بعد عام من التغيّرات السياسية والصراعات الداخلية المتصاعدة، تدخل أميركا اللاتينية، العام الجديد 2025 وسط حالة من عدم اليقين على نطاق واسع، فالبرازيل تواجه اضطرابات اقتصادية، تتّسم بتقلبات في عملتها، في حين تسعى إلى الاستقرار السياسي. وفي الأرجنتين، سيواجه الرئيس خافيير ميلي، اختباراً لأجندته في التحول الاقتصادي، خلال الانتخابات التشريعية المقبلة.
وتستعد تشيلي وبوليفيا للانتخابات الرئاسية، في خضم تفاقم أزمة الدّيون، وفي فنزويلا، من المقرر أن يبدأ الرئيس نيكولاس مادورو، فترة ولاية ثالثة متنازع عليها، على الرغم من رفض واسع النطاق لنتائج الانتخابات، التي جرت في يوليو الماضي، من قبل المعارضة وجزء كبير من المجتمع الدولي.
فما الذي ينتظر أميركا اللاتينية في عام 2025؟ وكيف ستتعامل إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب القادمة مع المنطقة؟ هل تستطيع الاقتصادات في النصف الآخر من الكرة الأرضية أن تنمو إلى ما هو أبعد من التوقعات الحالية؟ كيف سيتعامل القادة مع الاضطرابات السياسية والمالية المتصاعدة؟
تعزيز سلطة ميلي في الأرجنتين
قوبلت عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، بالخوف والقلق في معظم أنحاء أميركا اللاتينية. فعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي المنتخب لم يذكر أميركا اللاتينية كثيراً خلال حملته الانتخابية الرئاسية، باستثناء المكسيك، التي انتقدها بانتظام، إلا أن الموضوعات التي تشكل ملامح ولايته الثانية، وضعت الدول في مرمى النيران، بدءاً من الهجرة غير الشرعية، واختلال التوازن التجاري، والمخدرات.
وبعيداً عن المخاوف في المكسيك وأميركا الوسطى بشأن الترحيل الوشيك للمهاجرين من الولايات المتحدة في ظل إدارة ترمب، فإن عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض، قد تعزز حظوظ الكتل والأحزاب اليمينية في دول أميركا اللاتينية، من بينها الأرجنتين التي يقودها الرئيس خافيير ميلي، المقرب من ترمب، والذي سيخوض غمار عام انتخابي حاسم، سيحدّد وتيرة برنامجه الطموح للإصلاح الاقتصادي.
وقال حلفاء ومعارضون لميلي، في تصريحات لـ"الشرق"، إن التركيز في الأرجنتين خلال عام 2025، سينصبّ على إعادة توزيع السلطة، في أعقاب الانتخابات التشريعية المقررة في أكتوبر المقبل، والتي ستجدد نصف مجلس النواب وثلث مجلس الشيوخ.
وستكون هذه أول انتخابات تشريعية خلال ولاية ميلي، الذي تعهّد بتمرير قانون شامل للإصلاح الاقتصادي، إذ يهدف إلى تحرير القطاعات الرئيسية، والسماح بخصخصة الشركات المملوكة للدولة، وحل الوكالات العامة. ومع ذلك، بعد مفاوضات شاقة مع المعارضة، تم التراجع عن عدد من إجراءات حكومة خافيير ميلي.
النائب رودولفو تاهيلادي، حليف الرئيسة الأرجنتينية السابقة، كريستينا كيرشنر، والعضو في التيار البيروني المعارض، قال في تصريحات لـ"الشرق"، إنه "في الوقت الحالي، لا أعتقد أن لدينا الأعداد الكافية في الكونجرس لعرقلة مبادرات ميلي، لذا فنحن بحاجة إلى إعادة التوازن إلى المشهد التشريعي"، وأضاف أنه "لتحقيق هذه الغاية، فإنه لا بد من الحركة البيرونية، وهي حركة المعارضة الأساسية في الأرجنتين، أن تعيد تنظيم نفسها سياسياً، وتقدم مقترحات قابلة للتنفيذ".
وعلى الرغم من تدابير التقشف الشديدة التي دفعت مستويات الفقر إلى ما يزيد عن 50% في النصف الأول من عام 2024، نجحت إدارة ميلي في خفض التضخم من 25.5% إلى 2.4%، مع الحفاظ على مستويات عالية من الدعم الشعبي.
