الحركة المحافظة في أميركا.. شرارة غضب حمل شعلتها رونالد ريجان (1- 4)

time reading iconدقائق القراءة - 22
الرئيس الأميركي السابق رونالد ريجان مع زوجته نانسي ريجان في البيت الأبيض. 15 فبراير 1982 - Reuters
الرئيس الأميركي السابق رونالد ريجان مع زوجته نانسي ريجان في البيت الأبيض. 15 فبراير 1982 - Reuters
واشنطن -محمد شهود

في خريف عام 1964، جلس ملايين الأميركيين أمام شاشات التلفاز لمتابعة خطاب سياسي جديد يُبث لدعم حملة مرشح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية آنذاك باري جولدووتر. لم يكن المتحدث سيناتوراً أو جنرالاً، بل كان ممثلاً يبتعد بهدوء عن هوليوود، ليصعد كصوت محافظ يلهب الحشود بخطابات عن السوق الحرة ومحدودية الحكومة. كان اسمه رونالد ريجان.

في خطابه الذي سيُعرف لاحقاً باسم "لحظة الاختيار" A Time for Choosing.  قال ريجان: "أنا وأنت لدينا موعد مع القدر"، ودعا إلى إصلاح الحكومة الأميركية من البيروقراطية.

صحيح أن جولدووتر خسر الانتخابات بهامش كبير، لكن رسالته الرافضة للحكومة الفيدرالية المتضخّمة، والمحذرة من الشيوعية، والداعية للحرية الفردية، أشعلت شرارة أصبحت تشكل الحمض النووي الفكري لحركة سياسية جديدة ستقود ريجان نفسه، بعد 16 عاماً، إلى البيت الأبيض.

تشكلت الحركة المحافظة الأميركية الحديثة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين من خلال التقاء تيارات متباينة، من تقليديين متجذرين في القيم الدينية والنظام المدني، إلى "الليبرتارية" الاقتصادية التي تدافع عن رأسمالية السوق الحرة، إلى صقور الحرب الباردة الذين طالبوا بحضور أميركي قوي في الخارج، فاندمجت جميعها في ائتلاف سياسي قوي غالباً ما أُطلق عليه اسم "الاندماجية" (Fusionism).

وعلى مدار عقود، لم تكن الحركة المحافظة تياراً جامداً، بل كياناً متحوّلاً يعيد تعريف نفسه مع كل جيل. فمن انطلاقتها كحركة نخبوية تقليدية، إلى صعودها مع ريجان كائتلاف واسع جمع بين الصقور والإنجيليين والليبرتاريين، وصولاً إلى عهد الرئيس الحالي دونالد ترمب، الذي مزج الشعبوية بالقومية الاقتصادية تحت شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً" (MAGA)، شهدت الحركة تحولات أيديولوجية حادة، ورافقتها انقسامات داخل الحزب الجمهوري بين جناح ترمب الشعبوي وجناح محافظ تقليدي.

ومع كل مرحلة، أعادت هذه الحركة رسم وجه السياسة الأميركية، حتى باتت اليوم واحدة من أكثر القوى استقطاباً وتأثيراً في المشهد العام.

التيار المحافظ بعد الحرب العالمية الثانية

رغم أن جذور الفكر المحافظ تعود إلى نشأة الولايات المتحدة، وخاصة فيما يتعلق بالشك في السلطة المركزية والتشديد على الضوابط الدستورية، فإن تجذّره كحركة سياسية منظمة لم يبدأ فعلياً إلا بعد الحرب العالمية الثانية.

ففي ثلاثينيات القرن الماضي، أدّت "الصفقة الجديدة" التي أطلقها الرئيس فرانكلين روزفلت، ووسّع من خلالها دور الحكومة الفيدرالية في الاقتصاد بشكل غير مسبوق، إلى إثارة رد فعل سلبي لدى بعض التقليديين والمدافعين عن السوق الحرة. ومع ذلك، لم تبدأ ملامح حركة محافظة موحّدة في التشكل إلا في أواخر الأربعينيات والخمسينيات، تحت تأثير تصاعد الحرب الباردة.

برز عنصران رئيسيان في صعود هذه الحركة بعد الحرب، الأول قاده اقتصاديون ومفكرون مثل الاقتصادي البارز ميلتون فريدمان، الذي وجّه انتقادات حادة لتدخل الدولة في السوق، معتبراً أن الحرية الاقتصادية هي أساس الازدهار. وفي الجانب الثقافي، دافع كتّاب مثل راسل كيرك وريتشارد ويفر عن "التقاليد"، أي القيم الاجتماعية والأسرية والدينية التي يرونها أساس الاستقرار الأميركي.

