جبهات تركيا.. من "صفر مشكلات" إلى "طموحات النفوذ"

time reading iconدقائق القراءة - 9
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارة لبروكسل - 9 مارس 2020 - REUTERS
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارة لبروكسل - 9 مارس 2020 - REUTERS
دبي -إيلي هيدموس

بسرعة قياسية، انتقلت تركيا من سياسة "صفر مشكلات" إلى نهج التدخل في دول قريبة وبعيدة، تارة بحجة المصالح القومية وطوراً بذرائع تاريخية عثمانية، تقفز فوق حقائق النظام الدولي والخرائط التي كُرّست بعد الحرب العالمية الأولى.

سعت نظرية "العمق الاستراتيجي"، التي صاغها رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو في عام 2001، إلى إقامة منطقة نفوذ لبلاده في الشرق الأوسط، تتلمّس "القوة الناعمة"، بشكل ينأى عن النزاعات والحروب، ويقدّم تركيا بوصفها نموذجاً في المنطقة، لدولة مسلمة وعلمانية، تُعتبر من أبرز أعضاء حلف شمال الأطلسي.

وبعد أكثر من عقد، حققت فيه تركيا استقراراً سياسياً ونموّاً اقتصادياً مستمراً، تزامن مع انفتاح سياسي على دول الجوار، تبنّت قبل نحو 5 سنوات سياسات متشددة في الإقليم، تسعى إلى فرض جدول أعمالها وتغليب مصالحها، ولو بالقوة وعلى حساب مصالح دول أخرى، ما أثار صراعات سياسية، ونكأ جروحاً تاريخية.

التدخل الإقليمي

بعد توسيع حضورها الميداني في شمال العراق، لمواجهة حزب العمال الكردستاني، وتدخلها في شمال شرق سوريا، وشمالها الغربي، حيث نفذت 3 عمليات عسكرية، في الأعوام 2016 و2018 و2019، قدّمت تركيا دعماً عسكرياً لحكومة المجلس الرئاسي في طرابلس، في مواجهة الجيش الوطني الليبي، مقابل امتيازات مكّنتها من تكثيف محاولاتها للسيطرة على الطاقة في شرق البحر المتوسط، وتأجيج توتر مع اليونان وقبرص ومصر، ناهيك عن إسرائيل وفرنسا والاتحاد الأوروبي.

وأواخر الشهر الماضي أفادت معلومات بدور تركي في النزاع المتجدّد بين باكو ويريفان على إقليم ناجورنو قره باغ، الذي يسيطر عليه الأرمن ويقع في أراضي أذربيجان.

سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التي قرّبت بلاده من روسيا وإيران، على حساب علاقاتها بالغرب و"الأطلسي"، جسّدتها صفقة شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية الصنع "إس-400"، رغم تلويح واشنطن بفرض عقوبات على أنقرة، علماً أن "الودّ" الشخصي بين أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترمب يكبح تشدد الولايات المتحدة إزاء تركيا، سواء بشأن "إس-400" أو ملفات أخرى ساخنة، مثل سوريا وليبيا.

كما أن تزعّم أنقرة بعض جماعات "الإسلام السياسي" في المنطقة يفاقم شقاقاً مع دول نافذة، بينها مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وأعرب وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش عن ذلك أخيراً، إذ كتب على تويتر، أن "الوجود العسكري التركي في قطر طارئ ويساهم في الاستقطاب السلبي في المنطقة.. ولا يراعي سيادة الدول ومصالح الخليج وشعوبه".

تركيا في إفريقيا

ولم تكتفِ تركيا بتشييد قاعدة عسكرية في قطر عام 2015، بل فعلت الأمر ذاته في الصومال عام 2017. كذلك أجرى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الشهر الماضي جولة في غرب إفريقيا، شملت مالي والسنغال وغينيا بيساو، وهي منطقة نفوذ لفرنسا.

وأفاد الموقع الإلكتروني لإذاعة صوت أميركا بأن لدى أنقرة الآن 42 سفارة في إفريقيا، بعدما كانت 12 في عام 2003. وأضاف أن حجم التبادل التجاري لتركيا مع القارة بلغ أكثر من 23 مليار دولار في عام 2018، بعدما كان نحو 5 مليارات في عام 2003.

ووَرد في مقال نشره الموقع، "من سوريا المدمّرة إلى المنطقة الكردية في شمال العراق، ومن قطر الغنية بالنفط إلى دول فقيرة في شرق إفريقيا وغربها، ومن البلقان إلى ليبيا التي تعرّضت للبلقنة عملياً، لاحظ مراقبون تكثيفاً للتدخلات العسكرية التركية، عكس أي شيء (شهدته المنطقة) منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية قبل نحو قرن".

