معبر الأحلام أم الكوابيس؟.. إيطاليا تعيد إحياء مشروع جسر صقلية بـ13 مليار يورو

time reading iconدقائق القراءة - 8
الحلم بربط صقلية بالبر الرئيسي ترسّخ في القرن التاسع عشر مع توحيد إيطاليا - Financial Times
الحلم بربط صقلية بالبر الرئيسي ترسّخ في القرن التاسع عشر مع توحيد إيطاليا - Financial Times
روما-عرفان رشيد

بقرارٍ يُمثّل نقطة تحوّل تاريخية بالتخطيط البنيوي في إيطاليا، حصلت الحكومة، الأربعاء، على الموافقة النهائية من اللجنة الوزارية للتخطيط الاقتصادي والتنمية المستدامة (CIPESS) على المشروع التنفيذي لجسر مضيق ميسينا، الرابط بين أرض (القارّة) وجزيرة صقليّة. 

وتُقدّر تكلفة هذا المشروع الضخم بـ13.5 مليار يورو، ويُعدّ من أكبر التحديات الهندسية التي شهدتها أوروبا والعالم.

عملاق بين ضفتين

سيكون الجسر بنية تحتية فريدة من نوعها: جسر معلق بامتداد كلي يبلغ 3.7 كيلومتر، بامتدادٍ مركزي يبلغ طوله  3.3 كيلومتر، ما يجعله الأطول بالعالم في فئته.

وقد صُمّم ليتّسع لأربع مسارات للسيارات (مساران في كل اتجاه بالإضافة إلى مسارين للطوارئ) ومسارين للسكك الحديدية، مما يسمح بمرور 6000 مركبة في الساعة وما يصل إلى 200 قطار يومياً. 

وسيبلغ ارتفاع أبراج الدعم 399 متراً، وستكون متصلة بكابلات فولاذية يبلغ قطرها 1.26 متر، قادرة على مقاومة الزلازل التي تصل إلى 7.5 درجات على مقياس ريختر ورياح تزيد سرعتها عن 200 كلم/ساعة.

تاريخ جسر صقلية

وتعود فكرة ربط جزيرة صقلية بمقاطعة كالابريا، أو ربط الجزيرة بالقارّة الأوروبيّة، إلى ما قبل توحيد إيطاليا، وتوالت المقترحات والدراسات بين القرنين التاسع عشر والعشرين، لكن البدايات الجادة للدراسات لم تبدأ إلا في سبعينيات القرن العشرين.

وفي أوائل الألفية الجديدة، شهد المشروع دفعاً كبيراً في عهد حكومة سيلفيو بيرلسكوني، وصولاً إلى مرحلة إعلان المناقصة، غير أن الانتقادات السياسية والبيئية والاقتصادية حالت دون تنفيذه.

وأعادت حكومة جورجا ميلوني إحياء المشروع عبر مرسوم قانون في عام 2023، وأعادت تنشيط الشركة المسؤولة "جسر مضيق ميسينا ذات المسؤولية المحدودة".

التكاليف والمواعيد والتمويل

تُقدّر التكلفة الإجمالية للمشروع بـ13.5 مليار يورو، منها نحو 5 مليارات مخصصة للجسر نفسه، والباقي لأعمال الربط البرية والسكك الحديديّة.

ويُموّل المشروع من مزيج من الأموال الحكومية، وصناديق أوروبية مخصصة للتنمية، واستثمارات خاصة.

و”من المخطط أن تبدأ الأعمال التمهيدية بين سبتمبر وأكتوبر 2025“، وفق ما أعلنه وزير المواصلات والبنّى التحتية ماتيو سالفيني (نائب رئيسة الوزراء وزعيم رابطة الشمال والمتحمّس الأكبر للمشروع) ”على أن يكتمل بين عامي 2032 و2033“. 

بنية تحتية استراتيجية للدفاع

من أبرز النقاط المثيرة للجدل إدراج الجسر ضمن المشاريع الاستراتيجية للأمن القومي، تماشياً مع التزامات إيطاليا ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي، يُخصّص جزء كبير منها للبنية التحتية، بزيادة تفوق 3% قياساً إلى التزامات روما السابقة.  

وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمپ فرض تلك الزيادات في القمّة الأخيرة للحلف، وعارضتها دول مثل إسبانيا، وجادل بشأنها آخرون، فيما وافقت عليها دول أخرى دونما نقاش مثل إيطاليا.

واعتبر وزير المواصلات والبنى التحتية ماتيو سالفيني ”هذا الجسر مهمّاً للغاية من حيث التنقل المدني والعسكري في منطقة المتوسط“.

وكما هو الحال مع جميع دول الناتو، تعهَّدت إيطاليا برفع إنفاقها الدفاعي السنوي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي خلال 10 سنوات، تُخصص منها نسبة 1.5% للبنية التحتية الاستراتيجية.

وتسعى حكومة ميلوني إلى احتساب تكلفة الجسر ضمن هذا المسعى، وبدأت تروج لأهمية المشروع الاستراتيجية في منطقة البحر المتوسط، حيث تعتقد أن موسكو تسعى إلى توسيع نفوذها.

وقالت السلطات الإيطالية في تقرير، صدر في أبريل، إن المشروع "ذو مصلحة عامة قصوى". وأضافت: "جسر مضيق ميسينا يشكل بنية تحتية أساسية فيما يتعلق بالتنقل العسكري، نظراً لوجود قواعد مهمة لحلف الناتو في جنوب إيطاليا".

