لم تكن مفاجئة التظاهرات التي شهدتها إيران أخيراً، احتجاجاً على ندرة المياه، إذ إن البلاد تواجه هذه المعضلة منذ سنوات، نتيجة الاستهلاك المفرط للمياه، وشحّ الأمطار، ودفعت أكاديمياً بارزاً إلى الحديث عن "إفلاس مائي"، فيما رآها مسؤول حكومي مشكلة "أخطر من إسرائيل"، محذراً من تحوّل إيران إلى "مدينة أشباح".
في مايو الماضي، أوردت صحيفة "فايننشال تريبيون" الإيرانية أن توقعات أعدّتها "المنظمة العالمية للأرصاد الجوية"، أفادت بأن السنوات الخمس المقبلة ستشهد انخفاضاً في معدل هطول الأمطار في إيران بنسبة 75%، كما سترتفع درجة الحرارة بنسبة 50-75%.
ونجم نقص المياه عن جفاف يُعتبر سابقة، إذ يبلغ المعدل السنوي لهطول الأمطار في إيران 250 ميليمتراً، وهذا أقلّ من ثلث المعدل العالمي، البالغ 990 ميليمتراً.
ومع انخفاض معدل مستوى المياه في السدود بنسبة 47%، من سبتمبر 2020 إلى يوليو 2021، كما أوردت صحيفة "طهران تايمز"، أدى الجفاف إلى تفاقم أزمة الكهرباء، إذ تعتمد إيران جزئياً على السدود الكهرومائية، لتوليدها. وحذر الرئيس حسن روحاني في مطلع الشهر، من أن توليد الطاقة الكهرومائية "شبه" معدوم.
"افتقار إلى الرؤية"
لكن "معهد الدفاع عن الديمقراطيات" اعتبر أن "سوء إدارة" إيران لمواردها المائية "طيلة عقود، أدى إلى نقص في المياه العذبة"، مشيراً إلى "مشكلة تفاقمت بسبب الجفاف وارتفاع درجات الحرارة، نتيجة تغيّر المناخ".
وأضاف أن "سياسات الحكومة الإيرانية أدت بشكل منهجي إلى الإفراط في استخدام المياه"، لافتاً إلى "الافتقار إلى الرؤية، وتشييد الحرس الثوري سدوداً من دون عراقيل، وعدم كفاية البنية التحتية لتوزيع المياه، والزراعة غير الفعالة، ومشاريع نقل المياه بين الأحواض، وتدهور نوعية المياه".
ولفت إلى ارتفاع حاد في مستويات الملح بنهر كارون، الأضخم في إيران، "بعدما شيّد الحرس الثوري سد كتوند على أرض قريبة من طبقات الملح، رغم تحذيرات من تأثير محتمل".
وتابع أن "الملوحة المرتفعة أسفرت عن إتلاف أراضٍ زراعية في محافظة خوزستان، الغنية بالنفط والتي كانت أيضاً مركزاً زراعياً خلال مئات السنين".
وأشار المعهد إلى "جفاف بحيرة أرومية وأنهار رئيسة كثيرة"، ما دفع "كثيرين يقيمون في الريف، إلى الانتقال إلى مدن صفيح في مناطق حضرية. واعترف مسؤولون حكوميون إيرانيون بأن ربع السكان يقيمون في تلك المناطق".
وتحدث المعهد عن "وصفات لاضطرابات اجتماعية وسياسية"، لافتاً إلى "تزايد الاحتجاجات في المناطق المنكوبة (بشحّ المياه)، في العقد الماضي".
"استنفاد المياه الجوفية"
بحيرة أرومية، وهي مالحة في شمال غرب إيران، كانت الأضخم في الشرق الأوسط، استُنفدت إلى 5% من حجمها السابق، في غضون عقدين. كما أن نهر زاينده، الذي يتدفق في وسط إيران، بات شبه جاف بعد تحويله وتشييد سدود عليه، لتأمين ريّ للمزارع، كما أوردت صحيفة "واشنطن بوست".
ونقلت عن ناصر كرمي، وهو عالم مناخ فيزيائي إيراني وأستاذ مشارك في جامعة بيرغن النرويجية، قوله: "خلال أقلّ من 50 سنة، استخدمنا كل إمدادات المياه الجوفية باستثناء 30%، والتي استغرق تجميعها مليون سنة، ويزداد الأمر سوءاً نتيجة التنمية غير المستدامة".