"إمبراطورية أردوغان"

ونقل المقال عن سونر كاغابتاي، وهو باحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، قوله إنه، "لدى أردوغان إمبراطورية مصغّرة. إنها ليست الإمبراطورية التي كان يعتقد أنه سيشيّدها، لأنها بالتأكيد ليست إمبراطورية شرق أوسطية، كما أنها ليست إمبراطورية تحظى بدعم الغرب".

ونشر كاغابتاي في عام 2019 كتاباً بعنوان: إمبراطورية أردوغان: تركيا وسياسة الشرق الأوسط، اعتبر فيه أن أردوغان "اختار نموذجاً غير تقليدي في سياق التاريخ التركي الحديث، محاولاً تصوير بلاده بوصفها قوة شرق أوسطية قائمة بذاتها". وأضاف: "بذلك تكون تركيا نأت عن حلفائها الغربيين التقليديين، بينهم الولايات المتحدة، وتبنّت سياسة خارجية على الطراز الإمبراطوري، تستهدف استعادة حضور تركيا في الشرق الأوسط العربي والبلقان، كما في العهد العثماني".

واعتبر أن تركيا "تواجه عالماً معادياً، ولم يبقَ لها أي أصدقاء تقريباً في الشرق الأوسط، وتواجه تهديداً من خصمين تاريخيين متجددين: روسيا وإيران"، كما "لا تستطيع الاعتماد على دعم بلا شروط من حلفائها الغربيين التقليديين".

تدهور اقتصادي

سياسات أردوغان تضغط على الاقتصاد في بلاده، والذي لم يتعافَ بعد من انكماشه مرتين خلال سنتين، وجعلت المصرف المركزي التركي يرفع أسعار الفائدة في عملياته لمبادلة الليرة، إلى 11.75 من 10.25%، بعدما لامس الدولار 8 ليرات في سوق الصرف، في تراجع قياسي.

وخسرت الليرة نحو 25% من قيمتها هذا العام، و90% منذ 2017، وفق "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" الذي أشار إلى أن تركيا تنشر قوات عسكرية في 3 دول تشهد نزاعات، هي ليبيا والعراق وسوريا، أي "أكثر من أي وقت منذ تأسيس الجمهورية الحديثة في عام 1923".

وكان لافتاً أن ديزموند لاكمان، وهو نائب سابق لمدير صندوق النقد الدولي، رجّح أن تواجه شركات ومصارف تركية قريباً "مشكلات" في دفع ديون قيمتها نحو 300 مليار دولار، نتيجة "ضعف الاقتصاد والعملة" في البلاد، كما أفاد موقع "أحوال" المؤيّد للمعارضة التركية.

"فيل في غرفة"

صحيفة نيويورك تايمز نقلت عن دبلوماسيين أوروبيين وصفهم أنقرة بأنها باتت مثل فيل في غرفة بالنسبة إلى "الأطلسي". وأضافت: "بالنسبة إلى تركيا فإن أزمة العملة، وهي الثانية في أقلّ من سنتين، إلى جانب (فيروس كورونا المستجد)، يشكّلان خطراً متزايداً بحصول انهيار اقتصادي". وأشارت إلى "تداعيات جيوسياسية للمصير الاقتصادي لتركيا"، مضيفة أن محللين يرون في مواجهات أنقرة مع أثينا وباريس في شرق المتوسط "محاولة من أردوغان لإثارة مشاعر قومية وصرف الأتراك عن مشكلاتهم المالية".

ونبّه وزير المال التركي السابق علي باباجان إلى أن المصرف المركزي بدّد 120 مليار دولار من احتياطياته، لإبقاء سعر صرف الدولار أقلّ من 7 ليرات تركية، كما أفاد موقع "توركيش مينوت". في السياق ذاته، أوردت مجلة "فورين بوليسي" أن المصرف المركزي "مدين بـ 54 مليار دولار للبنوك التركية".

وإزاء عواقب الاستثمار في الحروب والنزاعات وفتح جبهات والسياسات التوسعيّة، يعتبر كاغابتاي أن "الاقتصاد هو كعب أخيل أردوغان، ليس فقط على المستوى المحلي، ولكن أيضاً في السياسة الخارجية". ويضيف أن "الاقتصاد لا يحدّد فقط هل تستطيع تركيا مواصلة عرض عضلاتها"، بل إن تدهوره لن يمكّنها من تخصيص "موازنة لكل هذه المعارك والجبهات"، حسبما قال لشبكة CNN.

اقرأ أيضاً: