
قبل نحو 100 عام، أجرت طبيبة الأطفال الأميركية كلارا ديفيس تجربة جريئة، إذ وضعت 15 طفلاً على نظام غذائي يسمح لهم بـ"الاختيار الذاتي" للأطعمة، فكل طفل من مجموعة الاختبار يمكنه تناول ما يريد من 33 نوعاً من الطعام.
بالطبع، لم تكن اختيارات الطعام متشابهة بين الأطفال، لكنهم حافظوا جميعاً على حالة صحية جيدة، ما اعتبرته ديفيس دليلاً على "الحكمة الغذائية" التي ربما تكون مدفوعة بتفكير لا واع في الدماغ.
لكن، هل معنى أن شخصاً ما يرفض تناول البطاطس على سبيل المثال، ويحب البروكلي سببه الأساسي "احتياج" جسده للعناصر الغذائية الموجودة في البروكلي لا البطاطس، حتى وإن كانت البطاطس تحتوي على سعرات حرارية أعلى؟
اختيارات ذكية
الإجابة عن تلك الأسئلة تقدمها دراسة دولية جديدة نشرت نتائجها في دورية "الشهية Appetite" والتي ألقت الضوء على ما يحفز تفضيلات الناس الغذائية.
وقالت الدراسة إن خياراتنا قد تكون أكثر ذكاءً مما كان يعتقد سابقاً، إذ تتأثر تلك الخيارات بالعناصر الغذائية المحددة بدلاً من السعرات الحرارية التي نحتاجها.
وتهدف الدراسة التي قادها باحثون من جامعة بريستول بالمملكة المتحدة، إلى إعادة فحص واختبار وجهة النظر السائدة على نطاق واسع بأن البشر تطوروا لتفضيل الأطعمة الغنية بالطاقة، وأن وجباتنا الغذائية متوازنة ببساطة عن طريق تناول مجموعة متنوعة من الأطعمة المختلفة.
وخلافاً لهذا الاعتقاد، كشفت النتائج التي توصلت إليها الدراسة أن الناس لديهم "حكمة غذائية"داخلية، إذ يتم اختيار الأطعمة جزئياً لتلبية حاجتنا من الفيتامينات والمعادن وتجنب نقص التغذية.
"نتائج مدهشة"
أستاذ علم النفس التجريبي جيف برونستروم، ومؤلف الدراسة التي شارك فيها 128 بالغاً، اعتبر أن النتائج "مهمة للغاية ومدهشة".
وأضاف: "لأول مرة منذ نحو قرن من الزمان أظهرنا أن البشر أكثر تطوراً في خياراتهم الغذائية مما كان يعتقد، ويبدو أنهم يبنون خياراتهم بناءً على مغذيات دقيقة محددة بدلاً من مجرد تناول كل شيء والحصول على ما يحتاجون إليه بشكل افتراضي".
وحين أجرت الطبيبة الأميركية ديفيس تجربتها، تم فحص النتائج لاحقاً، وتعرضت لانتقادات حادة للغاية، لكن تكرار بحث ديفيس لم يكن ممكناً لأن هذا الشكل من التجارب على الأطفال بات يعتبر اليوم غير أخلاقي.
ونتيجة لذلك، إذ مر ما يقرب من قرن منذ أن حاول أي عالم إيجاد دليل على الحكمة التغذوية لدى البشر، وهي الحكمة التي تم إثباتها في مجموعة من الحيوانات كالأغنام والقوارض.
أسلوب جديد
وللتغلب على هذه الحواجز، طور فريق البروفيسور برونستروم، أسلوباً جديداً يتضمن قياس التفضيل من خلال عرض لمجموعات زوجية - كل صورة نوعين - مكونة من الفاكهة والخضروات على أشخاص، بحيث يمكن تحليل خياراتهم دون تعريض صحتهم أو رفاهيتهم للخطر.
وأظهرت الدراسة الأولى أن الناس يفضلون تركيبات غذائية معينة أكثر من غيرها. أي أنه على سبيل المثال، قد يتم اختيار التفاح والموز أكثر بقليل من التفاح وتوت العليق.
