تواجه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، تحدياً كبيراً في ولايتها الثانية، تتمثل تهدئة غضب الرئيس الأميركي المُنتخَب دونالد ترمب، تجاه الاتحاد الأوروبي.
وتسعى فون دير لاين إلى إيجاد أرضية مشتركة مع الإدارة الأميركية القادمة لتفادي الصدام بشأن بعض القضايا الحساسة، مثل التجارة، ودعم أوكرانيا، والأمن الإقليمي.
وذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، أن ترمب معروف بتصريحاته المثيرة للجدل، وميوله للتصرفات غير المُتوقَعة، إلا أن فون دير لاين تتبنى نهجاً سياسياً مختلفاً بشكل كامل.
وتوقعت الصحيفة، في تقرير نشرته الأحد، أن تعتمد العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا في الفترة المقبلة، جزئياً على ما إذا كانت رئيسة المفوضية الأوروبية ستكون قادرة على تهدئة غضب ترمب تجاه الكتلة.
ترمب.. هجوم دائم على أوروبا
ولطالما هاجم ترمب الاتحاد الأوروبي، ففي عام 2018، وصفه بأنه "عدو رئيسي" للولايات المتحدة، واتهمه بـ "استغلال أميركا في التجارة بينما يعتمد على واشنطن في دفاعه"، كما أنه يهدد الآن بفرض تعريفات جمركية على أوروبا، وتقليص الدعم لأوكرانيا، وكذلك دور الولايات المتحدة في الأمن الإقليمي.
وبينما يستعد ترمب للعودة إلى البيت الأبيض، بدأت فون دير لاين، الأحد، فترة ولايتها الثانية التي تستمر 5 سنوات على رأس الهيئة التنفيذية للاتحاد الأوروبي، وأمضت وقتاً كافياً في المنصب أثناء فترة رئاسة ترمب الأولى، وتعلم فريقها العديد من الدروس في تلك الفترة، بما في ذلك "توقُع غير المُتوقَع" و"تحديد المصالح المشتركة"، بحسب الصحيفة.
وفي العام الأول لفون دير لاين في منصبها، والذي كان العام الأخير في ولاية ترمب الأولى، توصل الاتحاد الأوروبي إلى اتفاقية تجارية تقلل من التعريفات الجمركية مع إدارة الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، كما بدأ حواراً مشتركاً بشأن الصين، التي ينظر إليها الزعيمان على أنها "تهديد محتمل".
محاولات لتجنب الصدام
وأشارت الصحيفة إلى أن فون دير لاين، وزيرة الدفاع الألمانية السابقة، والبالغة من العمر 66 عاماً، والتي كان يُنظر إليها ذات يوم باعتبارها الخليفة المحتملة للمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، دائماً ما تلتزم بالرسائل المنضبطة، كما أن سيطرتها المُنظَمة والمُحكَمة على البيروقراطية في بروكسل لا تشير إلى احتمالية وجود أي شكل من أشكال الفوضى، حتى أنها جهزت أماكن للنوم في مكتبها في المفوضية الأوروبية حتى تستطيع العمل على مدار الساعة.
وباعتبارها حليفة وثيقة للرئيس الأميركي جو بايدن، أغضبت فون دير لاين بعض العواصم الأوروبية بتجنبها الدخول في مواجهات مع واشنطن في السنوات الأخيرة، كما شددت على أنه من مصلحة أوروبا الحيوية أن تبني علاقة بنَاءة مع إدارة ترمب القادمة، وتجنب الصدامات المحتملة بشأن التجارة، ومصير أوكرانيا، وأمن القارة.
من جانبهم أكد قادة الاتحاد الأوروبي، بعد المكالمات التي أجروها مع ترمب في فترة ما بعد الانتخابات، على أنهم سيبحثون بشكل استباقي عن مجالات للتعاون مع واشنطن، لكنهم في نفس الوقت يضعون خططاً للدفاع عن مصالحهم أيضاً.
تحليل اقتراحات ترمب
وعمل فريق من الاتحاد الأوروبي جرى تشكيله منذ الصيف الماضي، على تحليل اقتراحات ترمب ووضع تدابير مضادة وحوافز محتملة لتجنب الصدام، وركزت المناقشات الأولية للفريق على التجارة والتعريفات الجمركية، بحسب الصحيفة.
ودرست المفوضية الأوروبي، داخلياً، بعض الخيارات لزيادة الواردات من السلع الأميركية وتقليص الفائض التجاري للاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة، واقترحت فون دير لاين مؤخراً شراء المزيد من الغاز الطبيعي المُسَال الأميركي ليحل محل الغاز الروسي الذي لا تزال بعض البلدان تستخدمه، وضاعف الاتحاد الأوروبي وارداته من الغاز الطبيعي المُسَال الأميركي 3 مرات تقريباً منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين ودبلوماسيين لم تسمهم قولهم إن الاتحاد الأوروبي ربما يفكر أيضاً في شراء المزيد من المنتجات الزراعية والدفاعية الأميركية.
وقالت "وول ستريت جورنال" إنه في حال فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية، فإن المفوضية الأوروبية ستستهدف القطاعات والدوائر الانتخابية الأميركية الحساسة بتعريفات جمركية مضادة، كما فعلت بعد أن فرضت إدارة ترمب الأولى تعريفات جمركية على الصلب والألمونيوم الوارد من الكتلة في عام 2018، ففي ذلك الوقت، تراوحت أهداف الاتحاد من المشروبات الكحولية إلى دراجات "هارلي ديفيدسون" النارية وعصير البرتقال.