وأشارت معصومة ابتكار، النائبة السابقة للرئيس الإيراني، إلى أن استخدام مواطنيها للمياه هو "ضعف المعيار العالمي"، فيما قال مهدي ميرزائي، أستاذ إدارة الموارد المائية في جامعة آزاد الإسلامية بطهران: "استنفدنا المياه الجوفية بشكل مفرط، وهي نوع من الموارد المائية المخفية.. نعاني جفافاً شديداً، ولكن كان بإمكاننا منع هذه المشكلات، أو على الأقلّ إعداد خطة أفضل" لمعالجتها.
تشييد سدود
شهدت إيران في السنوات الماضية احتجاجات بسبب شحّ المياه بمناطق متفرقة، بما في ذلك محافظة بوشهر، وأصفهان وخوزستان، علماً أن البلاد تستخدم نحو 90% من مواردها المائية، للزراعة.
ويقيم نحو 71% من سكان إيران (عددهم 82 مليوناً) في مناطق معرّضة لخطر خسوف أرضي، بسبب الإفراط في استخراج موارد المياه الجوفية، كما أن 70% من الطلب على المياه في إيران، مرتبط بهذه المناطق، علماً أن المياه الجوفية تشكّل 55% من استخدامات المياه في إيران.
تنفذ السلطات الإيرانية خطة لنقل المياه من الخليج إلى مقاطعات في وسط البلاد، وتشمل 4 خطوط رئيسة لإمداد المياه، وعدداً متزايداً من محطات تحليتها. ويُرجّح أن تكلّف الخطة 285 مليار دولار، لدى استكمالها بحلول عام 2025، فيما يتوقع مسؤولون أن توفر نحو 70 ألف فرصة عمل.
لكن تلك الخطة قد لا تكفي لتسوية أزمة متفاقمة، لا سيّما أن دراسة أعدّها باحثون إيرانيون في جامعة مالايا الماليزية، أفادت بأن تشييد سدّ سيوند في مقاطعة فارس عام 2007، كان بمثابة كارثة "دمّرت آلاف الأفدنة من الأراضي العشبية" في وسط إيران.
وكنتيجة مباشرة لتشييد السدّ، جفّت بختكان، ثاني أضخم بحيرة في إيران، التي تحتل المرتبة الثالثة عالمياً في تشييد السدود، بعد الصين وتركيا، إذ تجاوز عددها 600، منذ الثورة في عام 1979، والتي سرّعت التصحّر.
"حرب مياه"
في عام 2013، حذر عيسى كلانتري، وهو الآن رئيس دائرة البيئة في إيران، وكان وزيراً للزراعة، من أن أزمة المياه هي "المشكلة الرئيسة التي تهدد" البلاد، معتبراً أنها أخطر "من إسرائيل أو أميركا أو التناحر السياسي" بين النخبة في إيران. وأضاف: "إذا لم يتم إصلاح هذا الوضع، فستصبح إيران مدينة أشباح خلال 30 سنة".
وبعد 3 سنوات، نبّه كلانتري إلى أن أزمة المياه في إيران "أشدّ بكثير" من المتوقع، قائلاً: "لن تكون هناك مياه في إيران خلال أقلّ من 50 سنة". وأضاف: "إذا بقي استهلاك المياه للزراعة عند هذا المستوى، فخلال أقلّ من 25 سنة ستكون المناطق الشرقية والجنوبية من إيران مهجورة تماماً، وسيُضطر 50 مليون شخص إلى الهجرة".
ولم يتردّد كلانتري في انتقاد دعاة زيادة عدد السكان في إيران، وأبرزهم المرشد علي خامنئي، قائلاً: "توقفوا عن ترديد شعارات والقول إن بلادنا عظيمة. مواردنا محدودة".
كلانتري الذي عُيّن في عام 2017 نائباً لرئيس الجمهورية مكلّفاً بملف حماية البيئة، رجّح في مطلع هذا الصيف اندلاع "حرب مياه" في الريف، معتبراً أن ذلك يعرّض إيران لخطر "القضاء عليها"، كما أفادت وكالة "بلومبرغ".
