على مر التاريخ، كان للمرشحين المستقلين ومرشحي الأحزاب الثالثة في انتخابات الرئاسة الأميركية تأثير متفاوت، ورغم عدم فوز أي منهم بالرئاسة، إلا أن بعضهم تمكن من تغيير نتائج الانتخابات والتسبب في خسارة مرشح أحد معسكري السياسة الأميركية، الديمقراطي والجمهوري.
وفي انتخابات 2024 المتقاربة للغاية بين المرشح الجمهوري دونالد ترمب والديمقراطية كامالا هاريس، يمثل مرشحو الأحزاب الثالثة تهديداً للديمقراطيين أكثر من الجمهوريين.
ومع تعليق المستقل روبرت إف كينيدي جونيور، حملته الانتخابية، في أغسطس، وإعلان تأييده ترمب، يتبقى 3 مرشحين إضافة لهاريس وترمب، وهم كورنيل ويست الذي بدأ كمرشح عن حزب "الشعب" ثم تحول إلى مستقل، والمرشحة عن حزب "الخضر" جيل ستاين، وتشايس أوليفر مرشح الحزب الليبرتاري.
ولم يتأهل الثلاثة للظهور على بطاقات الاقتراع في الولايات الـ50، إذ لم يحققوا العتبة المطلوبة في كل الولايات، وبدلاً من ذلك، ظهروا في بعضها، إضافة إلى كينيدي، الذي أبقى على اسمه في بطاقات اقتراع بعض الولايات المتأرجحة، حيث يمكنه الإضرار بفرص هاريس في الفوز بالانتخابات.
ويرى أستاذ العلوم السياسية وعضو الأكاديمية الفخرية في جامعة أوهايو بول بيك، أن تأثير جيل ستاين على هذه الانتخابات، سيكون الأكبر، وهي مرشحة للإضرار بفرص كامالا هاريس، وليس ترمب.
وأشار بيك في حديثه مع "الشرق" إلى أنه يمكن للمرشحين من الحزب الثالث أو المستقلين انتزاع ما يكفي من الأصوات من مرشح الحزب الرئيسي لتحديد النتيجة، و"قد تلحق جيل ستاين، تحديداً، ضرراً كبيراً بالديمقراطيين في ولاية مثل ميشيجان إذا قررت مجموعة مثل مؤيدي فلسطين والمسلمين التصويت بشكل احتجاجي لمرشح حزب ثالث، اعتراضاً على دعم إدارة بايدن لإسرائيل".
وجيل ستاين، التي تترشح للرئاسة للمرة الثالثة، يُنسب إليها وإلى المرشح الليبرتاري جاري جونسن، الفضل في فوز ترمب عام 2016 أمام منافسته الديمقراطية حينها هيلاري كلينتون.
أدوار ملموسة
ويوضح دونالد نيمان أستاذ التاريخ السياسي في جامعة "بينجهامتون" في نيويورك والخبير في السياسة الأميركية الحديثة، كيف أضر تواجدهما على التذكرة الانتخابية، قائلاً إنه لو تم توجيه جميع الأصوات التي حصلوا عليها، أو الغالبية العظمى منها لصالح هيلاري كلينتون، لربما فازت في بنسلفانيا وميشيجان وويسكونسن وبالتالي في الانتخابات.
ومع ذلك، تحفّظ نيمان في حديثه مع "الشرق" على تبني تلك الفرضية بصورة كاملة، قائلاً: "من المستحيل معرفة ذلك على وجه الدقة. ربما لا يكون ذلك الافتراض صحيحاً تماماً، فربما كان بعض هؤلاء الناخبين سيصوتون لصالح ترمب، أو لن يصوتوا على الإطلاق".
ويدعم أستاذ الشؤون الحكومية في "جامعة كورنيل" ريتشارد بنسل فرضية نيمان، مشيراً إلى أن جيل ستاين، سحبت أصواتاً من الديمقراطيين في 2016، وربما تسببت في خسارة هيلاري كلينتون لبعض الولايات المهمة، "لكنها لم تكن العامل الرئيسي في خسارتها للانتخابات بشكل عام".
وقال بنسل في حديثه مع "الشرق" إن جاري جونسون، مرشح الحزب الليبرتاري حظي بدعم أكثر تنوعاً، لأن حزبه يملك مواقف تختلف عن الحزبين الكبيرين.
وأوضح أن الحزب الليبرتاري يميل إلى الليبرالية في القضايا الاجتماعية والمحافظة في السياسة الاقتصادية. وبينما من المحتمل أن يصوت معظم الليبرتاريين للجمهوريين إذا اضطروا للاختيار، فإن ترمب لم يكن مفضلًا بشكل كبير بين الليبرتاريين، حتى أنه واجه صيحات استهجان في المؤتمر الوطني لعام 2024 من قبل الليبرتاريين.
