تراجع فخر البريطانيين بتاريخ بلادهم بشكل حاد خلال العقد الماضي، ويرى البعض في ذلك مؤشراً مشجعاً على أن البلاد تمضي في اتجاه جيد، فيما يلمح آخرون إلى أن هناك إخفاقاً يتطلب التأمل في أسبابه حرصاً على الأجيال المقبلة.
وبين النقيضين مساحة واسعة لروايات "التآمر والتندر" على تاريخ بريطانيا الاستعماري.
وتراجع فخر البريطانيين ببلادهم بنسبة 22% كمحصلة بين عامي 2013 و2023، وطال جميع المجالات بنسب مختلفة، أقلها في الفن والأدب.
ووفقاً لمختصين ومراقبين، فإن الأسباب وراء ذلك داخلية وخارجية، لكنهم رجحوا أن المذنب الأول في "إحباط" البريطانيين بشكل عام هو الساسة في جميع الحقب التاريخية التي عاشتها المملكة المتحدة.
المركز الوطني للبحوث الاجتماعية رصد، في استطلاع حديث، مدى التغير في اعتزاز البريطانيين ببلادهم خلال عقد كامل، إذ أشار إلى أن من ينظرون إلى بريطانيتهم بـ"مدنية"، أكثر فخراً بمنتج بلادهم "الفكري"، أما المتعصبين عرقياً فيحنون إلى تاريخها عندما كانت "إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس".
نسب متباينة
وأوضح استطلاع المركز الوطني، الذي يعرف نفسه بأنه أكبر منصة بحثية اجتماعية مستقلة وغير ربحية في المملكة المتحدة، أن مفهوم "البريطانية" كهوية، تغير خلال السنوات العشر الماضية، نتيجة للتنوع المتزايد في البلاد، كما تراجعت نسبة من يعتبرون مكان الولادة شرطاً لهذه الهوية.
ما زال ما يقرب من ثلثي سكان المملكة المتحدة، أي نحو 64%، يعترفون بالهوية "البريطانية"، وقد انخفضت نسبة الذين يعتقدون أن الولادة في المملكة المتحدة شرطاً للتمتع بهويتها من 74% عام 2013 إلى 55% العام الماضي. وبالمثل تراجعت نسبة من يعتقدون بأهمية وجود أصول بريطانية لتلك الهوية من 51% إلى 39%.
وذكر الاستطلاع أن 68% يمتلكون فهماً "مدنياً" شاملاً للهوية البريطانية، بينما يصف نحو الثلث هويتهم بعبارات عرقية، لكن الغالبية المطلقة (85%) في الفئتين ترى أن من المهم احترام المؤسسات والقوانين في المملكة المتحدة، وهذه النسبة تحديداً لم تتغير في السنوات العشر التي شملها الاستطلاع.
وعلى صعيد القطاعات، قال 64% من البريطانيين، في 2023، إنهم فخورون بتاريخ بلادهم السياسي مقابل 86% في 2013، كذلك يفخر 53% بالديمقراطية في بريطانيا مقارنة بـ69% قبل 10 سنوات، كما يتباهى 44% بإنجازات الدولة الاقتصادية مقابل 57% وفق المقارنة ذاتها، أما في الفكر والرياضة فالأرقام بقيت متقاربة مع 79% يعتزون بالإنتاج الفني، و74% يقدرون النتائج الرياضية.
انتقادات
نائبة الرئيس التنفيذي في "مركز البحوث" جيليان بريور، قالت، في بيان، إن البريطانيين اليوم أصبحوا أكثر شمولاً في مواقفهم تجاه الهوية، ففيما أظهروا تراجعاً واضحاً في فخرهم بتاريخ الدولة السياسي والديمقراطي، لا يزال هناك قدر كبير من الاعتزاز بالإنجازات الثقافية والرياضية للبلاد، و"قد يكون هذا التغيير ناتجاً عن تنوع السكان عرقياً وثقافياً"، على حد تعبيرها.
ولعبت العوامل العمرية والتعليمية والديموغرافية دوراً في نتائج الاستطلاع، فأولئك الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً كانوا أكثر عرضة بمرتين من الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً في الحصول على "مفهوم عرقي" للهوية البريطانية، كما كان أصحاب المؤهلات التعليمية أقل عرضة بمرتين للتعاريف العرقية للهوية.