الصحيفة أشارت إلى أن أهداف الكتلة الآن باتت أوسع، ونقلت عن مسؤولين أوروبيين قولهم إن بناء علاقة عملية مع الإدارة الأميركية الجديدة يتطلب مجموعة من التدابير التي تتجاوز مجال التجارة، مثل تحمل المزيد من العبء المالي لدعم أوكرانيا وزيادة الإنفاق العسكري، بما في ذلك على المعدات العسكرية الأميركية.
زيادة الإنفاق العسكري
وقالت فون دير لاين، الأربعاء: "تنفق روسيا ما يصل إلى 9% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، فيما تنفق أوروبا في المتوسط 1.9%، ولذا فإنه يجب زيادة إنفاقنا العسكري".
وتعمل رئيسة المفوضية الأوروبية على إعداد خطة دفاع أوروبية جديدة ربما تضخ مليارات اليوروهات في مجال الصناعة في الكتلة ومشروعات الدفاع المشتركة، لكن الحكومات الأوروبية، وليس الاتحاد نفسه، هي التي تدير الميزانية المُخصَصة لأوكرانيا والدفاع، وبالتالي فإن بروكسل لا يمكنها سوى دفع الكتلة نحو تلبية توقعات ترمب.
وتعهد الاتحاد الأوروبي بالفعل بتقديم ما يصل إلى 35 مليار يورو، أو 37 مليار دولار أميركي، لصالح قرض مجموعة الدول السبع لأوكرانيا، كما لا يزال لديه معظم حزمة دعم ميزانية كييف، البالغة 50 مليار يورو، لإنفاقها.
أما في مجال الدفاع، حقق ثلثا أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الآن الهدف المطلوب وهو إنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وفي وقت سابق من الأسبوع الماضي، قال مستشار الأمن القومي الأميركي القادم مايك والتز لشبكة CNBC إن 2% هو "الحد الأدنى".
وحذرت الصحيفة من أن دفع الأهداف إلى مستويات أعلى ربما يتسبب في خلق مشكلات عميقة لدى بعض الحكومات الأوروبية، التي قالت إنها "تواجه مزيجاً ساماً من عدم الاستقرار السياسي، والنمو الضعيف، والديون المرتفعة".
وأوضح ترمب أنه يريد استخدام التعريفات الجمركية لتغيير مستويات تدفقات التجارة وضمان الحصول على تنازلات من الحكومات المعنية، والاثنين الماضي، أعلن عزمه فرض رسوم جمركية باهظة على كندا والمكسيك حتى تتم معالجة تدفقات المهاجرين والمخدرات عبر الحدود.
ونقلت الصحيفة عن المسؤولة التجارية الأعلى في الاتحاد الأوروبي، سابين فياند، قولها إن "المسؤولين يواصلون تحليل جميع التحركات التجارية المحتملة من قبل فريق ترمب".
وأضافت: "هدف الكتلة هو التعاون، لكننا مستعدين أيضاً للسيناريوهات التخريبية".
وقال بعض الدبلوماسيين والمسؤولين في أوروبا إن الكتلة ربما تحاول التأثير على واشنطن من خلال عرض التعاون معها في نهج مشترك تجاه الصين، إذ يتقاسم الاتحاد الأوروبي وفريق ترمب القادم، المخاوف بشأن بكين، بما في ذلك تصدير السلع عالية التقنية إلى الصين والمستويات المرتفعة من الصادرات الصينية الرخيصة التي يقول المسؤولون إنها تغمر الأسواق في أميركا الشمالية وأوروبا.
لكن فون دير لاين أثارت غضب أوروبا، وبرلين على وجه الخصوص، بسبب موقفها تجاه الصين والذي يبدو أكثر توافقاً مع واشنطن، ففي خطاب رئيسي عن الصين في عام 2023، قالت إن "الهدف الواضح للزعيم الصيني شي جين بينج هو إجراء تغيير منهجي للنظام الدولي مع وضع بكين في مركزه".
ولكن الاتحاد الأوروبي اتخذ أشد تدابيره التجارية الأخيرة ضد بكين أثناء فترة ولاية فون دير لاين، على الرغم من معارضة ألمانيا، إذ تم فرض رسوم جمركية إضافية تصل إلى 35% على السيارات الكهربائية المُصنَعة في الصين.
إلا أن الاتحاد الأوروبي لا يزال ملتزماً إلى حد كبير بقواعد التجارة العالمية، وتعتمد بعض أكبر اقتصاداته على العلاقات العميقة مع بكين، إذ تخشى الدول الأعضاء أن تتحمل الشركات الأوروبية جزءاً من تكاليف التعريفات الجمركية الأميركية على الصين لأن بكين ربما تعيد توجيه المزيد من صادراتها إلى أوروبا.
كما أن اللوائح الرقمية للكتلة ربما تتسبب أيضاً في حدوث خلافات، خاصة أن ترمب انتقد بالفعل جهود الاتحاد الأوروبي لمراقبة شركات التكنولوجيا الأميركية.
واتهم الاتحاد الأوروبي، هذا العام، شركتي "آبل" و"ميتا" الأميركيتين بانتهاك قانون جديد للمنافسة الرقمية، وتواجه الشركتان غرامات تصل إلى 10% من إيراداتها العالمية، كما تواجه منصة "إكس" للتواصل الاجتماعي، المملوكة للملياردير إيلون ماسك، المُقرَب من ترمب، غرامة محتملة بموجب قانون آخر يتعلق بالمحتوى على الإنترنت.
ومنذ فوز ترمب في الانتخابات، تشدد فون دير لاين على أن المخاطر مرتفعة للغاية بحيث لا يمكن السماح للعلاقات الأوروبية - الأميركية بالتدهور، وقالت في رسالة تهنئة للرئيس المُنتخَب: "ملايين الوظائف والمليارات في التجارة والاستثمار على جانبي الأطلسي تعتمد على ديناميكية واستقرار علاقتنا الاقتصادية".