يخيّم على الدوائر السياسية في الولايات المتحدة، خوف متصاعد من الإقبال المنخفض على التصويت في انتخابات الرئاسة 2024، خاصة مع تقارب السباق بين الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترمب، والديمقراطية نائبة الرئيس كامالا هاريس، ما يجعل كل صوت ضروري لحسم النتيجة.
وتعد الولايات المتحدة من بين الدول التي تشهد مستويات منخفضة في إقبال التصويت على الانتخابات، وهو اتجاه قديم ومعتاد، حتى أن مركز "بيو" للأبحاث وضع الولايات المتحدة، في الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2020، في المرتبة 31 من بين 50 دولة من حيث نسبة المشاركة في الانتخابات على أساس عدد السكان المؤهلين للتصويت.
ومع ذلك، كانت الانتخابات الأميركية (التجديد النصفي) التي جرت في أعوام 2018 و2020 و2022 من بين الأعلى مشاركة منذ عقود، فقد شارك حوالي ثلثي 66% من السكان المؤهلين للتصويت في الانتخابات الرئاسية لعام 2020 وهو أعلى معدل لأي انتخابات أميركية منذ عام 1900.
وعلى الرغم من ارتفاع نسب الإقبال في الانتخابات في السنوات الأخيرة، تبقى الولايات المتحدة متأخرة عن العديد من نظيراتها في العالم المتقدم في نسبة إقبال المصوتين، كما تتفاوت بشكل ملحوظ نسبة المشاركة في التصويت بين المواطنين المؤهلين، وبين الناخبين المسجلين.
وفي انتخابات عام 2020، كان هناك حوالي 239 مليون شخص مؤهل للتصويت، من بين هؤلاء المؤهلين، شارك حوالي 159 مليون شخص أي 62.8% من جميع المواطنين المؤهلين للتصويت، بينما بلغت نسبة المشاركين من الناخبين المسجلين 94.1%.
وتعني هذه الأرقام أن الأشخاص الذين سجلوا أنفسهم للتصويت كانوا أكثر التزاماً بالمشاركة مقارنةً بعدد المؤهلين بشكل عام.
ما سبب ضعف الإقبال؟
تختلف معدلات الإقبال في الانتخابات الأميركية بشكل كبير، حيث تكون الانتخابات الرئاسية ذات نسبة مشاركة أعلى من غيرها، بينما عادةً ما تكون الانتخابات المحلية، مثل انتخابات رؤساء البلديات والمكاتب البلدية، الأقل في الإقبال.
وفي الانتخابات الرئاسية لعام 2012، لم يدل سوى 55% من السكان في سن التصويت بأصواتهم، وفي الانتخابات النصفية التي سبقتها، كانت نسبة الإقبال على التصويت حوالي 41.8%، وهي ضمن المعدلات المعتادة للانتخابات النصفية، التي غالباً ما تكون أقل من نسب المشاركة في الانتخابات الرئاسية، كما قالت الباحثة السياسية مادلين كونداي لـ "الشرق".
وبينما تلفت كونداي إلى أن عملية التصويت، خصوصاً في المناطق الريفية، تتطلب جهداً كبيراً، حيث كان يتعين على الناخبين في كثير من الأحيان السفر مسافات طويلة للوصول إلى مراكز الاقتراع، إضافة إلى تحمل تكاليف الإقامة والطعام، والجهد والتكاليف المرتبطة بالعملية، قد دفعت بعض المصوتين إلى البقاء في منازلهم وعدم التصويت يوم الانتخابات.
فيما أوضح الباحث السياسي زاك مكيري في حديثه لـ"الشرق"، أنه لا يوجد تفسير واحد لأسباب انخفاض نسبة المشاركة.
وقال مكيري إن الانخفاض في الإقبال يعكس إما مستوى عام من الرضا عن الوضع الراهن، بحيث لا يشعر الناس بالحاجة الملحة لإحداث تغييرات كبيرة، أو يمكن أن يكون علامة على الإحباط من النظام والشعور بعدم وجود أي من المرشحين القادرين على تلبية تطلعاتهم أو عدم الثقة في النظام السياسي.
عملية تسجيل معقدة
لكن أستاذ الإدارة السياسية ومدير الأبحاث في مركز الإدارة السياسية بجامعة جورج واشنطن، مايكل كورنفيلد، رجّح أن السبب الرئيسي في عزوف الأميركيين عن التصويت هو "عملية التسجيل المعقدة".