وجاء في التقرير أن الجسر، الذي سيخدم حركة المرور البرية والسكك الحديدية، سيلعب "دوراً محورياً في سياق الدفاع والأمن، من خلال تسهيل حركة القوات المسلحة الإيطالية وقوات حلفاء الناتو"، مشيراً إلى "الدور المتنامي لمنطقة البحر المتوسط بوصفها منطقة شديدة الحساسية جيوسياسياً".

مع ذلك، نقلت صحيفة "فاينانشيال تايمز" عن رئيس برنامج الدفاع في المعهد الإيطالي للشؤون الدولية في روما أليساندرو ماروني قوله إن رواية روما "توسِّع مفهوم" الأصول العسكرية، مشيراً إلى أن أولوية الناتو الأساسية تتمثل في ضمان القدرة على نشر القوات المتمركزة في أوروبا الغربية بسرعة نحو الشرق إذا ما هاجمت روسيا الجناح الشرقي للحلف.

وأضاف ماروني أن على إيطاليا أن تركز بدلاً من ذلك على تطوير الموانئ والمطارات والطرق في المناطق التي تنتشر فيها قواتها، قائلاً: "إذا كان لا بد من التوجه شرقاً، فإما عبر (البحر) الأدرياتيكي أو بالطائرة أو عبر جبال الألب".

أصوات معارضة

ومع ذلك، يواجه المشروع معارضة قوية من عدة جهات. ومن أبرز الانتقادات الخطر الزلزالي المرتفع في المنطقة، والتأثير البيئي على النظام الطبيعي الفريد في المضيق، وإمكانية تسلل عصابات الجريمة المنظمة إلى مواقع العمل، ومنها مافيا "كوزا نوسترا" الصقليّة والـ "إندرانجيتا" الكلابريّة، التي تُعدّ من أخطر المافيات في الوقت الراهن، فضلًا عن التكلفة العالية في وقت تواجه فيه البلاد أولويات اقتصادية ملحّة.

يُذكر أنّ مقاطعتي صقليّة وكلابريا من بين أكثر مناطق إيطاليا تعرّضاً للمخاطر الزلزالية، وسبق أن تعرضت مدينة ميسّينا (الواقعة على بعد 70 كيلومتراً من بركان "الإيتنا" الحي)، فجر 28 ديسمبر 1908 لزلزال عنيف بمقياس 7،1 و 7،2 درجة على مقياس ريختر، دمر المدينة عن بكرة أبيها وقتلت نصف سكانها، أي ما يربو على 80 ألفاً، فضلاً عن تعرض مدينتي "ريجّو كلابريا" و"پالمي" لأضرارٍ بليغة شملت سقوط العديد من الضحايا.

الروس أول المُسعفين

ومن الطرائف في هذا الحادث المهول أنّ أول المسعفين هم أفراد طاقم سفينةٍ روسيّة كانت تمخر عباب البحر في تلك الساعات، ثم وصلت الإسعافات من باخرة بريطانية، تلتها بوقتٍ طويل إسعافات الدولة الإيطالية.

وفي هذا الصدد أيضاً، يشير نشطاء البيئة إلى غياب دراسة حديثة لتقييم الأثر البيئي، بينما حذرت لجان محلية من احتمال تنفيذ عمليات هدم وإخلاء، حيث قد يُطلب من حوالي 4000 شخص مغادرة منازلهم لإفساح المجال للبناء.

على صعيد النقل، يشير بعض الخبراء إلى أن تحسين شبكة السكك الحديدية الحالية قد يحقق فوائد أكبر وبتكاليف أقل.

سياسيًا، تطالب قوى مثل "حركة 5 نجوم" وبعض أطياف اليسار بمراجعة المشروع برمّته، مشيرة إلى غياب الحاجة الملحّة له، وإلى غياب رؤية شاملة لتنمية جنوب إيطاليا.

وحتى تصنيفه كمشروع استراتيجي عسكري أثار انتقادات من خبراء دفاع، شككوا في جدواه العسكرية واعتبروه هدفاً رمزياً محتملاً للهجمات.

فرص العمل

سيشرف على المشروع تحالف تقوده شركة Webuild الإيطالية، إلى جانب شركاء إسبان (Sacyr) ويابانيين (IHI).

وتقدّر الحكومة أن المشروع سيخلق أكثر من 100 ألف فرصة عمل، وتصل بعض التقديرات إلى 120 ألف وظيفة سنوياً في فترات الذروة.

كما يُتوقع أن يشمل التأثير الاقتصادي قطاعات الحديد، والإسمنت، والنقل، والخدمات اللوجستية، ما قد يعزز الاقتصاد في جنوب إيطاليا.

مشروع مثير للانقسام

ولا يزال جسر مضيق ميسينا يثير جدلاً واسعاً في المجتمع الإيطالي، فبينما يراه البعض مشروع القرن ورمزاً لإيطاليا التي تستثمر أخيراً في مستقبلها وتماسكها الوطني، يعتبره آخرون مشروعاً متأخراً ومُكلّفاً وخطراً، قد يُهدر موارد عامة في مشروع أكثر أيديولوجية منه نفعيّةً.

والجهات الرقابية، كديوان المحاسبة والمحاكم الإدارية، وكذلك المفوضية الأوروبية، ستكون المحطات القادمة لتحديد ما إذا كان حلم الجسر سيتحقق، أم سيبقى مجرد رمز آخر للفرص الضائعة.

تصنيفات

قصص قد تهمك