
مع فرض الرئيس الأميركي دونالد ترمب رسوماً جمركية، لا سيما على حلفائه في كندا واليابان وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي، ما فرض ضغوطاً متزايدة على التحالفات عبر الأطلسي، وتسبب في ضرر كبير للدول الأوروبية، ودفعها إلى تغيير ديناميكيات العلاقات بين الصين ودول التكتل لمواجهة الضغوط الأميركية.
فعاليات منتدى التنمية الصيني، وما خرج منها من تصريحات، وما أطلعت عليه "الشرق" من قادة أعمال أوربيين، وخبراء صينيين، أظهرت أن الطرفين توجها لوضع أُسس لعلاقة اقتصادية "متينة"، تكون مجدية للطرفين، بعيداً عن "الندوب" التي يمكن أن تسببها لبكين أو لدول الاتحاد الأوروبي، نتيجة "سيف" التعريفات الجمركية الأميركية، المُسلط على اقتصاداتهم.
وأعلن الرئيس الأميركي، الأربعاء، فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على السيارات ليتسع نطاق الحرب التجارية العالمية؛ مما أثار انتقادات وتهديدات بالرد من حلفاء الولايات المتحدة المتضررين من القرار.
كما هدد ترمب، الخميس، بزيادة الرسوم الجمركية على الاتحاد الأوروبي وكندا إذا عمل كلاهما معاً "لإلحاق ضرر اقتصادي بالولايات المتحدة".
التعلم من الصين.. رغم "العراقيل"
وفي حديث مع "الشرق"، قال ميشيل جيراسي، وكيل وزارة التنمية الاقتصادية الإيطالية السابق، على هامش منتدى التنمية الصيني في بكين، إن "الشركات الأوروبية يجب أن تزيد من عدد زياراتها (من خلال ممثليها) إلى الصين، للتعلم وقضاء بعض الوقت، وتحليل الوضع بنفسها، ورؤية البلاد بأم أعينها".
وأضاف جيراسي أن الشركات الأوروبية ترغب في تعزيز التعاون مع الصين، بينما يضع بعض السياسيين الأوروبيين "العراقيل".
ورغم الانقسام بين بعض السياسيين الأوروبيين بشأن سياسة الاتحاد تجاه بكين، زار قادة ومسؤولون أوروبيون كبار الصين لإجراء المزيد من المحادثات المباشرة، أخيراً، من بينهم رئيس مجلس الشيوخ الإيطالي، إيجنازيو لا روسا، ووزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، والمفوض الأوروبي للتجارة والأمن الاقتصادي، ماروس سيفكوفيتش، ووزير الدولة للشؤون الخارجية البرتغالي، باولو رانجيل، بالإضافة إلى زيارة مرتقبة لرئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، في أبريل المقبل.
واتفقت الصين مع ممثل الدول الأوروبية، الذين زاروها على أهمية الانفتاح والتعاون، مع رفض الأحادية والحروب التجارية.
"تزايد الحاجة" الأوروبية للصين
وفي السياق، يرى كوي هونج جيان، مدير مركز دراسات الاتحاد الأوروبي والتنمية الإقليمية بجامعة الدراسات الخارجية في بكين، في حديث مع "الشرق" أن "حاجة التكتل الأوروبي تتزايد لدور بكين في الأمن والتنمية، لا سيما مع تزايد الانقسام والتوتر بين الاتحاد والولايات المتحدة بشأن أزمة أوكرانيا والتعريفات الجمركية".
وأضاف كوي أن بلاده لاحظت "الإشارات الإيجابية" من الاتحاد الأوروبي تجاهها، وأعطى تصريح رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، مثلاً على ذلك، عندما أعربت عن اعتقادها، في فبراير الماضي، بأن الاتحاد الأوروبي والصين يمكنهما التوصل إلى اتفاقات، ويمكن أن توسع العلاقات التجارية والاستثمارية.
وكانت فان دير لاين قالت في تصريح قبل نحو شهر، إن العلاقات التجارية بين أوروبا والصين "تُعدّ من أكثر العلاقات تعقيداً وأهمية في العالم"، معتبرة أن كيفية "إدارة الاتحاد لهذه العلاقات تعتبر عاملاً حاسماً في الازدهار الاقتصادي والأمن القومي الأوروبي في المستقبل".
