
دفعت إدارة الرئيس دونالد ترمب باتجاه الكشف عن وثيقة شديدة السرية تتعلق بتدخل روسيا في انتخابات 2016، وذلك بعد صراع طويل خلف الكواليس بشأن سريتها، انتهى في أواخر يوليو عندما قامت مديرة الاستخبارات الوطنية، تولسي جابارد، بنشر نسخة منقحة بشكل طفيف من التقرير، بحسب ما أفاد به عدد من المطلعين على الأمر.
وأفادت مصادر لصحيفة "واشنطن بوست" بأن جابارد، وبدعم مباشر من ترمب، تجاهلت اعتراضات وكالة الاستخبارات المركزية ووكالات استخباراتية أخرى طالبت بالإبقاء على أجزاء أوسع من الوثيقة سرية حفاظا ًعلى مصادر وأساليب جمع المعلومات الأميركية.
وخلال الشهر الماضي، نشرت جابارد ومدير الـCIA جون راتكليف، ووزيرة العدل بام بوندي، سلسلة من الوثائق الاستخباراتية والتقارير القضائية التي زعموا، دون تقديم أدلة، أنها تثبت أن الاستنتاجات الاستخباراتية بشأن تدخل موسكو لدعم ترمب في الانتخابات كانت "خدعة" دبّرتها إدارة أوباما.
وفتحت وزارة العدل تحقيقاً جنائياً في دور مسؤولين من إدارة أوباما، كما أمرت بوندي بعرض الأدلة المحتملة أمام هيئة محلفين كبرى.
"وثيقة شديدة الحساسية"
التقرير الذي أمرت جابارد بنشره في 23 يوليو يتكون من 46 صفحة، وهو ثمرة مراجعة بدأها الجمهوريون في لجنة الاستخبارات بمجلس النواب عام 2017.
ويطعن التقرير في نتائج أجهزة الاستخبارات الأميركية التي خلصت في وقت سابق من ذلك العام إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أبدى تفضيلاً لترمب على حساب المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، وسعى لدعمه في الفوز.
ورغم ذلك، فقد توصلت عدة تحقيقات مستقلة، بما في ذلك تحقيق ثنائي شامل من لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، إلى أن بوتين تدخل جزئياً لصالح ترمب.
وأكد اثنان من مسؤولي الـCIA السابقين، اللذان قادا التقييم الاستخباراتي، لصحيفة "واشنطن بوست"، تمسكهما بتحليلهما ومصادرهما.
ويُعد هذا التقرير الأشد حساسية من بين ما نشرته إدارة ترمب حتى الآن، ولم يُفصح سابقاً عن تفاصيل كيفية نشره.
ويتضمن التقرير إشارات متعددة إلى مصادر بشرية لوكالة الاستخبارات كانت تتابع خطط بوتين، وهي من بين أكثر المصادر سرية في الوكالة. وبسبب حساسية التقرير، ظل محفوظاً في مقر الـCIA منذ عام 2020، ولم يُرسل إلى الكونجرس.
تحذيرات وانتقادات
وأعرب مشرعون ديمقراطيون ومسؤولون استخباراتيون سابقون عن رفضهم لطريقة الكشف عن الوثيقة، محذرين من أنها قد تعرّض عمليات جمع المعلومات المستقبلية للخطر.
وقال لاري فايفر، وهو مسؤول سابق في الـCIA والبيت الأبيض، في بودكاست "سباي توك": "شعرت تقريباً أنني قد أتعرض للمساءلة لمجرد قراءتي لهذا التقرير .. يمكن بسهولة استنتاج المصادر والأساليب من كل فقرة تقريباً. لم أر من قبل وثيقة بهذه الحساسية تُنشر بهذه الدرجة من التخفيف في التنقيح".
أما السيناتور الديمقراطي مارك وورنر، نائب رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، فقال في بيان: "الإفراج المستهتر واليائس عن تقرير لجنة الاستخبارات بمجلس النواب يُعرّض للخطر بعضاً من أكثر المصادر والأساليب حساسية التي تعتمدها أجهزة استخباراتنا في التجسس على روسيا وحماية الأميركيين... وبذلك، ترسل المديرة جابارد رسالة مرعبة لحلفائنا ومصادرنا حول العالم مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد جديرة بالثقة لحماية ما يُشاركه الآخرون معنا من معلومات استخباراتية".
دوافع سياسية وتباينات داخلية
ووفقاً لشخص مطلع على إجراءات النشر، خضعت الوثيقة لعدة مراجعات من جانب مسؤولين مهنيين ومحامين في مكتب مدير الاستخبارات الوطنية، قبل صدور النسخة النهائية.
ومع ذلك، وفي ظل التحضيرات لإصدارها، كان هناك أكثر من نسخة من التقرير تتداول، بعضها يتضمن تنقيحات أكبر لحماية المعلومات الحساسة، بحسب مسؤولين حاليين وسابقين.
لكن جابارد، التي تقود جهود إدارة ترمب لإعادة النظر في وقائع انتخابات 2016، دفعت باتجاه نشر أكبر قدر ممكن من الوثيقة.
وقال أحد المطلعين على العملية: "قدمت الـCIA مقترحاتها بخصوص التنقيحات والتعديلات على التقرير"، مضيفاً: "لكن جابارد تمتلك سلطة رفع السرية تفوق باقي أجهزة الاستخبارات، ولا يُلزمها الحصول على موافقتهم قبل النشر".
ووافق ترمب في النهاية على إصدار النسخة التي أعدها مكتب جابارد "بأدنى حد من التنقيحات ودون إدخال تعديلات"، بحسب المصدر ذاته.
وتجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين ترمب وجابارد شهدت توتراً في السابق بسبب خلافات علنية بشأن تقييمات الاستخبارات المتعلقة ببرنامج إيران النووي. ولا يُعرف ما إذا كان ترمب اطّلع على النسخ المختلفة للتقرير قبل الموافقة على نشره، ولم يصدر البيت الأبيض أي تعليق على الأمر.
وقالت متحدثة باسم وكالة الاستخبارات إن المدير جون راتكليف "يدعم بشدة" نشر التقرير.
ولا يزال من غير الواضح ما هي التفاصيل الإضافية التي كانت الـCIA تسعى لإبقائها سرية، لكن التقرير يشير إلى معلومات تم الحصول عليها عبر مصادر بشرية، وتنصت إلكتروني، وكذلك معلومات قدمتها حكومات أجنبية للوكالة.
وتم إعداد التقرير في وقت ساد فيه توتر حزبي عميق داخل لجنة الاستخبارات بمجلس النواب، التي ترأسها حينها النائب الجمهوري ديفين نونيز، الذي يشغل حالياً منصب المدير التنفيذي لمنصة ترمب الاجتماعية "تروث سوشيال".
ووصف مسؤولون ديمقراطيون سابقون التقرير بأنه وثيقة أحادية الجانب لا تعكس بدقة جهود أجهزة الاستخبارات في كشف التدخل الروسي.
وظل التقرير موضع خلاف سياسي لسنوات، وفي الثاني من يوليو، وجه رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، النائب الجمهوري ريك كروفورد، رسالة إلى ترمب يحثه فيها على نشر التقرير، مشيراً إلى أنه طالب باستعادته من الـCIA في مارس الماضي، دون أن يتلقى رداً، قبل أن يصدر راتكليف لاحقاً أمراً بتسليمه.