"جاسوس" بيئي
وكانت طهران أقدمت على خطوة أثارت تفاؤلاً، إذ عيّنت في عام 2017، الأكاديمي الإيراني البارز كاوه مدني، وهو خبير في شؤون المياه، يحظى بمكانة علمية في الغرب، نائباً لرئيس دائرة البيئة، في محاولة لتسوية مشكلة المياه في بلاده.
لكنه فرّ من إيران، في عام 2018، بعد اعتقاله واستجوابه، فيما اتهمته صحيفة "كيهان"، المحسوبة على خامنئي، بالتجسّس. جاء ذلك خلال حملة طالت ناشطين بيئيين، وأسفرت عن وفاة عالم البيئة، الإيراني - الكندي، كاووس سيد إمامي، في الحجز في ظروف غامضة.
وكتب مدني على "تويتر": "فرّ المتهم من بلد يهاجم فيه المتنمرون الافتراضيون، العلم والمعرفة والخبرة، ويلجؤون إلى نظريات مؤامرة للعثور على كبش فداء لكل المشكلات، إذ يدركون جيداً أن العثور على عدوّ، أو جاسوس أو شخص يلومونه، أسهل بكثير من قبول المسؤولية والتواطؤ في مشكلة".
مدني الذي يعمل الآن في جامعة ييل، تحدث عن الأزمة الحالية التي تشهدها إيران، قائلاً: "النظام مفلس مائياً. الطلب على المياه أكبر بكثير من المياه المتاحة. تستخدم إيران مواردها المائية بشكل غير مستدام، وخوزستان هي مجرد واحدة من أماكن شهدت انفجاراً في النهاية".
وذكّر بأن إيران هي "منطقة شبه قاحلة"، معتبراً أن عليها "تغيير نموذجها التنموي". وتابع: "ما نراه في إيران هو أزمة سياسية واجتماعية. لا يستطيع المرء وصف حلول للقطاع البيئي، متجاهلاً كل قضايا الحوكمة والملفات الاجتماعية الأخرى".
"أصعب تحديات" رئيسي
في عام 2016، أعدّ مدني، وعلي ميرشي الذي زامله في دراسة الهندسة المدنية بجامعة تبريز، بحثاً استكمالاً لبحث نشره مدني في عام 2014، اعتبر أن سوء الإدارة في إيران تسبّب في جفاف بحيرات وأنهار ومستنقعات، وأدى إلى تصحّر وزيادة العواصف الترابية.
ووَرَدَ في البحث الذي أعدّه مدني عام 2014 أن الحكومة تبرّر "الأزمة الحالية بتغيّر المناخ، والجفاف المتكرر، والعقوبات الدولية، معتقدة أن نقص المياه دوري". واستدرك أن "هذه المسائل الخارجية ليست سوى عوامل محفزة للأزمات، وليست السبب الرئيس لأزمة المياه". واعتبر أن الإيرانيين "فشلوا في الاستثمار بشكل كافٍ في تطوير نظام مرن لإدارة المياه".
رأى الباحث تامر بدوي أن "معالجة الأزمة المائية في إيران تتطلّب تحوّلات في السياسات، تُراعي الظروف السياسية في البلاد، بما في ذلك تقليص خطط الاكتفاء الذاتي الزراعي جزئياً، أو التخلّي عنها كلياً والحدّ من النموّ السكاني".
أما الكاتب بوبي غوش فلفت إلى أن أزمة المياه "أصعب التحديات التي يواجهها" الرئيس الإيراني المنتخب، إبراهيم رئيسي. وأضاف، في مقال نشرته "بلومبرغ": "مثل خامنئي، يعتقد رئيسي أن على (إيران)، من أجل عزل نفسها عن الضغوط الدولية، أن تعتمد (اقتصاد مقاومة)، وركيزته الأساسية هي الاكتفاء الذاتي الزراعي. واضح أن ذلك مستحيل، فيما تواجه البلاد ما وصفه دعاة حماية البيئة بأنه إفلاس وشيك للمياه. ومن المفارقات أن ندرة المياه هي، إلى حدّ كبير، نتيجة رغبة النظام في الاستقلال الزراعي".