
انضم الرئيس الكوري الجنوبي السابق، مون جاي إن، إلى قائمة طويلة من الرؤساء السابقين الذي يواجهون تحقيقات جنائية بتهم تتعلق بـ"الفساد" أو المحسوبية، أو سوء استخدام السلطة.
ووجهت اتهامات بـ"الفساد" إلى مون جاي إن، الأسبوع الماضي، بعدما اتهمه الادعاء، باستخدام سلطته للمساعدة في حصول صهره، آنذاك، على وظيفة تنفيذية في شركة "تاي إيستار جيت"، وهي شركة طيران يسيطر عليها النائب عن الحزب الديمقراطي الكوري، لي سانج جيك.
وبحسب الادعاء، فإن التعيين كان بمثابة خدمة لمون، الذي كان رئيساً للبلاد في الفترة بين عاميْ 2017 و2022، مقابل تعيين جيك رئيساً لوكالة الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة في كوريا، وأن مون جاي إن، وابنته كانا متورطان بشكل مباشر في تلقي فوائد مالية من الصفقة.
في المقابل، وصف مون جاي إن، لائحة الاتهام بأنها "حالة واضحة من تجاوزات الادعاء العام"، كما اعتبرها الحزب الديمقراطي "محاولة ذات دوافع سياسية لإذلال رئيس سابق وإلحاق الضرر بسمعة الحزب".
وربط خبراء في تصريحات لـ"الشرق"، استغلال السلطات، بالعديد من الأسباب، أبرزها الدستور الذي لا يسمح للرئيس بأكثر من ولاية رئاسية، وبالتالي، بعضهم لا يتوانى عن المخاطرة خلال ولايته التي يتمتع خلالها بسلطات مطلقة، للحصول "على كل شي"، لدرجة الانتقام من خصومه السياسيين، لأنه "لن يُتاح له ذلك مرة ثانية".
ولم يبرِّئ الخبراء، العادات والتقاليد من هذه الدوامة، بحيث لم يسلم من هؤلاء الرؤساء من اتُهم منهم باتخاذ قرارات على أساس "الشعوذة".
اتهامات وشبهات تلاحق الرؤساء السابقين
كان مون، واحداً من 9 رؤساء لكوريا الجنوبية منذ ثمانينيات القرن الماضي، وترتيبه السابع، ستة منهم وواجهوا المصير ذاته في الاتهام والخضوع للمحاكمات، أربعة منهم وصلوا إلى السجن، ومنهم تشون دو هوان، الذي كان جنرالاً في الجيش قبل أن يحكم البلاد في الفترة بين عامي 1980 و1988، بسبب سلسلة من الجرائم، كما سُجن رو تاي وو، بسبب دوره في حُكم الديكتاتور هوان.
ومؤخراً سُجن لي ميونج باك، وبارك جيون هيه؛ بسبب تهم تتعلق بالرشوة، وإساءة استخدام السلطة، لكن الرؤساء اللاحقون عفوا عن المحكومين الأربعة.
وعلاوة على ذلك، كان روه مو هيون، قيد التحقيق بتهمة السرقة وقت انتحاره، في حين يواجه الرئيس الأخير يون سوك يول حالياً محاكمة جنائية بسبب إعلانه الأحكام العرفية في ديسمبر الماضي، التي أدخلت البلاد في حالة من الفوضى.
وكان مون جاي إن، المعروف بجهوده للمصالحة مع كوريا الشمالية، بما في ذلك زيارته إلى كيم جونج أون في بيونج يانج، هو الوحيد من بين الرؤساء الخمسة الأحدث الذي لم يواجه أي تحقيق بعد توليه منصبه. وكان يُنظر إليه عموماً على أنه "نظيف" نسبياً مقارنة بمن سبقوه الذين دُمغت مسيرتهم بالفضائح.
ويبدو أن مون، أراد حياة هادئة بعد ترك منصبه، فانتقل إلى قرية في جنوب شرق البلاد، ولكن مثل سلفه اليساري روه مو هيون، الذي أدار مزرعة للبط في الريف بعد توليه الرئاسة، لم يحظ مون بمثل هذا السلام في التقاعد.