واعتبر النائب المعارض، أنه "لا يزال هناك أمل في منافسة الحكومة الحالية، في الانتخابات المقبلة".
من ناحية أخرى، يعتقد النائب لويس بيكات، الذي طُرد من حزبه "الاتحاد المدني الراديكالي" (ليبرالي اجتماعي) بسبب تحالفه مع ميلي، أن الأخير يجب أن يظهر استعداداً أكبر للعمل مع الأحزاب الأخرى، وهي الصفة الغائبة خلال العام الأول من ولايته الرئاسية، خصوصاً عندما وصف الرئيس الأرجنتيني أعضاء الكونجرس المعارضين بـ"فئران".
وقال بيكات: "لا أرى هذا التحول بعد، ولكن ربما في عام 2025، سيظهر انفتاحاً على احتضان القوى السياسية الأخرى لتأمين دعم أفضل في الكونجرس وتعزيز أجندته".
وأشارت الحكومة بالفعل إلى تدابير محتملة في عام 2025، بما في ذلك إصلاح ضريبي واسع النطاق لخفض 90% من الضرائب الوطنية، فضلاً عن إصلاحات المعاشات التقاعدية والعمل.
وقام ميلي بخفض غير مسبوق للإنفاق العام بنحو 30%، كما خفض الاستثمار في التعليم بنسبة 40%، ورفض الزيادات في المعاشات التقاعدية، وخفض الوصول إلى الأدوية المنقذة للحياة لمرضى السرطان، وسحب التمويل من نظام العلوم والتكنولوجيا والجامعات، وفصل ما يقرب من 27 ألف موظف عام.
كما ألغى ميلي 9 وزارات، بما في ذلك وزارة المرأة والجنس والتنوع ووزارة التعليم.
انتخابات وصراعات على السلطة
تشهد تشيلي عاماً انتخابياً بامتياز، حيث ستكون على موعد مع الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن السياسية اليمينية إيفلين ماتي، عمدة بروفيدنسيا، قد تحقق المرتبة الأولى، وذلك بعد 4 سنوات من حكم اليساري جابرييل بوريك، الذي تتجاوز معدلات عدم التأييد له 60%.
وفي بوليفيا، تجري الانتخابات المقبلة وسط حالة من عدم الاستقرار الشديد والصراع المكثف داخل الحزب السياسي الرئيسي في البلاد، الحركة نحو الاشتراكية (MAS)، التي أسسها الرئيس السابق إيفو موراليس. لا يتنافس موراليس مع الرئيس الحالي لويس آرسي، حليفه السابق، على زعامة الحزب فقط، ولكن أيضاً على الترشح للرئاسة.
في الأسابيع الأخيرة، أقام أنصار موراليس، حواجز في الطرق الرئيسية، احتجاجاً على تحقيق يتّهم الرئيس السابق بممارسة علاقة جنسية مع قاصر. وندد الرئيس آرسي بالاحتجاجات باعتبارها محاولة لإضعاف حكومته والانقلاب على سلطته، بينما يزعم موراليس أنه هدف للاضطهاد السياسي من قبل الإدارة الحالية.
في فنزويلا، التي شهدت، في أغسطس الماضي، فوز الرئيس نيكولاس مادورو بولاية ثالثة، ما أثار موجة انتقادات وتشكيك في نزاهة الانتخابات من عدة دول، على رأسها الولايات المتحدة التي أعلنت تأييدها لفوز المرشح المعارض، إدموندو جونزاليس، لا يزال الوضع مرتبكاً ومقبلاً على مزيد من الاضطرابات.
ويرى متابعون أن عودة ترمب إلى البيت الأبيض، تعني دعماً أكبر للمعارضة الفنزويلية بهدف الضغط من أجل الإطاحة بمادورو، وهو ما سيعقبه ردود فعل من نظام مادورو الذي استطاع البقاء في السلطة رغم كل الضغوط السابقة، بما في ذلك التقارب بشكل أكبر مع كل من روسيا والصين، وهو ما لا تريده الولايات المتحدة.
وأعلنت السلطات في فنزويلا، مغادرة مرشح المعارضة إدموندو جونزاليس البلاد، متجهاً إلى إسبانيا، بعد أن أصدرت السلطات مذكرة اعتقال بحقه، ما شكل "ضربة قوية" للمعارضة. فيما دعت زعيمة المعارضة الفنزويلية، ماريا كورينا ماتشادو، الفنزويليين إلى "مواصلة المعركة".
