
على الرغم من إعفاء الصين بعض الواردات الأميركية من رسومها الجمركية المرتفعة، الجمعة، وظهور مؤشرات على عزم واشنطن خفض تعريفاتها على الواردات الصينية، في بعض الحالات إلى النصف، إلا أن بكين استنفرت طاقاتها للحد من تداعيات "حرب الرسوم" المستعرة بين أكبر اقتصادين في العالم.
وقال أحد الخبراء الصينيين، إن بلاده تعتمد حالياً على "سياسية الهجوم الدفاعي"، عبر الموازنة بين تقديم المعونة قصيرة المدى لقطاعاتها الصناعية، مع إجراء إصلاحات طويلة المدى تمكّنها من الاستدامة والنمو.
وفي هذا السياق، تحدث مسؤولون صينيون وخبراء لـ"الشرق"، عن اتجاه بكين للعمل على أكثر من صعيد من أجل خلق بدائل للسوق الأميركية، ووضع خطة لتعزيز الاستهلاك المحلي، وتهيئة الأرضية لذلك في أكثر من مجال، ولا سميا تعزيز الأجور، بهدف تحويل عدد سكانها الهائل البالغ نحو 1.4 مليار نسمة إلى مُحرك نحو نمو مستدام.
كما تسعى الصين للانفتاح على الاستثمار الأجنبي، وتوطيد الاتفاقيات التجارية مع الشركاء الرئيسيين للاتحاد الأوروبي والاقتصادات الواقعة على طول "مبادرة الحزام والطريق"، وهو مشروع يقضي بإقامة منشآت وبنى تحتية كمرافئ وطرقات وسكك حديد، لاسيما في الدول النامية، كما أنه يسهم في تأمين إمدادات الصين.
وكان لافتاً، ما جاء في تصريحات لـ"الشرق" من قبل عضو اللجنة الوطنية الرابعة عشرة للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، الذي رأى أن خفض أسعار الفائدة الرسمية يُمكن أن يُعزز تقييمات الأصول ويُشجع الإقراض، كواحد من العوامل التي تساعد على التخفيف من الآثار السلبية للصدمات التي أحدثها رفع الرسوم الجمركية الأميركية.
وجاءت هذه الرؤى بعد مناقشات بشأن الأداء الاقتصادي للصين في الربع الأول، على هامش منتدى التمويل الصيني 40، الذي نُظم، الاثنين الماضي، إذ وضع صانعو السياسات والباحثون، استراتيجية متعددة الجوانب لتحقيق الاستقرار في النمو وسط تصاعد التوترات التجارية العالمية.
زانج بين، عضو اللجنة الوطنية الرابعة عشرة للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني CPPCC، وهي أعلى هيئة استشارية سياسية في البلاد، توقع في تصريح لـ"الشرق"، أن يُحدث تعزيز الاستهلاك المحلي في الصين "تأثيراً إيجابياً" على الصعيدين المحلي والدولي.
وأضاف زانج الذي يتولى أيضاً منصب نائب مدير معهد الاقتصاد والسياسة العالميين في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية CASS، أن "الاقتصاد الصيني حافظ على زخم قوي بدءاً من الربع الأخير من عام 2024، مدفوعاً بسياسات مالية استباقية، وتحفيز مُستهدف للطلب المحلي"، معتبراً أن ذلك "انعكس في الربع الأول من عام 2025".
وأظهرت بيانات المكتب الوطني للإحصاء، أن الناتج المحلي الإجمالي للصين نما بنسبة 5.4% على أساس سنوي في الربع الأول، متجاوزاً التوقعات، إذ سجل ارتفاعاً ربع سنوي بنسبة 1.2%، ما عده الخبراء الصينيون على أنه دلالة على "فعالية سياسات مواجهة التقلبات الدورية".
ووفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن البنك المركزي الصيني، بنك الشعب الصيني PBoC، فقد جمعت الحكومة الصينية، من المستوى المركزي إلى المحلي، صافي 3.87 تريليون يوان (حوالي 529 مليار دولار) عبر إصدار السندات خلال الربع الأول من عام 2025، مسجلةً بذلك مستوى قياسياً مرتفعاً، بزيادة قدرها 2.52 تريليون يوان (نحو 344.6 مليار دولار)، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وأشار زانج، إلى أن "هذه الإجراءات قد حسّنت التدفقات النقدية للقطاعات غير الحكومية بشكل مباشر، ما عزز الأرباح في قطاع الصناعة ودخل الأسر".