وأشارت المسؤولة الأوروبية إلى أن "بكين شريك تجاري حيوي لأوروبا، إذ تُمثّل حوالي 9% من الصادرات الأوروبية من السلع وأكثر من 20% من الواردات، ومعظم هذه التجارة مُفيدة للطرفين".
لكنها أشارت إلى "تنامي الاختلالات والمخاطر المرتبطة بالتعامل التجاري مع الصين"، مؤكدة على "ضرورة إعادة توازن هذه العلاقة وضمان أن تكون علاقاتنا التجارية والاستثمارية مُجدية لأوروبا، سواءً من حيث اقتصادها أو أمنها".
"مسار جديد" بين أوروبا وبكين
ومن هنا ربما، جاءت زيارة ماروش شيفتشوفيتش، وهي الأولى إلى الصين، منذ توليه منصب مفوض الأمن التجاري والاقتصادي والعلاقات بين المؤسسات والشفافية في الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تتعامل فيه أوروبا مع التوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة.
وفي بكين، استقبله هي لي فنج، نائب رئيس مجلس الدولة والمسؤول الصيني عن الشؤون الاقتصادية والتجارية مع الولايات المتحدة، حيث اتفق لي فنج مع شيفتشوفيتش على تعميق التعاون الاقتصادي والتجاري بين أوروبا والصين، في وقت يصادف هذا العام الذكرى الخمسين للعلاقات الدبلوماسية الثنائية.
وأكد شيفتشوفيتش، عبر منصة "إكس"، عن ضرورة تعزيز التعاون بين أوروبا والصين في ظل التحديات العالمية الناشئة، وذلك خلال لقاء رئيس الإدارة العامة للجمارك، ووزير التجارة الصيني وانج وين تاو على التوالي.
كما شدد على ضرورة "ضمان أن تكون علاقة الاتحاد الأوروبي بالصين قائمة على تكافؤ الفرص، من حيث تدفقات التجارة والاستثمار، مع انفتاح أسواق متكافئة"، مشيراً أنه تبادل مع وزير التجارة الصيني "وجهات نظر مهمة حول كيفية وضع العلاقات بين الطرفين على المسار الجديد".
وعلى صعيد محادثات الأعمال رفيعة المستوى، كان أسبوعاً حافلاً لوزارة التجارة الصينية، حيث استضافت رؤساء تنفيذيين عالميين توافدوا إلى بكين لتعزيز التعاون.
والتقى وزير التجارة وانج وين تاو بالعديد من كبار المسؤولين التنفيذيين من شركات أوروبية، بما في ذلك "بي إم دبليو إيه جي"، و"إيرباص"، و"تيسن كروب" للمعادن، و"مرسيدس بنز جروب إيه جي". وشملت مواضيع النقاش زيادة انفتاح السوق الصينية، والتدابير المضادة للنزاعات الجمركية الأميركية، وصناعة السيارات بين الصين والاتحاد الأوروبي.
لقاء شي مع قادة أعمال "عمالقة"
في ظلّ تزايد حالة عدم اليقين وعدم الاستقرار الاقتصادي العالمي، حظي الاجتماع رفيع المستوى بين الرئيس الصيني شي جين بينج، وأكثر من 40 رئيساً تنفيذياً وعضواً في مجالس الأعمال التجارية العالمية، في 28 مارس، باهتمام واسع من وسائل الإعلام الدولية.
وقال شي خلال الاجتماع إنّ "احتضان الصين.. اغتنام للفرص، والإيمان بها، هو الإيمان بمستقبل أفضل، والاستثمار فيها استثمار في المستقبل". وهذه المرة الأولى التي يستضيف فيها شي ممثلين عن مجتمع الأعمال الدولي في قاعة الشعب الكبرى في بكين، وفق تلفزيون الصين المركزي CCTV.
وعُقد الاجتماع بعد أيام قليلة من منتدى التنمية الصيني 2025، وهو منصة رفيعة المستوى للحوار المباشر والمعمق بين الصين وقادة الأعمال العالميين، والاجتماع السنوي لمنتدى "بوآو" الآسيوي 2025.
ويعد منتدى "بوآو" الآسيوي، الذي تأسس في عام 2001، منظمة دولية غير حكومية وغير ربحية ملتزمة بتعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي وتقريب البلدان الآسيوية من أهدافها الإنمائية.