ورغم الصعوبات، تظل المعارضة متمسكة بتولي جونزاليس الرئاسة في فنزويلا. ورداً على ذلك، صرح وزير الداخلية، ديوسدادو كابيلو، الذي يشرف على قوات الأمن الداخلي، بأن الشرطة ستنتظر جونزاليس في المطار إذا قرر العودة إلى البلاد.
ويغذي تصاعد الأزمة السياسية، والقمع الحكومي، وانعدام آفاق التغيير، المخاوف من تصاعد أزمة الهجرة. خلال فترة حكم مادورو، غادر 7.7 مليون فنزويلي البلاد، وقد يستمر هذا العدد في الارتفاع.
بيئة سياسية غير مستقرة في البرازيل
ولا تزال البرازيل، عملاق أمريكا الجنوبية، غارقة في الاستقطاب السياسي الشديد، حيث تحقق السلطات في محاولة انقلاب ضد الرئيس لولا دا سيلفا في عام 2023. تشير التحقيقات إلى أن الرئيس السابق جائير بولسونارو ربما كان متورطاً في مؤامرة لاغتيال لولا.
وألقت السلطات مؤخراً القبض على وزير الدفاع السابق ونائب الرئيس بولسونارو، الجنرال والتر سوزا براجا نيتو، بتهمة عرقلة التحقيقات في محاولة الانقلاب.
وتدفع الضغوط القانونية المتزايدة المحيطة ببولسونارو، الذي لا يزال الزعيم الرئيسي للجناح اليميني في البرازيل، المعارضة إلى إعادة تشكيل استراتيجيتها للانتخابات الرئاسية المقررة في عام 2026.
وتثير هذه البيئة المتقلبة احتمالات تصاعد العنف بدوافع سياسية في عام 2025. وأشارت شركة دارما الاستشارية الاستراتيجية البرازيلية في تقريرها عن الاتجاهات وسيناريوهات المخاطر لعام 2025، والذي يتوقع تبلور ديناميكيات الاستقطاب السياسي في البلاد، إلى أن "التطرف الذي يحفزه القادة عبر الطيف الأيديولوجي قد يساهم في تصاعد الأعمال العنيفة من قبل جهات معزولة أو مجموعات صغيرة".
ووفق المحلل السياسي، كريومار دي سوزا، الرئيس التنفيذي لشركة دارما، فإن التحديات الأساسية التي تواجه البرازيل في العام المقبل ستكون تعزيز الاستقرار السياسي. وأوضح، في تصريحات لـ"الشرق": "منذ عزل الرئيسة السابقة ديلما روسيف في عام 2016، كانت البرازيل تتعامل مع توترات مؤسسية، وخاصة فيما يتعلق بدور السلطة التشريعية".
كانت التوترات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية واضحة في مفاوضات الميزانية. ضغط الكونجرس على الحكومة لتخصيص المزيد من الموارد في مقابل الموافقة على اقتراح التعديل المالي، والذي يتضمن قيوداً على زيادات الحد الأدنى للأجور والإنفاق العام.
ولكن حكومة لولا دا سيلفا، فشلت في استقرار السوق. وقد ساهم هذا في خفض قيمة العملة البرازيلية بنسبة 7% في ديسمبر. ومن المتوقع أن يؤدي ارتفاع قيمة الدولار إلى تكثيف الضغوط على التضخم، الذي أنهى عام 2024 عند 4.71%، متجاوزاً الهدف الذي حدده البنك المركزي لهذا العام.
وبصرف النظر عن العلاقات الثنائية مع ترمب، والتي ستتطلب مهارة دبلوماسية كبيرة من الرئيس البرازيلي اليساري، يسلط دي سوزا الضوء على ترشيح ماركو روبيو وزيراً للخارجية الأميركية كإشارة إلى الأهمية الاستراتيجية لأميركا اللاتينية بالنسبة للسياسة الخارجية لترمب.
ومن المرجح أن يدفع روبيو، المعروف بخطابه المتشدد ضد حكومات كوبا وفنزويلا ونيكاراجوا، نحو زيادة العقوبات ضد هذه البلدان. وقد تؤدي هذه التدابير إلى تصعيد الهجرة من هذه البلدان، في حين قد يؤدي تشديد ترمب لسياسات الحدود إلى إعادة توجيه تدفقات الهجرة جنوباً، مما يزيد من صعوبة إدارة المنطقة لمثل هذه الأزمات.