توسيع السوق المحلية
ولكن هذه الأرقام المُبشرة لبداية السنة، سبقت الصدمات التي يواججها الاقتصاد الصيني حالياً، بسبب قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب برفع التعريفات الجمركية، والتي يأمل الخبراء الصينيون أن ينحصر تأثيرها على المدى القصير.
ولمواجهة ذلك، سلّط الخبراء الضوء على الدور المزدوج للاستهلاك المحلي كعامل استقرار اقتصادي في الداخل، إضافة إلى جعله كإشارة دبلوماسية إلى الخارج، ولا سيما للولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، اعتبر جوه كاي الرئيس التنفيذي لمعهد الصين المالي 40 (CF 40)، وهو مركز أبحاث مقره بكين، أن توسيع "السوق المحلية الضخمة" في الصين أمر بالغ الأهمية للتحوط من خسائر الطلب الخارجي.
وشدد كلي في حديثه لـ"الشرق"، على أنه "عندما تُثقل الرسوم الجمركية الأميركية كاهل الصادرات، فإن تعزيز الاستهلاك المحلي لا يدعم النمو فحسب، بل يُخفف أيضاً من مخاوف الاقتصادات الأخرى بشأن احتمال تحويل مسار الصادرات".
واعتبر أنه ذلك "وضع مُربح للجانبين"، وأضاف: "فهو محلياً يُعزز فرص العمل والدخل، أما دولياً، فيُظهر التزام الصين باستيعاب طاقتها الإنتاجية بدلاً من تحويل مسار الصادرات إلى أماكن أخرى، تُؤكد من خلالها على خطة العمل الخاصة لتعزيز الاستهلاك" كاستراتيجية كشفت عنها الصين مؤخراً.
خطة لتعزيز الاستهلاك المحلي
وتهدف الخطة التي تضم 30 إجراء في 8 مجالات، إلى نمو الدخل عبر زيادة دخل الأسر، وتعزيز أجور العمال، وتقديم إعانات موجهة للفئات ذات الدخل المنخفض، وتعزيز جودة استهلاك الخدمات، ورفع مستوى نسبتها بشكل شامل، وتحسين بيته، إلى جانب الاهتمام بتخفيف الأعباء على التعليم والرعاية الصحية.
وفي هذا الإطار رأى زانج بين، في حديثه لـ"الشرق"، أنه "من خلال تعزيز الرغبة والقدرة على الاستهلاك، وخاصة بين العمال المهاجرين وسكان المدن الذين لا يتمتعون بضمان اجتماعي كامل، يُمكن للصين تحويل عدد سكانها الهائل إلى مُحرك نمو مستدام".
المجالات الثمانية التي تركز عليها خطة تعزيز الاستهلاك:
- 1. تعزيز نمو دخل سكان الحضر والريف.
- 2. دعم وحماية القدرة الاستهلاكية.
- 3. تعزيز استهلاك الخدمات والمنافع العامة.
- 4. تطوير وتجديد الاستهلاك واسع النطاق.
- 5. تحسين جودة الاستهلاك.
- 6. تحسين بيئة المستهلك.
- 7. تحسين الإجراءات التقييدية وإزالتها.
- 8. تحسين توافر الائتمان وسياسات الدعم المالي.
أسعار السيارات الكهربائية
وفي ظل السياسية الحمائية التي تنتهجها الإدارة الأميركية، يسلّط الخبراء، الذين تحدثت معهم "الشرق"، الضوء على جهود الصين لتعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الرئيسي لها، باعتبارها محورية في الحفاظ على التجارة الحرة العالمية.
ووصف الرئيس التنفيذي لمعهد الصين المالي، رداً على سؤال لـ"الشرق"، الاختراق الأخير في مفاوضات الصين والاتحاد الأوروبي بشأن السيارات الكهربائية، بأنه "إشارة إيجابية"، وسط تصاعد الخلافات التجارية مع الولايات المتحدة.
يُذكر أن الصين والاتحاد الأوروبي اتفقا، في 8 أبريل الجاري، على بدء مشاورات بشأن قضايا الوصول المتبادل إلى الأسواق في أقرب وقت، والتفاوض على حل لتحديد حد أدنى لأسعار السيارات الكهربائية الصينية الصنع في الأسواق الأوروبية، بدلاً من الرسوم الجمركية التي فرضها الاتحاد، العام الماضي.