أما العنصر الثاني فهو موجة شعبوية مناهضة للشيوعية اجتاحت الطبقة الوسطى الأميركية في بدايات الحرب الباردة. يصف المؤرخ الأميركي جورج ناش نشأة الحركة المحافظة المعاصرة بعد الحرب العالمية الثانية، بأنها لم تكن موحدة أو متجانسة. بل كانت تتألف في الأصل من 3 تيارات مختلفة، وهي مجموعة "ليبرتارية" تؤمن بحكومة صغيرة، ومجموعة "تقليدية" تركّز على العودة إلى القيم الأخلاقية والدينية، ومجموعة "مناهِضة للشيوعية" تتبنى نهجاً متشدداً خارجياً.

وأوضح ناش كيف بدأت هذه التيارات الثلاثة بالتوحد في خمسينيات القرن العشرين حول مجلة National Review التي أسسها ويليام إف باكلي جونيور. وفي السبعينيات والثمانينيات، انضم تياران إضافيان إلى هذا التحالف المحافظ: "اليمين الديني" و"المحافظون الجدد".

من بين أبرز الشخصيات التي ساهمت في تشكيل الحركة المحافظة الحديثة كان ويليام ف. باكلي الابن، الذي أسّس في عام 1955، وهو في الـ29 من عمره، مجلة National Review، التي سرعان ما أصبحت المنبر الأبرز للمحافظين.

وأعطت المجلة صوتاً للمفكرين المحافظين ونشطاء القاعدة الشعبية، ووحّدتهم حول قضايا مشتركة.

ومنذ انطلاقتها، لم تكن الحركة المحافظة فكراً موحداً، بل ائتلافاً من عدة مدارس فكرية. وقد اشتهر باكلي بمحاولته التوفيق بين تيارين رئيسيين داخل اليمين الأميركي: المحافظين التقليديين والليبرتاريين، فيما عرف بمفهوم "الاندماجية" (Fusionism)، وهو تحالف سياسي وفكري جمع بين تيارات مختلفة، توحّدها معارضة مشتركة للاشتراكية ولأي توجه يقوم على تقييد الفرد لصالح الجماعة.

لفهم غضب التيار المحافظ بعد الحرب العالمية الثانية، ينبغي العودة إلى "الصفقة الجديدة" التي أطلقها فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات لمواجهة الكساد الكبير. هذه الحزمة وسّعت دور الحكومة الفيدرالية على نحو غير مسبوق، من خلال ضمان اجتماعي وتأمين البطالة، وحدّ أدنى للأجور وحقوق نقابية، وتنظيم البنوك والأسواق، ومشروعات أشغال عامة كبرى (WPA وTVA) ودعم للمزارعين.

عملياً، نشأ في تلك الحقبة نموذج "الدولة الراعية" التي تدير أجزاء واسعة من الاقتصاد، وتقدّم إعانات دائمة للفئات المتضررة.

وبالنسبة للمحافظين، كان هذا التحوّل يعني "دولة أكبر" وضرائب أعلى ولوائح أكثر، وتمدّداً في سلطة واشنطن "المركزية" على حساب الأفراد والولايات.

لحظة "باري جولدووتر" المفصلية

بحلول أوائل الستينيات، كانت الحركة المحافظة في الولايات المتحدة قد بلغت من التنظيم ما مكّنها من تحدي تيار "المؤسسة المعتدلة" في قيادة الحزب الجمهوري. وجاءت حملة السيناتور باري جولدووتر الانتخابية للرئاسة عام 1964 كلحظة حاسمة في هذا المسار.

كان جولدووتر محافظاً صارماً، دافع عن فكرة تقليص الحكومة، والحريات الفردية المطلقة، والمواقف الصارمة ضد الشيوعية. وقال عبارته الشهيرة عند قبوله ترشيح الحزب الجمهوري عام 1964: "التطرف في الدفاع عن الحرية ليس رذيلة". وبها رفض النهج المعتدل القائم على استرضاء الوسط السياسي.

وفي مواجهته للرئيس الديمقراطي ليندون جونسون، قدم جولدووتر بديلاً جذرياً لبرامج "المجتمع العظيم" الليبرالية، مهاجماً الرعاية الاجتماعية والتنظيمات الفيدرالية، وحتى معارضة تشريعات الحقوق المدنية التاريخية بحجة أنها توسع من سلطة الحكومة على الأفراد.

وألحق به جونسون هزيمة ساحقة في واحدة من أكبر الانتصارات في تاريخ الانتخابات الأميركية، حيث فاز جولدووتر بـ6 ولايات فقط، لكن اللافت أن الولايات الخمس كانت "جنوبية عميقة" حيث شعر الناخبون البيض هناك بـ"الاغتراب" بسبب دعم الديمقراطيين للحقوق المدنية.