وحتى قبل إجراء التحقيقات الأخيرة، كان المتظاهرون يأتون إلى القرية، ويزعمون أن مون كان عميلاً لكوريا الشمالية.
وبث العديد منهم الاحتجاجات مباشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ولم يفاجأ العديد من مراقبي السياسة الكورية بأن مون انتهى به الأمر إلى مواجهة تحقيق من قبل النيابة العامة،
مثل هذه التحقيقات مع الزعماء السابقين شائعة جداً، لدرجة أنها "أصبحت جزءاً من النظام الرئاسي في كوريا الجنوبية".
ولاية واحدة تُشجّع على المخاطرة
ديفيد تيزارد، أستاذ الدراسات الكورية في جامعتيْ هانيانج وسول للسيدات، قال لـ"الشرق"، إن "رئاسة كوريا الجنوبية غالباً ما يطلق عليها محلياً اسم الرئاسة الإمبراطورية، وهناك قدر كبير من السلطة متركزة في يد فرد واحد".
وأضاف: "تمتد هذه السلطة إلى السيطرة القضائية وتعيين كبار المسؤولين الإعلاميين، وبالإضافة إلى ذلك، لا يستطيع الرؤساء الكوريون الترشح لولاية ثانية، وهو ما يشجع الرئيس على المخاطرة وتجاوز الحدود، لكن ما يحدث بعد ذلك، أنه ما أن تنتهي ولايتهم الرئاسية يفقدون كل السلطة والحماية السياسية، والسلطة المطلقة التي امتلكوها خلال توليهم الحكم".
وتابع تيزارد: "يمكن للرئيس الحالي أن يستغل هذه السلطة أثناء وجوده في منصبه، ولكن من الممكن أن يصبح هو نفسه هدفاً للملاحقة القضائية بمجرد خروجه من منصبه، وما يُسهِّل ذلك، أن سلطة الادعاء العام تتمتع في كوريا الجنوبية بسلطة أكبر بكثير من تلك الموجودة في بلدان أخرى، بما في ذلك سلطة إجراء التحقيقات أو توجيهها".
وقد يكون التغيير في الحظوظ سريعاً، إذ لم يتم تأكيد عزل يون سوك يول، إلا قبل شهر واحد، وفي حين يواجه اتهامات تتعلق بإعلانه الأحكام العرفية، فقد داهمت النيابة العامة، هذا الأسبوع، مسكنه الخاص بشأن قضية غير ذات صلة تتعلق بعلاقات يون المزعومة مع "شامان"، يُشتبه في تلقيه أموالاً سياسية غير قانونية.
"سماسرة" السلطة السياسية
"الشامان" في كوريا الجنوبية، هو شخصية دينية أو أشبه بوسيط روحي، يلجأ إليها الناس من أجل الاسترشاد في الحياة العملية والشخصية.
وتصف صحيفة "جونجانج" الكورية الجنوبية، طبيعة العلاقات التي تربط الشامان بيون وسياسيين آخرين بأنها "لا تزال محاطة بالغموض"، في وقت يعتقد البعض أنهم نوع من "سماسرة" السلطة السياسية.
وفي ما يتعلق بيون في الأساس، هناك قواعد صارمة للغاية بشأن تمويل الانتخابات في كوريا، ويُعتقد أنه خالفها، ويشتبه في أن "الشامان" هو وسيط للضغط السياسي وتم العثور على الكثير من الأموال في منزله أو مكتبه.
وبحسب صحيفة "كوريا جوونج آنج" اليومية، فإن المزاعم تفيد بأن يون اُتهم باعتماده على استشارات ونصائح "شامان" يُدعى جيون جين، خلال الحملة الانتخابية الرئاسية في عام 2022، وما بعدها.
ويتبع هذا "الشامان" نظام "إيلجوانج جوجي"، وهو فرع من أكبر تيار بوذي في كوريا الجنوبية.
