
"لم يمض إلا شهرين"، هذه العبارة الأكثر تداولاً حالياً بين الصحافيين وحتى السياسيين في واشنطن، وهم يخوضون الماراثون اليومي مع الرئيس دونالد ترمب في محاولة للحاق بوتيرة أنشطته وقراراته السياسية التي انطلقت في العشرين من يناير.
شهران كأنهما عمر، عادت خلالهما الحرب في غزة، ولم تتوقف في أوكرانيا. واستمرت المعارك بين إدارة ترمب والقضاء، وتواصلت مساعي حركة "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً" أو "ماجا" لتفكيك دعائم المؤسسة السياسية أو كما تسميها "الدولة العميقة".
تطورات في المواقف
والثلاثاء الماضي، أعلنت إسرائيل استئناف الحرب في غزة، في خطوة باركتها الإدارة الأميركية التي حمَّلت "حماس" مسؤولية الفشل في تمديد اتفاق وقف إطلاق النار.
لكن التطور الدراماتيكي في هذا الملف، تَرافَق مع جرعة إضافية من الغموض، إثر مواقف نارية أطلقها مبعوث ترمب إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف خلال مقابلة مع الإعلامي الشهير تاكر كارلسون بثت الجمعة.
فللمرة الأولى، وفي خطوة غير مسبوقة، لم يبدِ ويتكوف أي تردد في استخدام عبارة حل الدولتين للقضية الفلسطينية، التي تخلى عنها الجمهوريون عموماً وإدارة ترمب السابقة خصوصاً. وصحيح أن ويتكوف ربما لم يعني بحل الدولتين، دولة فلسطينية على حدود العام 1967، أو دولة فلسطينية حتى، إلا أن مجرد استخدام العبارة هو خروج عن اللغة المألوفة، وهو ما توقف عنده كارلسون.
وتجاوزت مفاجآت ويتكوف التعبير، وامتدت إلى جوهر موقفه من حركة "حماس" ودولة قطر.
فمبعوث ترمب قال إنه لا يعتقد أن حركة "حماس" منغلقة أيديولوجياً، مشيراً إلى إنها تبحث عن بدائل، ولم يستبعد إمكانية بقائها كحركة سياسة غير مسلحة، في تناقض صارخ مع ما تريده إسرائيل وغالبية صقور الجمهوريين.
وتمايز ويتكوف عن نهج الكثير من الجمهوريين الأقرب لإسرائيل، إذ امتد لموقفه من دولة قطر، التي دافع عنها بشدة، قائلاً إن القطريين "طيبون" وكل ما يريدونه هو الاعتراف بهم كدولة راعية للسلام.
"غير مؤدلج سياسياً"
وإذ شكلت هذه المواقف ما يشبه وجه النقيض لموقف إدارة ترمب من دعم قرار إسرائيل استئناف الحرب في غزة، إلا أنها عكست الحقيقة الثابتة عن ترمب والحركة التي حملته إلى السياسة وأعادته إليها، وهي أنه "رجل أعمال وغير مؤدلج سياسياً"، وجوهر حركته التي جعلته يتجاوز صقور الحزب الجمهوري 2016 وعام 2020، هو ذلك التيار الذي يريد أن يكون بحل عن كل التزامات أميركا في الخارج، ويركز على الداخل.
وهي حقائق ثابتة، لكن ليس بالضرورة أن تكون لها الكلمة الفصل في مدينة محكومة بالتوازنات بين المال والسياسة.
وعندما سألت أحد المسؤولين عن قدرة ويتكوف على تطبيق رؤيته كما طرحها مع كارلسون، لكونه قريباً من أذن الرئيس، جاءني الجواب، بأن "هناك آخرين أيضاً على نفس المسافة من الرئيس وأقرب، ناهيك عن دور المتبرعين"، في إشارة إلى دور اللوبي الداعم لإسرائيل.
وما ينطبق على غزة، ينطبق أيضاً على أوكرانيا، فقد غرد ويتكوف خارج السرب المألوف في واشنطن والغرب عموماً في مقاربته للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبدا أن ترمب ماض في تقاربه مع روسيا عما يمكن أن يتحقق في الملف الأوكراني، إذ أكد مبعوثه تقريباً أن لقاءً سيعقد بين ترمب وبوتين الشهر المقبل.
وكان ترمب قد أجرى الأسبوع الماضي، اتصالاً استمر لساعتين ونصف الساعة مع فلاديمير بوتين، لم يسفر عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار لمدة ثلاثين يوماً، كما كان مأمولاً، وإنما اتفاق مبدئي لوقف نار متبادل بين روسيا وأوكرانيا على منشآت الطاقة لمدة ثلاثين يوماً.
وهي ملفات، لا يعرف ما الذي نقله منها ترمب للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال الاتصال بينهما، والذي أعقب اتصال ترمب وبوتين.