وبنظرة أولى، بدا أن هذه الهزيمة كارثية على الحركة المحافظة، إذ رأى العديد من المحللين في ذلك الوقت أن الأميركيين لم يرفضوا جولدووتر فحسب، بل رفضوا التيار المحافظ برمته.

غير أن التقييمات اللاحقة بينت أن حملة جولدووتر كان لها أثر بالغ في صعود الحركة المحافظة. فقد وصفه المؤرخ لي إدواردز بأنه "الخاسر الأكثر تأثيراً" في السياسة الحديثة، معتبراً أن "بفضل باري جولدووتر، أصبح الحزب الجمهوري هو حزب المحافظين في العقود اللاحقة".

وشكّلت حملة جولدووتر عام 1964 الأساس التنظيمي والفكري الذي غذّى صعود التيار المحافظ لاحقاً، فقد ألهبت حملته حماس جيل جديد من الناشطين المحافظين، وشارك نحو 4 ملايين متطوع فيها، وهو ضعف عدد المتطوعين في حملة جونسون، ما منح الحزب الجمهوري قاعدة شعبية من النشطاء لم يمتلكها من قبل.

ولعلَّ الأهم كان ما استخلصه المحافظون من دروس أيديولوجية في تلك التجربة. أولاً، أثبتوا لأنفسهم أن مرشحاً محافظاً بوضوح يمكنه نيل ترشيح الحزب.

ثانياً، زرعت تجربة جولدووتر في أوساط المحافظين شعوراً دائماً ظل عالقاً في أذهانهم حتى اليوم "بعدم الثقة في عدالة الإعلام التقليدي السائد". فقد تعرّض جولدووتر لهجوم قاسٍ من الصحافة باعتباره "متطرفاً خطيراً" أو "مشعل حروب". وقد أسهم هذا الهجوم في دفع التيار المحافظ لاحقاً إلى بناء وسائل إعلامية خاصة به.

ثالثاً، شكّل بصيص الأمل الوحيد لجولدووتر، فوزه بـ5 ولايات جنوبية لطالما صوتت للديمقراطيين، إشارة مبكرة إلى احتمال حدوث إعادة اصطفاف حزبي تاريخية. فقد أوحى بأن الناخبين البيض في الجنوب، والذين كانوا ميّالين إلى القيم الثقافية المحافظة وحقوق الولايات، يمكن اجتذابهم إلى المعسكر الجمهوري.

صعود المحافظين في السبعينات

بعد هزيمة باري جولدووتر في 1964، بدا وكأن المحافظون مشتتين. لكن نهاية الستينيات وبداية السبعينيات قدّمت لهم لحظة إعادة تشكيل نادرة. كانت حينها الشوارع تشهد احتجاجاً طلابياً، واضطرابات في المدن أعقبت اغتيال مارتن لوثر كينج، ومؤتمر ديمقراطي فوضوي في شيكاجو (1968)، وثقافة مضادّة تتحدّى كل ما هو "تقليدي".

في المقابل، كانت برامج "المجتمع العظيم" توسّع دور الحكومة الفيدرالية في التعليم والصحة والرعاية، ويتصاعد الجدل حول الدمج المدرسي والتمييز الإيجابي. ثم جاءت Roe v. Wade (1973) لتشعل ما سُمّي لاحقاً بـ"حروب القيم" حول الإجهاض والدين والأسرة.

وسط هذا المزيج، نشأ خطاب بسيط لكنه شديد الجاذبية، القانون والنظام مقابل الفوضى. ليتجمّع حوله ما صار يُعرف بـ"اليمين الجديد"، والذي يضم "ليبرتاريين" يكرهون تضخّم الدولة، و"اقتصاديون" يؤمنون بالسوق الحرّة، و"محافظون اجتماعيون" يدافعون عن القيم الدينية والعائلية، و"صقور" الحرب الباردة المتشدّدون ضد السوفييت.

استراتيجية نيكسون و"براغماتية الحكم"

قرأ الرئيس الأميركي السابق الجمهوري ريتشارد نيكسون المزاج العام بدقة، وخاطب "الأغلبية الصامتة" التي ترفض العنف والفوضى لكنها لا تملأ الساحات. وفاز في عام 1968 ثم باكتساح في عام 1972.

واستخدم نيكسون "الاستراتيجية الجنوبية" لاستمالة البيض المحافظين، الذين بدأوا يبتعدون عن الحزب الديمقراطي.

