
كشف تقييم حديث صادر عن التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) عن كارثة إنسانية متفاقمة في قطاع غزة، مشيراً إلى أن نسبة هائلة من السكان تواجه مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي.
خلال الفترة من 1 أبريل إلى 10 مايو 2025، صُنف 1.95 مليون شخص، أي 93% من سكان غزة، في "مرحلة الأزمة أو ما هو أسوأ". وتتضمن هذه النسبة 925 ألف شخص (44%) في مرحلة "الطوارئ" (الرابعة)، بينما وصل 244 ألف شخص (12% من السكان) إلى "مرحلة الكارثة" (المرحلة الخامسة)، وهي أخطر المراحل التي يعاني فيها الأفراد من مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي، ويواجهون خطر المجاعة المباشرة.
وأظهر هذا التقييم المشترك مع "منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة" (الفاو)، و"مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية" (UNOSAT)، أن يشهد المستقبل القريب (من 11 مايو وحتى نهاية سبتمبر 2025) ارتفاع عدد الأشخاص في "مرحلة الكارثة" ليصل إلى 470 ألف شخص، أو 22% من سكان غزة، مما يرفع بشكل كبير احتمالات تفشي المجاعة على نطاق واسع في القطاع.
تشير "الدرجات الخمس للمجاعة" إلى نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، وهو إطار تحليلي عالمي يستخدم لتقييم وتصنيف شدة انعدام الأمن الغذائي الحاد وسوء التغذية.
الدرجات الخمس للمجاعة:
المرحلة 1: الحد الأدنى لا يوجد انعدام أمن غذائي (Minimal / None)
- الناس قادرون على تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية وغير الغذائية دون اللجوء إلى استراتيجيات تأقلم غير معتادة أو غير مستدامة.
- الأسر لديها وصول مستمر وكمية ونوعية كافية من الغذاء.
المرحلة 2: الإجهاد (Stressed)
- الناس لديهم حد أدنى من استهلاك الغذاء الكافي، ولكنهم يواجهون صعوبة في تحمل بعض الاحتياجات غير الغذائية الأساسية دون اللجوء إلى استراتيجيات تأقلم إجهادية.
- قد تضطر الأسر إلى تقليص الإنفاق على التعليم أو الصحة أو غيرها من الاحتياجات الأساسية.
المرحلة 3: الأزمة (Crisis)
- الناس لديهم فجوات كبيرة في استهلاك الغذاء، أو أنهم بالكاد قادرون على تلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية فقط من خلال استخدام استراتيجيات تأقلم، مثل بيع الأصول المنتجة أو التزايد في الديون.
- مستويات سوء التغذية الحاد مرتفعة بشكل غير طبيعي.
المرحلة 4: الطوارئ (Emergency)
- الناس لديهم نقص حاد في الغذاء، مما يؤدي إلى مستويات عالية جداً من سوء التغذية الحاد وزيادة الوفيات.
- تكون استراتيجيات التأقلم المعتادة غير فعالة، ويتطلب الأمر تدخلات إنسانية واسعة النطاق وفورية لإنقاذ الأرواح وحماية سبل العيش.
المرحلة 5: الكارثة والمجاعة (Catastrophe / Famine)
- أشد المراحل خطورة، حيث تنهار المنظومة الغذائية بالكامل.
- يواجه الناس نقصاً شديداً للغاية في الغذاء وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية الأخرى حتى بعد الاستخدام الكامل لاستراتيجيات التأقلم.
- هناك مستويات حرجة للغاية من سوء التغذية الحاد والوفيات الناجمة عن الجوع والمرض.
- تُعلن المجاعة عندما تكون هناك أدلة على ثلاثة معايير رئيسية، وهي أن ما لا يقل عن 20% من الأسر تعاني من نقص شديد في الغذاء، ومعدلات سوء التغذية الحاد العالمي يتجاوز 30% لدى الأطفال، ومعدل الوفيات الخام يتجاوز 2 وفاة لكل 10 آلاف شخص في اليوم، أو 4 وفيات أطفال لكل 10 آلاف طفل في اليوم.
انهيار البنية الزراعية
التقييم الذي استند إلى صور أقمار صناعية عالية الدقة ومقارنة مع البيانات المرجعية السابقة للنزاع، أشار إلى أنّ أقل من 5% من الأراضي الزراعية في غزة ما تزال متاحة للزراعة، بالإضافة إلى تدهور حاد في قدرة القطاع على إنتاج الغذاء محلياً، وسط استمرار النزاع والحصار.
