
تقود حكومة حزب العمال في بريطانيا جهوداً أوروبية للانخراط في خطط الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تعقد قمةً وراء قمة ولقاءً تلو لقاء لدفع دول القارة العجوز نحو تعاون أمني وعسكري يملأ الفراغ بعد أن تنسحب الولايات المتحدة من هذه الجبهة المشتعلة منذ فبراير 2022، أو تقلّص دعمها للحلفاء على الضفة الثانية من المحيط الأطلسي إلى حدود قد تثير شهية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للعودة إلى الحرب أو التمدد خارج حدوده.
وتقود المملكة المتحدة جهوداً لإقناع الأوروبيين برؤيتها لحفظ أمن القارة، لكن هذا الدور القيادي يستوجب زيادة الإنفاق الدفاعي كثيراً وبسرعة، والمال المطلوب يبدو غير متوفر، ويصطدم بتحديات داخلية كبيرة ليس أقلها تراجع شعبية رئيس الوزراء كير ستارمر لأسباب مختلفة، وبينما تعمل أحزاب اليمين جاهدة لاستغلال الوضع سياسياً يراهن حزب العمال الحاكم على إيجاد حلول مستدامة لمشكلات ورثها من عهد المحافظين.
ويُعد إبرام اتفاق للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وإعادة صياغة اتفاق "بريكست" مع الاتحاد الأوروبي من أبرز الحلول التي يحلم بها ستارمر وحزبه، لكن الأحلام الكبيرة تحتاج لتسويات تستدعي تنازلات كبيرة وصغيرة، قريبة وبعيدة، خفية وظاهرة، وما يبدو في متناول اليد عند تصافح المسؤولين أمام وسائل الإعلام، يكون في الحقيقة محاطاً بصعوبات كثيرة تجعل حكومة لندن بكل موظفيها تعمل مثل خلية نحل لا تهدأ ولا يتوقف مبعوثوها حول العالم.
وبعثت زيارة ستارمر إلى واشنطن في نهاية فبراير الماضي، الأمل في البريطانيين، بشأن إمكانية إنجاز المهمات الصعبة، لكنهم يتساءلون حول المقومات القيادية للمملكة المتحدة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً في ظل ظروف دولية متغيرة تضع صعوبات أمام التخطيط الاستراتيجي.
استحقاقات رئيسية
في حديث لـ"الشرق"، قالت عضوة حزب المحافظين المعارض، لويز براون، إن القيادة البريطانية لأوروبا مرهونة بـ4 استحقاقات صعبة تنتظر حكومة لندن، أولها زيادة الإنفاق الدفاعي لتعزيز الجيش البريطاني بالعدة والعتاد، ومن أجل توفير الأموال المطلوبة يخوض ستارمر ووزراؤه حروباً داخلية عدة لممارسة التقشف وتقليص الإنفاق في قطاعات عدة لصالح رفع ميزانية القوات المسلحة، وهذه الحروب ليست مضمونة الفوز لحزب لعمال.
ولفتت بروان، إلى أن واقع الحال يقود إلى استحقاق استعادة الثقة بحزب العمال بعد أن تراجعت شعبيته خلال 9 أشهر فقط من توليه السلطة، بسبب وضع اقتصادي صعب، توشك الحكومة على زيادة تعقيداته عبر ضرائب واقتطاعات مختلفة من الإنفاق والمساعدات، ناهيك عن تأخرها في معالجة مشكلة الهجرة غير الشرعية، وغموض سياساتها في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وملفات أخرى تربطها مع الغرب عموماً.
وعن الاستحقاق الثالث، قالت بروان إن "العلاقات البريطانية الأميركية خرجت في ولاية ترمب الثانية عن سياق التحالف التقليدي بين البلدين، وأصبحت تتحرك تحت وطأة مفاوضات شاقة تتطلع من خلالها الولايات المتحدة إلى ضمان مصالحها وفق مبدأ (أميركا أولاً)، وهذا بحد ذاته يعني أن تتعامل لندن مع ابتزازات واشنطن وتُقدم التنازلات لإدارة البيت الأبيض الجديدة، وهنا يكمن الاستحقاق الثالث أمام حكومة حزب العمال".