كيف يغير مرشح الحزب الثالث نتيجة الانتخابات؟
قبل ستاين وويست وكينيدي وجاري، كان هناك تأثير ملحوظ على نتائج الانتخابات الرئاسية التي شارك فيها مرشحون من الأحزاب الثالثة مثل روس بيرو، ورالف نادر، وجورج والاس.
ولم تقتصر أهميتهم فقط على سحب أصوات من المرشحين الرئيسيين والتأثير على مجرى السباق، لكن أهميتهم الحقيقية كانت في أنهم ساهموا في تغيير مسار النقاشات التقليدية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
ويلفت أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوهايو بول بيك، إلى أنه من خلال طرح قضاياهم الخاصة، أجبر المستقلون، مرشحي الحزبين الرئيسيين على التعامل مع تلك القضايا التي ربما كانت ستُهمل لولا وجودهم في السباق.
وطغت السياسة الخارجية على فترة رئاسة جورج بوش الأب، التي بدأت 1988، وبينما ارتفعت معدلات قبوله في استطلاعات الرأي بعد حرب الخليج، انخفضت خلال السباق الرئاسي أمام منافسه الديمقراطي بيل كلينتون عام 1992، بسبب الأوضاع الداخلية.
وفي تلك الأثناء، ظهر الملياردير روس بيرو، كأبرز المرشحين المستقلين في الانتخابات. وركزت حملة بيرو على حد قول بيك على القضايا الداخلية المأزومة مثل الركود الاقتصادي، واستمرار العجز في الميزانية والدين الوطني، وكان هناك استياء عام من الأوضاع الاقتصادية.
وكان تأثير بيرو قوياً، وأنفق أكثر من مرشحي الحزبين الرئيسيين في الانتخابات، وكان أول مرشح حزب ثالث يقف جنباً إلى جنب مع مرشحي الحزب الرئيسي في المناظرات التلفزيونية، وحصل في استطلاعات الرأي المبكرة على دعم وصل إلى ثلث الناخبين، حتى أن بيك اعتبر أنه بحملته الانتخابية كلّف بوش إعادة انتخابه.
تقسيم الأصوات
وأضاف: "قدَّر أن الأصوات التي ذهبت إلى بيرو كانت حوالي 20% من الناخبين، ما ساعد في تقسيم أصوات الجمهوريين وأدى إلى فوز الديمقراطي بيل كلينتون، بعد أن تبلور النقاش حول القضايا الاقتصادية ومعالجتها".
أما جورج والاس، وتحت شعار "القانون والنظام" فقد خاض حملته الرئاسية عام 1968 عن الحزب الأميركي المستقل، وهو تحالف غير رسمي من الديمقراطيين الجنوبيين الساخطين والمؤيدين للفصل العنصري. وركزت حملته على معارضة الحقوق المدنية للأميركيين الأفارقة والفصل العنصري.
وكانت حملة والاس ذات جاذبية للولايات الجنوبية المعارضة للحقوق المدنية للأفارقة، فحصل على 13.5% من الأصوات الشعبية وفاز بـ5 ولايات جنوبية و46 صوتاً انتخابياً، على عكس بيرو الذي لم يحصل على أي صوت في المجمع الانتخابي.
ورغم أن والاس لم يفز بالرئاسة، إلا أن الأصوات التي ذهبت له، أثرت على الانتخابات بشكل كبير، إذ ساهم في فوز الجمهوري ريتشارد نيكسون على الديمقراطي هيوبرت همفري، من خلال سحب أصوات في الجنوب كانت عادةً تذهب لصالح الديمقراطيين.
ورغم قوة والاس وبيرو وتأثيرهما الملحوظ، فإن نيمان شدد على أن رالف نادر، هو المرشح الوحيد من الحزب الثالث، على مدى التاريخ، الذي ربما حسم السباق الرئاسي، وحدث ذلك في انتخابات 2000.
وكانت الانتخابات متقاربة للغاية، بين الديمقراطي آل جور والجمهوري جورج دبليو بوش، وانتهت بفوز بوش في ولاية فلوريدا، بعد العديد من عمليات إعادة الفرز والطعون القانونية، وكان رالف نادر مرشحاً عن حزب الخضر، وحصل على 97 ألف و488 صوتاً في فلوريدا.