وحتى أبريل 2025، تضررت أكثر من 80% من إجمالي الأراضي الزراعية في القطاع (12 ألف و537 هكتاراً من أصل 15 ألف و53)، فيما أصبحت 77.8% من هذه الأراضي غير متاحة فعلياً للمزارعين. وهذا يعني أن 688 هكتاراً فقط، أي 4.6% لا تزال صالحة للزراعة.
والأوضاع أكثر حرجاً في محافظة رفح والمحافظات الشمالية، حيث تكاد تكون الأراضي الزراعية خارج نطاق الوصول بالكامل، مما يحرم مئات الآلاف من السكان من مصدر رئيسي للغذاء والعمل.
دمار شامل للآبار والبيوت البلاستيكية
ولم تتوقف الخسائر عند حدود الأراضي الزراعية، بل طالت أيضاً البُنى التحتية المرتبطة بالإنتاج الغذائي.
ووفقاً للتقييم نفسه، فإن 71.2% من البيوت البلاستيكية "الدفيئات الزراعية" في غزة تعرضت للتدمير أو الضرر، مع تسجيل أعلى نسبة دمار في رفح، حيث ارتفعت نسبة الدفيئات المتضررة من 57.5% في ديسمبر 2024 إلى 86.5% في أبريل 2025.
وفي محافظة غزة، تضررت جميع الدفيئات بنسبة 100%.
أما الآبار الزراعية، وهي شريان أساسي للإنتاج في المناطق المحاصرة، فقد شهدت نسبة دمار بلغت 82.8% من مجمل الآبار في القطاع، مقارنة بـ67.7% في نهاية عام 2024.
خسائر بالمليارات… ومخاطر مستقبلية
قبل اندلاع الحرب الحالية في أكتوبر 2023، كان القطاع الزراعي يشكل نحو 10% من اقتصاد غزة، مع اعتماد أكثر من 560 ألف شخص بشكل مباشر أو غير مباشر على الزراعة وتربية الماشية والصيد.
لكن الهجمات المتكررة واستهداف البنية التحتية الحيوية أجهضت هذا القطاع كليّاً، ما أدى إلى توقف شبه تام في الإنتاج المحلي للغذاء، وارتفاع مستويات البطالة والفقر، وتسارع وتيرة الاعتماد على المساعدات الإنسانية التي تعاني بدورها من قيود خانقة.
تشير تقديرات منظمة "الفاو" إلى أن إجمالي الخسائر والأضرار التي لحقت بالقطاع الزراعي منذ بداية الحرب تجاوزت 2 مليار دولار، منها 835 مليون دولاراً كأضرار مادية مباشرة، و1.3 مليار دولار كخسائر في الإنتاج والدخل.
أما تكلفة التعافي وإعادة الإعمار، فتُقدّر بنحو 4.2 مليار دولار، وهو رقم مرشح للارتفاع في ظل انهيار اتفاقات وقف إطلاق النار، واستمرار استهداف المنشآت الزراعية.
وحذّرت بيث بِشدول، نائبة المدير العام لمنظمة "الفاو"، من خطورة الوضع بقولها إنّ "هذا المستوى من الدمار لا يُمثّل فقط خسارة في البنية التحتية، بل هو انهيار كامل في نظام الأغذية والزراعة في غزة، وانقطاع لسبل الحياة. فما كان في السابق يوفر الغذاء والدخل والاستقرار لمئات الآلاف، أصبح الآن ركاماً. لقد توقفت القدرة المحلية على إنتاج الغذاء. وإعادة البناء ستتطلب استثمارات ضخمة، والتزاماً طويل الأمد لاستعادة سبل العيش… والأمل".
أزمة إنسانية عميقة
ويتزامن هذا الانهيار في النظام الزراعي مع تفاقم أزمة إنسانية غير مسبوقة، حيث يواجه أكثر من مليوني فلسطيني في غزة ظروفاً قاسية من النزوح، وشحّ الغذاء، وغياب الخدمات الأساسية، وسط قيود متزايدة على دخول المساعدات الإنسانية.
وفي ظل انسداد الأفق السياسي وتراجع التمويل الدولي، تبدو فرص التعافي بعيدة المنال، ما لم يتم اتخاذ خطوات عاجلة لوقف تدمير البنية الزراعية، وتأمين المساعدات، وإعادة تشغيل دورة الإنتاج المحلي للغذاء.
يُذكَر أن الأمم المتحدة كانت قد حذّرت مراراً من أن استمرار الحرب وتقييد وصول المساعدات، سيؤديان إلى مجاعة واسعة النطاق، في واحدة من أكثر الأزمات الغذائية حدةً في العالم المعاصر.