كما جاء في الوقت الذي يتوقع مراقبون أن تُلحق الولايات المتحدة ضرراً بالغاً بسلسلة الصناعة والتوريد العالمية بإعلانها فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 25% على السيارات المستوردة، في انتظار أن ترد الدول تستهدفها هذه الإجراءات بفرض "رسوم جمركية متبادلة" ورسوم الموانئ، مما يخلق حالة من عدم اليقين في الاقتصاد العالمي، وأثار معارضة عالمية قوية.
وسلّط شي، في الاجتماع، الضوء على دور الشركات الأجنبية باستخدام مصطلح "المشاركين المهمين" ثلاث مرات. وأشاد بمساهمات الشركات الأجنبية، مؤكداً على أنها "شريك مهم في مسيرة التحديث الصينية، وفي إصلاح البلاد وانفتاحها وابتكارها، وفي ترابطها مع العالم واندماجها في العولمة الاقتصادية".
الاقتصاد العالمي وانفتاح الصين ودورها
وقال أولّا كالينيوس، رئيس مجلس الإدارة مجموعة "مرسيدس-بنز"، ورئيس رابطة مصنعي السيارات الأوروبية ACEA، في حديث مع "الشرق" بعد الاجتماع، إن "رسائل الحكومة الصينية خلال الاجتماع تُظهر أنها تُولي أهمية كبيرة لتعزيز الانفتاح رفيع المستوى، ودوره في استقرار الاقتصاد العالمي، والشركات الأجنبية التي تستثمر في الصين".
وفي الاجتماع، تطرق شي أيضاً إلى 3 نقاط رئيسية حول دور الشركات ذات التمويل الأجنبي في الصين، بما في ذلك مشاركتها المهمة في التحديث الصيني، ودورها الحيوي في الحفاظ على النظام الاقتصادي العالمي، والمسؤوليات الجسيمة التي تتحملها في الحفاظ على استقرار سلاسل الصناعة والتوريد العالمية.
ويرى وي جيانجو، نائب وزير التجارة الصيني السابق ونائب المدير التنفيذي لمركز الصين للتبادلات الاقتصادية الدولية، في حديث مع "الشرق"، أن الرسائل التي وُجّهت في هذه الاجتماعات تُظهر أن انفتاح الصين "عالي الجودة" ليهيئ "للمستثمرين العالميين، ولبناء اقتصاد عالمي مفتوح"، مشيراً إلى أن بلاده ستطرح المزيد من إجراءات الانفتاح الأحادية الجانب هذا العام، وستُوجّه المزيد من قطاعات الاقتصاد للمستثمرين الدوليين، وخاصة قطاعات الخدمات والتجارة والرعاية الصحية.
اقتصاد الصين والتأثيرات الخارجية
وكان رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشي يانج، أعلن في اليوم الافتتاحي لمنتدى التنمية الصيني في 23 مارس أن "الصين مستعدة للصدمات غير المتوقعة، والتي تنشأ في المقام الأول من مصادر خارجية"، مؤكداً أن بلاده ستُطبّق سياسات جديدة، عند الضرورة، لضمان سلاسة سير الاقتصاد الصيني.
وفي ما يتعلق بإجراءات الصين المضادة للرسوم الجمركية الأميركية، صرّح تشانج بين، نائب مدير معهد الاقتصاد والسياسة العالمية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية CASS، في حديث لـ"الشرق"، بأن بكين تعمل على تعزيز قدرتها على التخفيف من الأثر السلبي للرسوم الجمركية وامتصاص هذه الصدمات، من خلال توسيع الاستهلاك المحلي لتلبية الاحتياجات المحلية، وزيادة الواردات لتضييق الفائض التجاري، وهو ما لا تقصده الصين.
وخلال السنوات الماضية، تسارعت وتيرة السياسة الاقتصادية الصينية المتمثلة في تعزيز توسيع الطلب المحلي والبحث عن أسواق جديدة بسبب الضغوط الخارجية. وفي مواجهة هذه الضغوط الخارجية، أكد تشانج أن خفض قيمة العملة ليس خياراً وارداً للتعامل مع حرب الرسوم الجمركية، حيث يُعد اليوان الصيني عملة قوية في قنوات الدفع الدولية.
في الوقت الحاضر، يوفر سوق الصين المتوسع، الذي يضم 1.4 مليار مستهلك، حاجزاً قوياً ضد الضغوط الخارجية. وتوقع تشانج أنه مع استمرار الصين في تنويع اقتصادها وتعزيز سوقها المحلية، فإن التعريفات الجمركية كأداة سياسية ستكون ذات فعالية قصوى.