وكان الاتحاد الأوروبي، فرض في أكتوبر الماضي، رسوماً جمركية على السيارات الكهربائية المصنعة في الصين، شملت 17% على سيارات شركة BYD، و18.8% على شركة Geely، و35.3% على شركة SAIC، إضافة إلى رسوم استيراد السيارات القياسية التي يفرضها التكتل والبالغة 10%.
ومن شأن الحل الجديد، الناتج عن مفاوضات أبريل، والتي جمعت بين وزير التجارة الصيني وانج وينتاو، ومفوض التجارة بالاتحاد الأوروبي ماروش شيفتشوفيتش، أن يعود بالنفع على الجانبين، وأن يهيئ ظروفاً مواتية للاستثمار والتعاون الصناعي بين الشركات الصينية والأوروبية. ويشمل الاتفاق، تعزيز التعاون الاستثماري في قطاع السيارات.
ويرى جوه كاي أن هذا "يظهر أن الحوار، وليس المواجهة، هو السبيل لحل النزاعات"، وأنه "من خلال ضمان تسعير عادل، وتهيئة ظروف مواتية للمشاريع المشتركة، يمكن للجانبين تقاسم المنافع، تماماً كما فعلت شركات صناعة السيارات الأوروبية في السوق الصينية قبل 3 أو 4 عقود".
استئناف مرتقب للمفاوضات مع أوروبا
وأشار جوه إلى أن استئناف مفاوضات معاهدة الاستثمار الثنائية بين الصين والاتحاد الأوروبي (BIT) في وقت مبكر، وهي اتفاقية تاريخية توقفت عام 2020 بسبب عقبات سياسية، من شأنه أن يعزز العلاقات الاقتصادية بشكل أكبر. وتوفر المعاهدة للجانبين وصولاً أكبر إلى الأسواق، وبيئة عمل أفضل، وضمانات مؤسسية أقوى، وآفاقاً أكثر إشراقاً للتعاون.
ولفت جوه إلى أن الاتحاد الأوروبي "يُعيد تقييم سياساته الصناعية في ظل الرسوم الجمركية الأميركية، ويشارك الصين اهتمامها بالحفاظ على تدفقات استثمارية مفتوحة. فعلى سبيل المثال، يُمكن للشركات الصينية التي تستثمر في تصنيع السيارات الكهربائية الأوروبية أن تُوفر فرص عمل محلية مع الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، وهو وضع نموذجي مربح للجانبين".
ويُعد الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر شريك تجاري للصين، كما أصبحت بكين ثاني أكبر شريك تجاري لبروكسل. مع ذلك، يرى الخبراء أن العلاقة بين الجانبين تُعتبر واحدة من أكثر العلاقات تعقيداً في العالم، معتبرين أن تعزيز هذه الشراكات أمر بالغ الأهمية، إذ تُهدد حملة الرسوم الجمركية الأميركية بتفتيت سلاسل التوريد العالمية.
ولذلك يرى هوانج يي بينج، عميد المدرسة الوطنية للتنمية بفي جامعة بكين، في حديث لـ"الشرق"، أن لبلاده وأوروبا "مصلحة مشتركة في دعم نظام منظمة التجارة العالمية"، لافتاً إلى أن الحلول التعاونية في قطاعات مثل التكنولوجيا الخضراء، والتجارة الرقمية يُمكن أن تُشكل سابقة للتعاون متعدد الأطراف.
هل تُخفض الصين أسعار الفائدة؟
وللتغلب على الصدمات قصيرة المدى، ورفع التعريفات الجمركية من بينها، دعا الخبراء، إلى مزيج من التحفيز المالي والمرونة النقدية والتخفيف المُستهدف للصناعات المتضررة، إذ يُشدد زانج بين، على أهمية السياسات المُعاكسة للدورة الاقتصادية، بما في ذلك التخفيضات المُحتملة في أسعار الفائدة وزيادة الاستثمار العام لتعزيز الطلب الكلي.
وشجع زانج في حديث لـ"الشرق"، على "خفض أسعار الفائدة الرسمية"، الذي رأى أنه "يُمكن أن يُعزز تقييمات الأصول ويُشجع الإقراض، بينما يُسهم الإنفاق العام في البنية التحتية والخدمات الاجتماعية بشكل مباشر في خلق فرص العمل، لا سيما في المناطق المُوجهة نحو التصدير مثل قوانجدونج وتشجيانج".