وفاز رالف نادر بأقل من 3% من الأصوات على المستوى الوطني، لكن نيمان قال إنه ربما أحدث الفارق في فلوريدا، والتي حُسمت بأقل من 600 صوت لبوش، خاصة أن الحزب الخضر يتسم بالطابع التقدمي، فمن المحتمل أن العديد من مؤيديه كانوا سيفضلون التصويت لآل جور.
ورجح أستاذ التاريخ السياسي في جامعة "بينجهامتون" دونالد نيمان أن هذا هو نوع السيناريو الذي قد يحدث هذا الخريف، وقال إن مرشح حزب ثالث قد يغير النتيجة في ولاية حيث الفارق بين ترمب وهاريس ضئيل حقاً.
ولأن النتيجة ستكون متقاربة للغاية، لذا فإن بضعة آلاف من الأصوات قد تحدث فارقاً في ولاية متأرجحة أو اثنتين أو ثلاث، ما يصعب من معرفة من سيفوز.
روزفلت يتفوق على مرشح الحزب الرئيسي
منذ بداية الحرب الأهلية الأميركية، حصل مرشح واحد من حزب ثالث على أصوات تجاوزت أحد مرشحي الحزبين الرئيسيين، وهو الرئيس الأسبق ثيودور روزفلت.
وبعد أن خسر روزفلت ترشيح الحزب الجمهوري لصالح إعادة انتخاب وليام هوارد تافت، قرر الرئيس الأسبق الترشح كمرشح للحزب "التقدمي"، وهو الحزب الذي أسسه روزفلت في 1912 لخوض الانتخابات أمام تافت وويلسون.
وكان روزفلت رئيساً من 1901 إلى 1909، وشعر بالإحباط من سياسات تافت المحافظة بعد أن خلفه في الرئاسة. نتيجة لذلك، قرر الترشح مرة أخرى، لكنه لم يتمكن من الفوز بترشيح الحزب الجمهوري.
وحصل روزفلت على 27% من الأصوات، وحلّ في المركز الثاني، متفوقاً على تافت، ولكن خسر كلاهما أمام المرشح الديمقراطي وودرو ويلسون.
وساهم ترشح روزفلت في تقسيم أصوات الجمهوريين بينه وبين تافت، ما أتاح لوودرو ويلسون الفرصة للفوز بالانتخابات.
لماذا لا يفوز مرشحو الأحزاب الثالثة؟
لم يفز مرشح حزب ثالث أو مستقل بالرئاسة، إلا أن المستقلين ومرشحي الأحزاب الثالثة فازوا في انتخابات الكونجرس وانتخابات الولايات.
وطوال حياته السياسية، ترشح السيناتور بيرني ساندرز في انتخابات مجلسي النواب والشيوخ كمستقل، رغم تعاونه الوثيق مع الحزب الديمقراطي، وفاز بمقعده في مجلس النواب من 1991 حتى 2007. ثم عاد وفاز كمستقل عن ولاية فيرمونت في مجلس الشيوخ منذ عام 2007.
وهناك أيضاً أنجوس كينج، الذي ترشح كمستقل في ولاية مين. وفاز كينج بمقعده في مجلس الشيوخ الأميركي كمرشح مستقل في انتخابات 2012، وأعيد انتخابه في 2018.
وعلى الرغم من كونه مستقلاً، فهو يميل إلى التصويت مع الديمقراطيين ويعمل ضمن الكتلة الديمقراطية في مجلس الشيوخ. وفي انتخابات حكام الولايات أيضاً، وفاز كينج بمنصب حاكم ولاية مين، من 1995 إلى 2003 كمستقل كذلك.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة عندما يتعلق الأمر بانتخابات الرئاسة على حد قول بنسل. وأرجع بنسل ذلك إلى أن مؤيدي المرشحين الرئاسيين يميلون في نهاية المطاف إلى التحول إلى مرشح يمكنه الفوز فعلياً في الانتخابات الرئاسية، ويوضح: "يميل المرشحون من الأحزاب الثالثة إلى التأثير على الانتخابات أكثر من الفوز بها".
وفي سبيل ذلك، يحاول مرشحو الأحزاب الرئيسية إقناع الأصوات المحتملة للأحزاب الصغيرة بأنهم يهدرون أصواتهم، على حد قول بيك. لافتاً إلى أنه في الانتخابات السابقة، حصل مرشحو الأحزاب الصغيرة على دعم من الناخبين قبل الانتخابات أكثر مما حصلوا عليه في النهاية، حيث قرر الناخبون أنهم لا يريدون إهدار أصواتهم على شخص لا يستطيع الفوز.
سبب آخر، يطرحه بيك لتفسير عدم فوز مرشح الحزب الثالث، هو أن الانتماء الحزبي كبير وقوي في الولايات المتحدة، ويقول: "الانتماء إلى الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي غالباً ما يكون أقوى من أي ارتباط مع مرشح من حزب ثالث أو مستقل على مستوى الانتخابات الرئاسية، وهو أكبر مؤشر هنا لتحديد هوية الأفراد".
هاريس وترمب ومرشحو الأحزاب الثالثة
في عام 1980، وكوسيلة لجذب الناخبين الذين كانوا يشعرون بالإحباط من الخيارات التقليدية بين المرشحين الرئيسيين، أنشأ عضو الكونجرس الجمهوري عن ولاية إلينوي، جون أندرسون حزب الوحدة الوطنية للترشح للرئاسة بعد الفشل في الفوز بترشيح الحزب الجمهوري.
ووصف دونالد نيمان الخبير في السياسة الأميركية الحديثة أندرسون بأنه كان مرشحاً قوياً، عمل على اجتذاب الناخبين المعتدلين غير الراضين عن الرئيس جيمي كارتر والجمهوري رونالد ريجان، حينها.
ورغم حملته الجيدة، التي ركزت على قضايا مثل الإصلاح الاقتصادي، والحقوق المدنية، والسياسة الخارجية، ومبادئ حزبه التي اعتمدت الاعتدال والوسطية، فإنه لم يتمكن من الفوز بأي أصوات انتخابية. وحصل أندرسون على 6.6% من الأصوات الشعبية.
المفارقة، هي أن ترشح أندرسون أثار اهتماماً كبيراً حينها، وقال 20% من الناخبين المسجلين إنهم سيصوتون له. وربما أثار ذلك حفيظة المرشحين الرئيسيين، حيث اختفى أندرسون عن الأنظار أثناء مؤتمري الحزبين الديمقراطي والجمهوري في ذلك الصيف.
ورفض الرئيس الديمقراطي آنذاك جيمي كارتر أن يشاركه منصة المناظرة، رغم أن المرشح الجمهوري رونالد ريجان ناقش أندرسون وجهاً لوجه على مضض.
وذكر أستاذ الشؤون الحكومية في "جامعة كورنيل" ريتشارد بنسل، أن الأحزاب الكبرى في بعض الأحيان، تحاول مساعدة الأحزاب الثالثة في التواجد على بطاقة الاقتراع إذا اعتقدوا أن ذلك سيلحق الضرر بالمنافس الرئيسي، لكن في كثير من الأحيان يحاولون منع تلك الأحزاب من الظهور إذا كان ذلك قد يضر بمرشحهم.
تجاهل مرشحي الأحزاب الثالثة
وأوضح بنسل أن كلا الحزبين يتعاملان بقدر من التهكم عندما يتعلق الأمر بنظريتهم حول الخيار الديمقراطي، ويوضح: "بالإضافة إلى ذلك، يحاول كلا الحزبين تجاهل مرشحي الأطراف الثالثة في خطاباتهم ومواقفهم السياسية، لأن ذلك سيزيد من حضور هذه الأحزاب".
ويدعم كلام بنسل ما فعله ترمب خلال تجمع انتخابي في ولاية فيلادلفيا في يونيو الماضي، لدعم مرشحي الأحزاب الأخرى، لاعتقاده أنهم سيلحقون ضرراً بمنافسته هاريس.
وأشار ترمب إلى تأثير المرشحين المستقلين على سحب الأصوات من الديمقراطيين قائلاً: "كورنيل ويست هو واحد من مرشحي المفضلين. وأنا معجب بجيل ستاين أيضاً. هل تعرفون السبب؟ لأنهم يأخذون 100% من أصواتهم".
ومع ذلك، يرى نيمان أن المرشحين لا يهتمون كثيراً بمرشحي الأحزاب الثالثة مثل جيل ستاين، لأنهم لا يشكلون تهديداً كبيراً. وقال أستاذ التاريخ السياسي في جامعة "بينجهامتون" في نيويورك، إن ترمب يحاول تثبيت قاعدته الانتخابية وجذب الناخبين المسلمين إلى جيل ستاين، لكنه لا يستطيع التأثير كثيراً على هذا الاتجاه.
وفي المقابل، تركز هاريس على الحفاظ على موقف متوازن من قضية غزة، بحيث تحاول إرضاء مجموعة متنوعة من الناخبين. لافتاً إلى أن الاستراتيجية الأساسية لترمب هي مهاجمة هاريس وإبراز صورتها سلبياً، بينما هاريس تعمل على حشد قاعدتها وتعزيز صورتها الإيجابية، مع تذكير الناس بعدم استقرار ترمب وتماسكه.