وعلى عكس الكثير من البلدان التي يتم فيها تسجيل الناخبين تلقائياً، يتطلب النظام الأميركي أن يقوم المواطنون أنفسهم بالتسجيل للتصويت، ما يعني اتخاذ خطوات إضافية للتسجيل وبذل جهد ذاتي أكبر.
وأوضح كورنفيلد في حديثه مع "الشرق"، أن هذا النظام "يفرض على الأميركيين أن يسجلوا قبل التصويت، وهذا يضيف خطوة أخرى إلى العملية، وبعضهم لا يهتم بها".
ولفت إلى أنه من أجل التصويت "يجب على المواطنين أن يأخذوا وقتاً من جداولهم المزدحمة في أيام الأسبوع للذهاب إلى صناديق الاقتراع، كما يتطلب ذلك منهم استثمار وقتهم وطاقتهم في التعرف على المرشحين والقضايا واتخاذ القرار، وهو أمر غير مهم بالنسبة للبعض".
كيف تحول الشباب إلى ناخبين غير اعتياديين؟
"لا يبالي معظم الأميركيين بالسياسة"، جملة تنميطية تؤكدها بيانات مركز "بيو" للأبحاث، التي توضح أن 65% من الأميركيين يشعرون بالإرهاق عندما يفكرون في السياسة، وأن هناك نسبة متزايدة من الأميركيين الذين لا يفضلون كلا الحزبين السياسيين الديمقراطي والجمهوري، ولا عمل الحكومة ولا المرشحين السياسيين بشكل عام.
ومع ذلك، فإن معدلات المشاركة في التصويت في الولايات المتحدة تختلف بشكل ملحوظ بين مختلف المجموعات السكانية، فبعض الفئات مثل كبار السن يميلون إلى التصويت بمعدل أعلى مقارنة بالشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً.
ورغم أن الولايات المتحدة، ليست الدولة الوحيدة التي تشهد تفاوتاً كبيراً في نسب التصويت بين الشباب والإقبال العام على التصويت، فإن أدائها سيئ للغاية، حيث تحتل المرتبة الخامسة من حيث أدنى نسبة إقبال بين الشباب في 20 دولة.
وقامت صحيفة "نيويورك تايمز" بدراسة نسب المشاركة في الانتخابات العامة لاختيار رؤساء الحكومات فيها عام 2016، واحتلت الولايات المتحدة فيها المرتبة الرابعة من حيث أكبر فجوة بين الشباب والإقبال العام على التصويت.
ويفسر مكيري ذلك بأن الشباب أقل احتمالاً للزواج، وتكوين أسرة، وامتلاك ممتلكات، أو أن يكون لهم جذور عميقة في مجتمعهم كما هو الحال مع الناخبين الأكبر سناً، على عكس كبار السن الذين يمتلكون منازل ولديهم أسر، وبالتالي يصبح التصويت ضرورة وأساسي لهم لخدمة مصالحهم.
وذكر مكيري أن عادة التصويت، غالباً ما تتشكل لدى الأفراد بمرور الزمن، وقد يعود ذلك إلى عدم حصول الشباب على الفرص الكافية لتطوير وتعزيز هذه العادة، موضحاً أن هذا النقص في الفرص قد يؤدي إلى استمرار الشباب في عدم ممارسة حقهم في التصويت بشكل متكرر، ما يجعلهم ينضمون إلى فئة "الناخبين غير المعتادين".
ومع مرور الوقت، وبالتجربة والتكرار، يمكن أن يتحول الأفراد من كونهم غير ناشطين في التصويت إلى أن يصبحوا من الناخبين المنتظمين، هذه العملية تتطلب تكوين علاقة إيجابية مع العملية الانتخابية، مما يعزز الثقة في أن صوتهم يمكن أن يحدث فرقاً.
فيما لفت كورنفيلد إلى أن الشباب يميل، بشكل خاص، إلى "عدم التسجيل أو إعادة التسجيل عند انتقالهم من مكان لآخر، وهو ما يفعلونه بشكل أكثر تكراراً من المواطنين الأكبر سناً، إذا انتقل الناخبون، فيجب عليهم تحديث تسجيلهم بأنفسهم، ولا يتم نقله تلقائياً. والشباب أكثر انتقالاً من كبار السن من ولاية إلى أخرى".