وترى براون، أن "قيادة أوروبا تستدعي من حكومة لندن تحسين العلاقات مع بروكسل إلى حدود تصبح فيها مؤثرة بسياسات الاتحاد الأوروبي، دون أن تقدم التزامات كثيرة تجاهه، وهي مهمة صعبة لأن دولاً مثل فرنسا وألمانيا وغيرها في التكتل ترغب في التعاون مع المملكة المتحدة لمواجهة الخطر الروسي في القارة، لكنها لا تُفضل تفويض بريطانيا بقيادة الجبهة أو استغلال المهمة لتحقيق مكاسب أخرى".
تعليقاً على الاستحقاقات الأربعة، قال عضو حزب العمال، آدم فورن، إن ستارمر وحكومته ملتزمون بشعار التغيير الذي رفعه الحزب خلال حملته الانتخابية الأخيرة، فمنذ تولى رئيس الحكومة الجديدة منصبه، وهو يعالج الإشكاليات الكثيرة التي ورثها عن حكومات المحافظين المتعاقبة خلال الأعوام الـ14 الماضية، "ليس من خلال حلول ترقيعية وإنما معالجات جذرية وجريئة"، على حد تعبيره.
تحديات داخلية ودولية
ورأى فورن في حديثه مع "الشرق"، أن التحديات التي تواجه "العمال" على الصعيدين الداخلي والخارجي كبيرة، مشيراً إلى أن "خطط الحكومة للتعامل معها تهدف إلى التوصل إلى حلول مستدامة على المدى الطويل، وفي هذا السياق يمكن فهم المساعي البريطانية الحثيثة لوضع خطة أوروبية للتصدي للأطماع الروسية بعد تغير سياسات أميركا في القارة العجوز، وتخلي ترمب عن حلفاء بلاده الأوروبيين الذين لطالما دعموا سياسات الولايات المتحدة عالمياً".
ولفت عضو حزب العمال، إلى أن "ستارمر حاول احتواء سياسة دونالد ترمب المضرة تجاه أوروبا، عبر تقريب وجهات النظر واجتراح صيغ مختلفة للتعاون بين ضفتي الأطلسي، كذلك بدأ رئيس الوزراء بإحياء مفاوضات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة لأنه يعرف التأثير الإيجابي الكبير والمديد لهذا على الاقتصاد البريطاني، وبالتالي على تقارب بريطانيا مع أي قطب أو دولة في العالم تجارياً واستثمارياً وحتى سياسياً أيضاً".
وأضاف: "يدرك البريطانيون جيداً أهمية علاقات بلادهم مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، كذلك يتذكرون أن ستارمر قال منذ اليوم الأول في السلطة إنه لا يملك عصاً سحرية لحل مشكلات تراكمت لسنوات طويلة، أو استدعتها ظروف دولية قاهرة، لذلك ما يُشار إليه من تراجع في شعبية حزب العمال اليوم ينطوي على كثير من الدعاية التي يروج لها اليمين الشعبوي، ولن تصمد كثيراً أمام إنجازات قريبة للحكومة"، حسبما يرى عضو حزب العمال.
اتفاق التجارة
أطلقت ترمب خلال فترته الرئاسية الأولى بين عامي 2016 و2020، مفاوضات تجارية رسمية مع بريطانيا، وأكملت تلك المفاوضات 6 جولات، قبل أن تتوقف مع انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2020، واليوم تجدد تفاؤل البريطانيين باتفاق مع واشنطن يضاعف التبادل التجاري بين البلدين، والبالغ نحو 296 مليار دولار عام 2022 وفق الأرقام الرسمية في المملكة المتحدة.
ورأى الباحث الاقتصادي في جامعة LSI، كاميرون آرف، أن اتفاق التجارة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يُسهم في نمو الاقتصاد وزيادة التجارة والاستثمار لدى الطرفين، وإلغاء الزيادات المقترحة في الرسوم الجمركية، لكنه أشار إلى أن "هذا الاتفاق يجب أن يستند إلى 3 ركائز هي وضع الحواجز المناسبة للسلع المتبادلة، والتوافق على معايير المنتج وتقييمه، والعمل الموحد في مواجهة الاقتصاد غير السوقي".