وامتدت المقاربة أيضاً للملف الإيراني، إذ شدد ويتكوف على إمكانية حل الأزمة مع إيران بالطرق الدبلوماسية، وكشف عن رد إيراني وصل لترمب بعد الرسالة الأخيرة إلى المرشد علي خامنئي.
وسيوضح الأسبوع المقبل، تداعيات ما رماه ستيف ويتكوف، إذ بدا أن الأمر الثابت هو قرار الإدارة الأميركية إزالة تهديد الحوثيين في اليمن تماماً، من دون أن تتضح بعد إمكانية اللجوء إلى الأرض في حال تعذر تحقيق الهدف عبر الضربات الجوية.
وكشفت وسائل إعلام أميركية أن وزارة الدفاع الأميركية قررت إرسال حاملة طائرات ثانية إلى الشرق الأوسط هي "كارل فينسون" وتمديد فترة بقاء حاملة طائرات هاري ترومان" في المنطقة.
أجندة داخلية
هذه الملفات على ثقلها، لم تشغل ترمب عن مواصلة تنفيذ أجندته داخلياً. فيوم الخميس، وقع الرئيس الأميركي أمراً تنفيذياً وجه فيه وزيرة التعليم ليندا ماكمان للبدء بعملية تفكيك وزارة التعليم التي يتطلب إغلاقها ستين صوتاً في الكونجرس.
وإذ أن الخطوة دونها الكثير من العقبات، إلا أنها عكست مجدداً حجم الانقسام الثقافي الذي تعيشه البلاد خلال العقد الأخير، والذي تجلى في مواقف الولايات وحكامها من قرار ترمب بشأن وزارة التعليم. وهو انقسام ممتد لسنوات عشر سابقة، وتعزز في السنوات الأخيرة.
كما شهد هذا الأسبوع تصعيداً غير مسبوق بين السلطتين التنفيذية والقضائية، في أكبر تهديد لنظام فصل السلطات الذي حكم الولايات المتحدة لقرنين ونصف. وفيما اعتاد الأميركيون على معارك شد وجذب بين الرئيس والكونجرس، إلا أن معركة ترمب التي لا تزال كلامية مع القضاء هي غير اعتيادية استدعت رداً مفاجئاً وغير مباشر من رئيس المحكمة العليا المحافظ جون روبرتس.
المعركة استعرت على خلفية ما اعتبر انتهاكاً من قبل إدارة ترمب لقرار قاض فدرالي أمر بوقف ترحيل مئتين وخمسين فرداً يشتبه بانتمائهم لعصابة فنزويلية إلى السلفادور، والمضي بتنفيذ القرار.
وكان ترمب قد لجأ إلى قانون الأعداء الأجانب لعام 1778، لإرسال المئات من المهاجرين ممن يتهمهم بالانتماء لعصابات إجرامية إلى منشآت أمنية في السلفادور بموجب اتفاق يقضي بدفع قرابة ستة ملايين دولار للسلفادور.
وعلى الرغم من أن قاض فيدرالي أصدر أمراً مؤقتاً بوقف عمليات الترحيل لمدة أربع عشرة يوماً، إلا أن الإدارة الأميركية نفذت عمليات ترحيل المهاجرين، ما استدعى رداً من القاضي الذي طلب من إدارة ترمب تقديم مبررات لتجاهل تنفيذ قرار قضائي.
وكان البيت الأبيض قد دافع عن الأمر بأن عمليات الترحيل كانت انطلقت قبل صدور قرار القاضي كتابة، بينما لجأ ترمب إلى منصة "تروث سوشيال" ليدعو وزارة العدل إلى عزل القاضي. لكن جون روبرتس سارع في الرد معتبراً أن عزل أي قاض يتم فقط بسبب الفساد أو خيانة الثقة العامة، وليس استجابة لخلاف بشأن قرار قضائي.
ترمب في مواجهة السلطة القضائية
ويعكس هذا التطور حجم التحدي الذي تواجهه إدارة ترمب مع الجسم القضائي، حيث واجهت مئات الدعاوى، وتم تعليق العمل بعدد من أوامره التنفيذية على غرار قراره بشأن وقف منح الجنسية للأطفال الذين يولدون لوالدين بتأشيرات مؤقتة.
وقبل أن يغادر ترمب الجمعة، إلى نيو جيرسي ومنها إلى فيلادلفيا لحضور بطولة مصارعة الجامعات الوطنية، أعلن في احتفالية في البيت الأبيض منح شركة "بوينج" الأميركية عقد تصنيع الجيل السادس من مقاتلات سلاح الجو الأميركي والتي قال إنها ستحمل اسم F-47، ما اعتبره البعض أنها ارتباطاً به لكونه الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة.
ويمكن القول إن هذا الإعلان، يندرج ضمن الجزء المشترك في الأولويات بين أجنحة إدارة ترمب المتعددة، والتي تتشارك هدفاً رئيسياً يتمثل في تعزيز القدرات العسكرية بما يُبقي على التفوق العسكري الأميركي، لا بل يوسع فجوته مع الدول الأخرى، وبالطبع في طليعتها الصين.