حل قانوني غير واقعي
وفي العام 2002، أقر الكونجرس الأميركي قانون مساعدة أميركا على التصويت (HAVA)، وتم تصميم ذلك القانون بالأساس لتحفيز وتحسين المشاركة في التصويت المبكر بهدف زيادة معدلات الإقبال المنخفضة التي كانت تقليدياً جزءاً من المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة.
ويهدف القانون إلى إزالة بعض العوائق من أمام الناخبين، مثل تسهيل الوصول إلى التصويت للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وتحسين البنية التحتية الخاصة بأنظمة التصويت وتحديد معايير لتحديد هوية الناخبين لأول مرة من أجل ضمان أمن الانتخابات.
وعلى الرغم من أن القوانين المتعلقة بالتصويت المبكر سهلت على الناخبين التصويت، فإن كورنفيلد جادل في أن الأمر على أرض الواقع لم يتغير، قائلاً: "لم يكن هناك تغيير كبير في المشاركة في التصويت، خاصة مع اقتناع بعض الناخبين أنه لا توجد فوائد حتى ولو قليلة للتصويت، ولكن العديد من التكاليف المرتبطة بالجهد المبذول المتعلق به".
وأيّد مكيري ما قاله كورنفيلد، في أن التسهيلات التي أتاحتها القوانين لم تؤثر بشكل كبير على نسب الإقبال، قائلاً: "مع ذلك، كانت 5 من آخر 6 انتخابات رئاسية أميركية متقاربة للغاية، وحُسمت بنسبة صغيرة نسبياً من الناخبين، لذلك حتى التغيير الطفيف في معدل المشاركة يمكن أن يكون له تأثير كبير على الفائز النهائي".
تأثير الإقبال المنخفض
في انتخابات 2016، فازت هيلاري كلينتون بالتصويت الشعبي، ومع ذلك، كان الإقبال الضعيف في صفوف الديمقراطيين، تحديداً، سبباً في خسارتها للرئاسة.
ولم تكن نسبة المشاركة في انتخابات 2016، أفضل كثيراً من المتوقع بالنسبة لدونالد ترمب، أيضاً، لكن ضعف الإقبال تحديداً بين الناخبين من أصول إفريقية، الذين يصوتون تقليدياً للديمقراطيين، أضرّ بكلينتون.
وفي السياق، أشار أستاذ التاريخ السياسي بجامعة ويسكونسن، جوناثن كاسباريك في حديثه مع "الشرق" إلى أن ترمب "فاز على هيلاري كلينتون عام 2016 بنحو 20 ألف صوت مع نسبة إقبال منخفضة نسبياً، ثم خسر من جو بايدن، بهامش مماثل في عام 2020".
وأوضح أن النجاح يتوقف على عاملين: شعبية المرشح، والإقبال على التصويت، مضيفاً أن الديمقراطيين "يفوزون عموماً عندما يكون هناك إقبال كبير على التصويت، وخاصة إذا كان الناخبون الديمقراطيون مدفوعين بقضايا مهمة. لذا الإقبال يكون عاملاً رئيسياً في نتيجة الانتخابات وخسارة مرشح أو فوز مرشح آخر".
لكن مكيري يتحفظ على تلك الفرضية، ويجادل بأن بالنسبة لمعظم التاريخ السياسي الأميركي الحديث، كان الافتراض هو أن نسبة المشاركة الأعلى تساعد المرشحين الديمقراطيين، لأن المجموعات ذات نسبة المشاركة المنخفضة مثل الناخبين الأصغر سناً والناخبين الملونين تميل إلى التصويت للديمقراطيين أكثر من الجمهوريين.
ووصف مكيري "هذه الرياضيات بإمكانية أن تكون مختلفة في الوقت الحالي"، مفسراً ذلك بأن دونالد ترمب قد بنى، بالفعل، قاعدة تأييد أقوى بين الناخبين من ذوي الدخل المنخفض، الذين لديهم عادةً معدل مشاركة أقل، في حين يحقق الديمقراطيون أداءً أفضل مع الناخبين المتعلمين الذين لديهم معدل مشاركة أعلى.
وبناءً على ذلك، فمن الممكن أن تساعد نسبة المشاركة المرتفعة جداً ترمب أكثر من الديمقراطيين، لكن الكثير يعتمد على معدل المشاركة بين المجموعات الديموغرافية المختلفة، ومن الصعب أن نكون حاسمين للغاية.