وفي حديث مع "الشرق"، قال آرف، إن "لكل من أميركا وبريطانيا قطاعات رئيسية لابد من مراعاة كميات ومعايير الإنتاج فيها، كي لا تتأثر بالواردات المشابهة من الدولة الأخرى، ومن هذه القطاعات الزراعة والصحة في المملكة المتحدة التي تعمل بمعايير تحتاج الولايات المتحدة إلى مواكبتها، والسيارات في أميركا حيث يتوجب وضع قواعد لضمان عدم إعادة تصديرها رخيصة من بريطانيا".
ويعتقد آرف، أن التوافق التنظيمي ينبغي أن يزيل الحواجز الإجرائية والتشريعية الاقتصادية غير الضرورية بين البلدين، مما يؤدي إلى زيادة الصادرات الثنائية ويُسهم في النمو ودعم الوظائف مع الحفاظ على توازن التجارة، كذلك ينبغي للتوافق التنظيمي أن يتيح للمملكة المتحدة قبول المنتجات الأميركية والأوروبية، وهنا يصبح من الأفضل تصميم اتفاق التجارة بين واشنطن ولندن بما يتماشى مع اللوائح الأوروبية الناظمة للقطاع.
واعتبر أن مواجهة الاقتصاد "غير السوقي" تستدعي تضمين الاتفاق بين أميركا وبريطانيا أحكاماً بشأن تنسيق التدابير المتخذة لحماية المنتجات من التنافسية غير الحقيقية لطرف ثالث يعتمد الدعم الحكومي مثلاً، أو يعتمد سياسات تجارية ضارة، وهذا التنسيق برأيه "يجعل فرض الرسوم الجمركية بين البلدين غير ضروري بل وربما له نتائج عكسية، وفي سياق هذا الإجراء يمكن أن تتجنب بريطانيا حرب تعريفات الرئيس دونالد ترمب".
"بريكست" جديد
على الضفة الأوروبية أجرى حزب العمال البريطاني منذ توليه السلطة، زيارات واجتماعات عدة لتحسين العلاقات مع بروكسل، ورحّبت دول التكتل بمبادرات المملكة المتحدة الودية، لكن بدأ صبرها ينفد إزاء نقص التفاصيل حول ما تريده لندن.
وبحسب الباحثة في مركز "أوروبا المتغيرة"، جانيك ويك، وضعت بروكسل شروطاً للمحادثات بشأن صفقة خروج جديدة مع بريطانيا، أبرزها في مجال الصيد البحري وتنقل الشباب.
وتريد الحكومة البريطانية من الاتحاد الأوروبي أيضاً "اتفاقية أمنية" تُعزز التنسيق في مختلف القضايا العسكرية والاقتصادية والمناخية والصحية والسيبرانية وأمن الطاقة، ومن المرجح بحسب ويك، أن تكون إعلاناً مشتركاً غير ملزم، يضع طموحات رفيعة المستوى، لكنه أضيق نطاقاً مما تصوره حزب العمال، وعلى الأرجح يتم تأجيل المسائل الأكثر صعوبة المتعلقة ببناء القدرات الدفاعية الأوروبية المشتركة إلى وقت لاحق.
في هذا السياق، تعتقد ويك أن "خطط أميركا لإنهاء الحرب في أوكرانيا، قرّبت المسافات بين لندن وبروكسل، لكن ليس إلى الحد الذي يمكن أن تزول في ظله أسباب الخلاف أو تفتح الباب أمام عودة المملكة المتحدة إلى الحضن الأوروبي، فثمة منافع في استقلال بريطانيا أوروبياً، يفضل ستارمر وحكومته استغلالها لجني أكبر مكاسب في العلاقة مع الأوروبيين من جهة ومع الأميركيين من جهة ثانية".
وفي حديث لـ"الشرق"، لفتت الباحثة إلى أن عدد نواب حزب العمال المؤيدين للاتحاد الأوروبي يفوق إجمالي أعضاء حزب المحافظين في البرلمان، كما أن الشركات البريطانية تتطلع إلى تعاون أكبر مع التكتل لتوسيع فرص الاستثمار والتصدير، لكن تركيز ستارمر وحكومته اليوم ينصب على أصوات الطبقة العاملة التي صوتت بنسبة كبيرة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، ومناطق هؤلاء باتت تميل إلى حزب "ريفورم" (الإصلاح) اليميني الذي يقوده النائب نايجل فاراج.