وأبرز هوانج يي بينج دور قيادة الحكومة المركزية في دعم الشركات المُوجهة نحو التصدير، وفسر ذلك بأن "الحكومات المحلية تتعرض بالفعل لضغوط مالية، لذا ينبغي على الحكومة المركزية أن تأخذ زمام المبادرة في تقديم إعفاءات ضريبية، وقروض منخفضة الفائدة، ودعم الأجور لمنع تسريح العمال بشكل جماعي".
وفي ما يتعلق بالاستقرار المالي، يعتقد زانج، أن استقرار سعر صرف اليوان الصيني أمر بالغ الأهمية لـ"تجنب دورة انخفاض القيمة والذعر"، مشيراً إلى أن استخدام "صندوق الاستقرار" لمواجهة التقلبات المفرطة في أسواق الأسهم والعملات الأجنبية "لعب دوراً مهماً".
كما شدد زانج، على أهمية الإصلاحات الهيكلية طويلة المدى، ولا سيما تحسين توزيع الدخل والضمان الاجتماعي لرفع معدلات الاستهلاك، موضحاً أن "تعزيز الرعاية الاجتماعية، والحد من التفاوت في الدخل، ومنح العمال المهاجرين الإقامة الحضرية، وهي تدابير في خطة عمل الاستهلاك، ستعزز تدريجياً الرغبة في الإنفاق".
أما هوانج، اعتبر، في حديث لـ"الشرق"، أن دعم الشركات الخاصة هو "المحرك الرئيسي للابتكار والتوظيف"، واصفاً إياه بأنه "أمر بالغ الأهمية"، داعياً في الوقت نفسه لـ"تبسيط اللوائح، وتعزيز حماية الملكية الفكرية، وضمان تكافؤ الفرص للشركات الخاصة سيعزز ثقة السوق".
"الهجوم الدفاعي"
وعلى الرغم من إظهار واشنطن وبكين أنهما مستمرتان في معركة عض الأصابع، إلا أن ثمة مؤشرات على انفتاح الطرفين على القيام باستثناءات تتعلق برفع الرسوم عن سلع كل من الطرف الآخر، إذا نقلت "رويترز" عن تكتلات تجارية معلومات صينية، عن إعفاء بكين بعض الواردات الأميركية من رسومها الجمركية المرتفعة، الجمعة.
وبينما تنفي الصين، تصريحات الرئيس الأميركي عن بدء المفاوضات بين الطرفين، قالت هذه التكتلات التجارية، إن السلطات في الصين، سمحت باستيراد بعض الأدوية المصنعة في الولايات المتحدة دون دفع الرسوم الجمركية البالغة 125% التي فرضتها بكين هذا الشهر رداً على الرسوم الأميركية البالغة 145%.
في المقابل، نقلت "وول ستريت جورنال" عن مسؤول رفيع في البيت الأبيض، وفي وقت سابق قوله، إن الرسوم المفروضة على الصين، والبالغة حالياً 145%، من المرجح أن تنخفض إلى ما بين 50% و65%، قد تنخفض في بعض الحالات، في محاولة لتهدئة التوترات المتصاعدة مع بكين.
ومع اكتمال سياسية إعادة التموضع من الطرفين، واستمرار حرب التعريفات الجمركية، تعتمد استراتيجية الصين على ما أسماه جوه كاي بـ"الهجوم الدفاعي"، والذي فسّره بانتهاج الدفاع عن الزخم الاقتصادي المحلي من خلال تعزيز الاستهلاك والاستثمار، مع السعي إلى مزيد من الانفتاح على المستثمرين العالميين.
ومع وصول الاقتصاد العالمي إلى مفترق طرق، يتفق الخبراء على أن قدرة الصين على الموازنة بين تقديم المعونة قصيرة المدى والإصلاحات طويلة الأجل، مع تعزيز التعاون مع شركاء مثل الاتحاد الأوروبي والاقتصادات الرئيسية في مبادرة الحزام والطريق، ستحدد ليس فقط مرونتها، بل أيضاً مستقبل العولمة.
وكما قال هوانج يي بينج، في عالم يشهد تزايداً في التشرذم، فإن "التزام الصين بمزيد من الانفتاح والنمو الشامل ليس مجرد خيار سياسي، بل ضرورة لتحقيق الرخاء المشترك".
وهذه الاستراتيجية الشاملة، التي تجمع بين الحيوية المحلية والتعاون الدولي، تُمكن الصين من مواجهة العواصف الوشيكة، مع صياغة نموذج اقتصادي أكثر مرونة، نموذج يُعطي الأولوية للاستقرار والابتكار والتعددية في مواجهة تحديات عالمية غير مسبوقة.