ومن منظور قانوني، فإن حقيقة كونه شاماناً ليست ذات صلة، لكن الكثير من أعداء يون يزعمون أنه يتبع الشامانية أو اتخذ قرارات سياسية معينة بسبب الشامانية وهو أمر سيء لأن المسؤولين العموميين من المفترض أن يتخذوا قرارات عقلانية ولا يسترشدوا بالخرافات.
"الفائز يأخذ كُل شيء"
الباحث التاريخي الكوري شين سانج وون، قال لـ"الشرق"، إن نظام "الرئاسة الإمبراطورية" ينبع من الديكتاتوريات العسكرية السابقة في كوريا الجنوبية، التي حكمت البلاد في النصف الأخير من القرن الـ20، معتبراً أن الإصلاح الحقيقي الوحيد للنظام الرئاسي بعد التحول الديمقراطي، كان إدخال حدود ولاية واحدة لمنع الديكتاتوريات المستقبلية.
وأضاف أن "الإصلاحات أبقت الرئاسة قوية للغاية، لذا ظل النظام يعتمد على الفائز يأخذ كل شيء. هذا النظام لا يشجع على التسوية السياسية؛ لأن المعارضين السياسيين ينتظرون الانتخابات المقبلة بدلاً من التعاون".
أما تيزارد، فقال إن "استطلاعات الرأي تظهر أن غالبية الكوريين الجنوبيين، فضلاً عن الأكاديميين وعلماء السياسة، يريدون رؤية إصلاح دستوري، على الأرجح على غرار اعتماد نظام فترتين مدة كل منهما 4 سنوات أو تحويل بعض سلطات الرئيس إلى رئيس الوزراء".
وأشار إلى أن السياسيين يدلون بتصريحات تؤيد ذلك، ولكن بمجرد وصولهم إلى السلطة، فإنهم يريدون استخدام السلطة للانتقام أو القصاص من الخصوم السياسيين.
وأضاف تيزارد، أن "حجم التعاون الحزبي المطلوب للإصلاح الدستوري يعني أن أي رئيس جاد في فعل ذلك سوف يضطر إلى التخلي عن الفرصة لاستخدام السلطة الهائلة التي تتمتع بها الرئاسة لمهاجمة أولئك الذين استخدموا تلك السلطة في السابق لمهاجمتهم".
وتابع: "الجميع يعلمون أن الإصلاح ضروري، ولكن من الذي سيتخلى عن السلطة بعد أن يحصل عليها؟".
دائرة الانتقام السياسي
وأوضح تيزارد أن التوصل إلى تسوية يعد "أمراً صعباً" في ظل نظام "الكل أو لا شيء" في كوريا الجنوبية، حيث يعتقد طرف أنه يقاتل ضد الدكتاتورية، بينما يعتقد الطرف الآخر أنه يقاتل ضد الشيوعية.
ولفت إلى أن "التهديد الوجودي" الذي تشكله كوريا الشمالية، "يعني ألا أحد على استعداد للتنازل، وأن الطيف السياسي أضيق مما هو عليه في العديد من الديمقراطيات الأخرى"، مضيفاً: "هذا المزيج له سمات ثقافية كورية مثل المسؤولية الجماعية وفكرة فقدان الوجه، وهو مصطلح يعني الشعور بالخزي".
وقال تيزارد، إن "فقدان شخص لوجهه، أمر لا يُغتفر" في المجتمع الكوري، مشدداً على أن "أهمية السمعة" تدفع بعض الناس إلى السعي للانتقام بسبب قضايا قد تبدو تافهة بالنسبة لأشخاص من بلدان أخرى، ما يزيد من صعوبة كسر دائرة الانتقام.
لكن تيزارد يرى أن كوريا الجنوبية لا تزال "ديمقراطية شابّة"، يشارك فيها المواطنون إلى حد كبير في محاسبة قادتهم، في حين من المرجح أن يلقي السياسيون في الانتخابات المقبلة خطابات بشأن الحاجة إلى الوحدة الوطنية، "فمن غير المرجح أن يتمكن الفائز في الانتخابات الرئاسية المقررة في مايو المقبل، من وقف دورة الانتقام الحزبي"، على حد وصفه.