وبشكل ملحوظ، يبدو أن هذه التفضيلات يمكن توقعها من خلال كميات المغذيات الدقيقة في ذلك الزوج من الفواكه وما إذا كانت توليفتها توفر توازناً بين المغذيات الدقيقة المختلفة. ولتأكيد ذلك، أجروا تجربة ثانية على أطعمة مختلفة واستبعدوا التفسيرات الأخرى.
ولاستكمال هذه النتائج والتحقق منها، تمت دراسة مجموعات الوجبات في العالم الحقيقي كما ورد في المسح الوطني للنظام الغذائي والتغذية في المملكة المتحدة.
البحث عن المغذيات
وأظهرت هذه البيانات أن الأشخاص يجمعون الوجبات بطريقة تزيد من نسبة التعرض للمغذيات الدقيقة في نظامهم الغذائي.
وعلى وجه التحديد، يبدو أن مكونات الوجبات الشعبية في المملكة المتحدة، على سبيل المثال "السمك والبطاطس" أو "الكاري والأرز" تقدم نطاقاً أوسع من المغذيات الدقيقة مقارنة بمجموعات الوجبات التي يتم تكوينها عشوائياً مثل "البطاطس والكاري".
الدراسة جديرة بالملاحظة أيضاً لأنها تتميز بتعاون غير عادي. فالمؤلف المشارك للبروفيسور برونستروم هو مارك شاتزكر، وهو صحافي ومؤلف وكاتب مقيم في مركز أبحاث النظام الغذائي الحديث وعلم وظائف الأعضاء التابع لجامعة "ييل" الأميركية.
في عام 2018، التقى الاثنان في فلوريدا في الاجتماع السنوي لجمعية دراسة السلوك الإبداعي، حيث ألقى شاتزكر حديثاً عن كتابه "تأثير دوريتو" الذي يفحص كيف تغيرت نكهة الأطعمة الكاملة والأطعمة المصنعة، والآثار المترتبة على الصحة والعافية.
خلافات بين المؤلفين
ومن المثير للاهتمام أن بحث البروفيسور برونستروم ومارك شاتزكر نشأ عن خلاف. وقال برونستروم: "شاهدت مارك وهو يلقي حديثاً رائعاً يتحدى وجهة النظر السائدة بين علماء التغذية السلوكية بأن البشر يبحثون فقط عن السعرات الحرارية في الطعام".
وتابع أن مارك "أشار على سبيل المثال إلى أن النبيذ الفاخر والتوابل النادرة والفطر البري مطلوبة بشدة ولكنها تشكل مصادر ضعيفة للسعرات الحرارية".
وأضاف: "كان كل هذا مثيراً للاهتمام للغاية، لذلك ذهبت لرؤيته وقلت له إن ذلك حديث رائع، لكني أعتقد أنك ربما تكون مخطئاً. هل تريد اختباره؟ كان هذا بمثابة بداية لهذه الرحلة الرائعة، مما يوحي في النهاية أنني كنت مخطئاً".
وقال: "بعيداً عن كونه (مارك) غير مختص إلى حد ما فقد ثبتت صحة وجهة نظره بأن البشر يمتلكون ذكاءً مميزاً عندما يتعلق الأمر باختيار نظام غذائي مغذ".
من جهته، لفت شاتزكر، إلى أن البحث "يطرح أسئلة مهمة، لا سيما في البيئة الغذائية الحديثة".
"على سبيل المثال، هل تعلقنا الثقافي بالأنظمة الغذائية المبتذلة، التي تحد أو تمنع استهلاك أنواع معينة من الأطعمة، يعطل أو يزعج هذا الذكاء الغذائي بطرق لا نفهمها؟ فقد تحول صناعة الأغذية حكمتنا الغذائية ضدنا، وتجعلنا نأكل طعاماً نتجنبه عادة، وبالتالي المساهمة في وباء السمنة"، وفقاً لشاتزكر.