المؤيدون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام 2016، عبروا في الاستطلاع عن مفاهيم عرقية للهوية البريطانية أكثر بمرتين من الذين صوتوا للبقاء، لكن انتقاداً وجه للمركز في هذا الخصوص، فحواه أن "بريكست" كان للبعض خياراً اقتصادياً لا يرتبط بدوافع الهوية والمواطنة أو العرق إن جاز التعبير.
ثمة من يعتقد أيضاً أن التقرير أغفل موت كثيرين ممن عايشوا الحرب العالمية الثانية خلال السنوات العشر الماضية، وهؤلاء كانوا مفعمين بالفخر تجاه تاريخ بلادهم، إلا أن البروفيسور آلان ليستر، مؤلف كتاب "الحقيقة حول الإمبراطورية: قصص عن الاستعمار البريطاني"، لا يرى في هذا تأثيراً كبيراً على النتائج.
ليستر قال لصحيفة "الجارديان" إن الاستطلاع يعكس تزايد وعي البريطانيين تجاه تاريخهم، فالمملكة المتحدة قدمت للبشرية أموراً رائعة وأخرى ضارة، و"لا بد من التمييز بينها للاعتزاز بما يستحق وعدم إنكار ما كان سيئاً على جميع الأصعدة، كما أنه من الجيد أن نجد أشخاصاً يفتخرون بوليام شكسبير أكثر من غزو العالم".
أسباب خارجية
الصحافية المختصة في الشؤون الاجتماعية في جريدة "الإندبندنت"، هيلن كوفي، كتبت أن الاحتجاجات التي اشتعلت في الولايات المتحدة ودول عدة حول العالم عام 2020 على خلفية سقوط المواطن الأميركي من أصول إفريقية، جورج فلويد، كان لها دوراً كبيراً في الرأي العام البريطاني وقضايا الهوية والمواطنة في المملكة المتحدة.
وترى كوفي أن "حركة السود مهمة" أحدثت تغيراً في المجتمع البريطاني، وساهمت في بلورة الوعي ضد العنصرية، لافتةً إلى "تدمير تماثيل لتجار الرقيق مثل إدوارد كولستون، وشددت الجهات الرسمية إجراءاتها ضد هذه التجارة، كما شهدنا إعادة تسمية شوارع خلدت لسنوات طويلة ذكرى أشخاص عنصريين".
وبحسب الصحفية البريطانية "تراجع الوطنية في مواجهة خطايا الماضي ليس بالأمر السيء، بل يتماشى مع تزايد تنوع الخارطة الديموغرافية والعرقية في المملكة المتحدة"، منوهة إلى أن ميل الناس إلى التقليل من التباهي بتاريخ "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" هو علامة أمل على عكس ما قد يراه البعض.
وتوضح كوفي أن العقد الأخير شهد اهتماماً شعبياً متزايداً بالجوانب الأكثر بشاعة في تاريخ البلاد، والحقيقة التي تقول إن "قدراً كبيراً من قوة المملكة المتحدة وهيمنتها بين القرن الـ17 إلى الـ19 استمدت من الاستعمار، ونهب ثروات البلدان الأخرى، لم تعد سراً يخشاه الناس، بل خطأ يبحثون في خلفياته علناً".
الهوية والتاريخ
وفي حديث مع "الشرق" يدعو المؤرخ البريطاني جون ماكهوجو إلى ضرورة التمييز بين الهوية والتاريخ عند الحديث عن الفخر بالانتماء إلى المملكة المتحدة. فالهوية أياً كانت شروط اكتسابها القانونية هي ارتباط بالمكان والثقافة على جميع المستويات تأخذ التاريخ بالاعتبار، لكنها لا تتوقف عند حقبة معينة، أو تختزل فيها".
ويوضح المؤرخ البريطاني أن أبناء المملكة المتحدة في ظل التنوع العرقي والإثني والثقافي الكبير الذي يتصفون به اليوم، لم يعد تاريخ الإمبراطورية إرثاً مشتركاً بينهم، وهو في ذات الوقت ليس ديناً أو ذنباً أو عاراً يتوارثه من ينتمون لعائلات كانت يوماً جزءاً من حقبة زمنية ارتكبت فيها أخطاء، أو وقعت خلالها تجاوزات.
