايا التائية التنظيمية وهي نوع من خلايا الدم البيضاء، التي تساعد على منع استجابات المناعة الذاتية، والتي تحدث عندما يهاجم الجهاز المناعي للشخص نفسه كما هو الحال في مرض السكري.
باستخدام الميكروبيدات، وهي جزيئات بوليميرية مُصنعة، تمكن العلماء في "جامعة فلوريدا" من استنبات 1.26 مليار خلية من الخلايا التائية التنظيمية.
باستخدام الطريقة نفسها؛ حقن ميلتون الخلايا الجذعية والخلايا التائية في جسم المريض، الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه باعتباره أول مريض يُعالج من سكري النوع الأول في التاريخ.
وعززت الخلايا الجذعية من إنتاج خلايا "بيتا" التي تفرز الأنسولين؛ كما منعت الخلايا التائية التنظيمية في الوقت ذاته الجهاز المناعي من مهاجمة خلايا "بيتا" المتوالدة حديثاً.