لكن هذا الإعلان سبقه خبر جدلي نشرته "نيويورك تايمز" عن زيارة مقررة لإيلون ماسك إلى البنتاجون للاطلاع على خطط الجيش الأميركي لمواجهة محتملة مع الصين، الأمر الذي نفاه البنتاجون، وشن ترمب على خلفيته هجوماً لاذعاً على "نيويورك تايمز".
لكن ماسك حل ضيفاً على البنتاجون في زيارة قالت وزارة الدفاع إنها تأتي في إطار مهمته في إدارة الكفاءة الحكومية، قبل أن يستقل الطائرة مع ترمب إلى نيو جيرسي.
وكان ماسك عنواناً رئيساً في أسبوع ترمب الثامن في البيت الأبيض، الذي استعرضت حديقته الخلفية نماذج متعددة من سيارات شركة تسلا، التي أعلن ترمب شراء واحدة منها في خطوة لدعم إيلون ماسك بعد انهيار مؤقت في أسهم الشركة في وول ستريت، وهو ما اعتبره ترمب "هجوماً منظماً من قبل الديمقراطيين"، على مالك تسلا.
وانتهى الأسبوع الثامن، بتوقيع أمر تنفيذي وجه فيه بتقليص أنشطة الوكالة الأميركية للإعلام العالمي، والتي تضم قنوات صوت أميركا وأوروبا الحرة وآسيا الحرة وقناة الحرة الناطقة باللغة العربية، في خطوة استدعت رد المشرفين على بعض هذه المنصات باللجوء إلى القضاء في محاولة لوقف القرار.
نجاحات صغيرة
وشهد الأسبوع نفسه، نجاحاً دبلوماسياً لإدارة ترمب في محادثاته مع الأوكرانيين، إذ أعلن فريق ترمب التوصل إلى اتفاق مع الجانب الأوكراني قضى بموافقة كييف على وقف متبادل لإطلاق النار مع روسيا لمدة ثلاثين يوماً، وهو ما لم يثمر نتيجة جيدة لاحقاً في الأسبوع التاسع، خلال اتصال ترمب وبوتين.
الأجواء الاحتفالية نوعاً ما لمفاوضات الأميركيين والأوكرانيين في جدة لم تتطابق، مع أجواء اجتماع وزراء خارجية دول السبع الذي عقد في كندا على وقع علاقة متأزمة بين واشنطن وأوتاوا، مع تكرار ترمب رغبته بأن تكون كندا الولاية الواحدة والخمسين، على وقع إمكانية اندلاع حرب تجارية بين الحلفاء جراء رسوم ترمب الجمركية.
وتحول الاجتماع خبراً خلافا للعادة، وبقي البيان الختامي قيد الكتابة حتى الساعات الأخيرة، وخرج كورقة تسوية بين من يسمون حلفاء، خالياً من عبارتي العدوان الروسي وحل الدولتين.
لكن هذه الأجواء لم تنسحب على لقائي ترمب مع كل من أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو) في البيت الأبيض مارك روته ورئيس الوزراء الإيرلندي مايكل مارتين اللذين خليا من أي مشاهد درامية باستثناء سخرية ترمب من جوارب نائبه جاي دي فانس.
لكن ترمب استبق الدراما القليلة في الأسبوع الثامن بفائض منها خلال الأسبوع السابع له كرئيس في ولاية ثانية. فقد ألقى الخطاب الأطول أمام مجلسي الكونجرس مستهلاً تسعين دقيقة من الكلام بالقول "أميركا عادت"، متعهداً أن تكون ولايته الثانية الحقبة الأعظم في عمر الولايات المتحدة الـ 250.
خطاب أعلن فيه أن أوكرانيا جاهزة للتوقيع على اتفاق المعادن، بعد مشهد اللقاء السوريالي مع زيلينسكي في البيت الأبيض، وكاشفاً عن إلقاء القبض على المخطط للهجوم على قوات المارينز خلال عملية الانسحاب من أفغانستان في العام 2021.
وبعد يومين على ذلك الخطاب، الذي قال فيه إنه يريد لإرثه أن يكون صانع سلام وموحد، كشف ترمب في البيت الأبيض عما أسماه اللحظات الأخيرة فيما يتعلق بمقاربته للملف النووي الإيراني، مشيراً إلى أنه يجب أن يكون هناك حل، وأنه يفضل الطرق الدبلوماسية، لكنه قد يلجأ لغيرها في حال أخفقَت.
كما هدد أيضاً بعقوبات على روسيا بعد إطلاق موسكو 67 صاروخاً و194 مسيرة على البنية التحتية للطاقة والغاز في أوكرانيا. وهو وعيد بدا بعيداً بعد اتصال ترمب مع بوتين خلال الأيام الماضية.