من جهته، قال الصحافي في جريدة "التليجراف"، فيليب جونسون، إن استطلاع مركز البحوث الاجتماعية يخلط بين الوطنية والقومية، وهذا باعتقاده تعميم يصور دفاع الإنسان عن وطنه على أنه فعل سيء في بعض الأحيان، منوهاً إلى أن "دوائر اليسار دائماً تحاول إقناع الناس عامة بوجود شيء مشين في الانتماء الإنجليزي".
وكتب جونسون أن هذه "الفكرة اليسارية تجدها أكثر في إنجلترا وويلز، وليس بين الاسكتلنديين الذين يفخرون بتاريخ المملكة المتحدة، ولا يجدون ضرراً في الاحتفال بمناسباتها أو حمل علمها في كل مكان"، وهذا من وجهة نظر الصحافي البريطاني، أمر يحتاج إلى التدقيق والبحث، بعد نتائج استطلاع رصد تغيرات 10 سنوات.
المؤامرات و"النكات"
بالنسبة للنائب وزعيم حزب "الإصلاح" نايجل فاراج، تبدو "المؤامرة" أكثر وضوحاً، فالاستطلاع الجديد يعكس "أيديولوجية ماركسية فجة في كرهها المتزايد لبريطانيا"، منوهاً إلى أن الأرقام تشير إلى تراجع الفخر بالمملكة المتحدة بين من تتراوح أعمارهم من 18 إلى 24 عاماً إلى أقل من 40%، وهذا يدعو إلى القلق كثيراً برأيه.
يشير فاراج، في حديث مع إذاعة محلية، إلى أن "هناك محاولة متعمدة لتسميم عقول الأجيال المتعاقبة في المملكة المتحدة، وكأنها البلاد الوحيدة حول العالم التي عرفت العبودية في تاريخها"، رغم أن بريطانيا دفعت "ثمناً باهظاً" لإنهاء هذه الظاهرة، وتمكنت من الاحتفاظ بروابط وعلاقات جيدة مع 56 دولة استعمرتها سابقاً، وفق تعبيره.
حديث زعيم "ريفورم" عن "المؤامرة اليسارية" ضد بلاده تقابله موجة من السخرية والتهكم على تاريخ المملكة المتحدة الاستعماري، تزداد حدة بين البريطانيين منذ سنوات عدة على وسائل التواصل، فتصور الإمبراطورية وكأنها "لص" سطا على كنوز العالم وآثاره، وجمعها في المتاحف الوطنية أو القصور والقلاع الملكية الكثيرة.
صفحات كثيرة على موقع "إكس" وإنستجرام وتيك توك تنشر صوراً لآثار شرقية في المتحف الوطني البريطاني تحت عنوان "لا تسأل من أين لي هذا"، وأخرى صممت لوحات تظهر البريطانيين وهم يحاولون سرقة آثار كبيرة الحجم حول العالم، فتجدهم مثلاً يحاولون إخفاء برج "بيزا" الإيطالي في حقيبة سفر، أو تعرض لتمثال أبو الهول في المتحف ذاته، بينما يحاول اللاعب المصري الشهير محمد صلاح التقاط صورة معه.
التدقيق في ادعاء فاراج أيضاً يستدعي ما كتبته قبل أشهر في صحيفة "التلجراف" الدكتورة كورين فولر، المتخصصة في تاريخ "بريطانيا العظمى" بجامعة ليستر، إذ قالت "إن حكومات لندن المتعاقبة فشلت في تدريس البريطانيين القصص الخفية في التاريخ الاستعماري للإمبراطورية، ودون ذلك لا يمكن مواجهة الماضي".
وشددت فولر على أن كشف المحطات المختلفة في تاريخ المملكة المتحدة لا يعني الطعن فيه ولا انتقاده بصورة سلبية، وإنما التمعن به والحوار حوله بما يمكن الأجيال المقبلة من البناء على إنجازاته والتعامل مع أخطائه، إضافة إلى تعميق علاقات البريطانيين مع بعضهم البعض على أساس الفهم المشترك لتاريخ البلاد التي تجمعهم.