لكن داخل البيت المحافظ كان هناك غضبٌ مكتوم، لأن نيكسون، باسم "براغماتية الحكم"، جمّد الأجور والأسعار عام 1971 بتدخّل حكومي صريح أثار حساسية أنصار السوق، وأنشأ هيئات اتحادية جديدة مثل حماية البيئة (EPA) والسلامة والصحة المهنية (OSHA)، ما يعني توسيع ذراع الحكومة الفيدرالية، كما فتح باب الانفراج مع موسكو والعلاقات مع بكين.

بالنسبة لورثة جولدووتر، بدا ذلك تراجعاً عن الصرامة ضد الشيوعية وتوسّعاً في يد الدولة. ظهر تمرّد رمزي داخل الحزب عبر ترشّح النائب جون أشبروك في الانتخابات التمهيدية 1972، قبل أن يبتلعه نفوذ نيكسون.

ولكن في عام 1974، ومع تداعيات "فضيحة ووترجيت" التي أطاحت بنيكسون، تلقّى الحزب الجمهوري ضربة قاسية تركت المحافظين محبطين وفي موقف دفاعي. وبحلول منتصف السبعينيات، تراجعت نسبة الأميركيين الذين يعرّفون أنفسهم كجمهوريين إلى أقل من 20%. ووُصفت تلك المرحلة بأنها فترة كان فيها المحافظون "أقلية".

رغم ذلك خلقت "فضيحة ووترجيت" فرصة غير متوقعة للمحافظين الذين كانوا يبنون حركتهم بهدوء منذ عقود. فقد عمّقت الفضيحة شعور الأميركيين بالريبة تجاه المؤسسات الفيدرالية، وخصوصاً السلطة التنفيذية، ما فتح الباب أمام الخطاب المحافظ الذي طالما حذّر من تضخم دور الحكومة وشكك فيها ومن تجاوزاتها.

حرب فيتنام وانقسام المحافظين

شكّلت حرب فيتنام في الستينيات والسبعينيات اختباراً صعباً لوحدة الحركة المحافظة الأميركية. فبينما اصطفّ معظم المحافظين، وخصوصاً المعادين للشيوعية ودعاة التشدد في السياسة الخارجية، خلف الحرب باعتبارها جبهة أساسية لوقف تمدد النفوذ السوفيتي، برز تيار محافظ أصغر حجماً وأكثر حذراً، رأى في الصراع مغامرة عسكرية مُنهِكة أضرت بالمصالح الوطنية.

وأوضح المؤرخ الأميركي سيث أوفنباخ في دراسته الأكاديمية أن الحركة المحافظة من القلائل التي أيدت الحرب منذ بدايتها، انطلاقاً من عدائها الجذري للشيوعية وإيمانها بأهمية الحسم العسكري.

غير أن الانخراط في صراع طويل وغير شعبي سرعان ما كشف عن تصدعات عميقة في صفوف المحافظين، إذ انقسمت القواعد والقيادات بين من رأوا الحرب معركة لا بد من خوضها حتى النهاية، وبين من اعتبروها استنزافاً غير مبرر لقوة الولايات المتحدة وسمعتها. ومع مرور الوقت، تراجع الحافز الموحد الذي مثّلته "مكافحة الشيوعية"، وبدأت أولويات الحركة تتحوّل نحو قضايا القيم والأخلاق، تمهيداً لمرحلة سياسية جديدة ستطبع السبعينيات.

وأكثر ما فجّر الخلاف كان الموقف من الليبرتارية، إذ قاد هذا التيار حملة مناهضة للتجنيد الإلزامي والحرب نفسها، ما جلب عليه هجوماً شديداً من قيادات محافظة اعتبرتهم "خونة للفكر المشترك"، بل ووصفتهم في كتاباتهم بعبارات مهينة عكست حجم القطيعة.

وبذلك انهار التحالف الفكري الذي جمع التقليديين والليبرتاريين منذ الخمسينيات، على الرغم من محاولات منظّرين مثل فرانك ماير لاحتواء الأزمة والتحذير من خطورتها على مستقبل الحركة.

عقب انتهاء الحرب، برزت قضية "رو ضد ويد" المتعلقة بحق الإجهاض لتمنح المحافظين قضية جامعة حول الأخلاق والدين، مما مهّد لتحالف قوي مع المسيحيين الإنجيليين. كان ذلك التحالف بمثابة حجر الأساس لظهور "اليمين الجديد" في أواخر السبعينيات، ولصعود رونالد ريجان كزعيم لحركة أكثر تنظيماً، وأقدر على تحويل أجندتها الداخلية والاجتماعية إلى قوة سياسية حاسمة.

ظهور "اليمين الجديد"

في منتصف السبعينيات، أعاد المحافظون الأميركيون تنظيم صفوفهم من خلال تيار جديد عُرف بـ"اليمين الجديد"، كرد فعل على التحولات الاجتماعية في الستينيات، وخيبة الأمل من سياسات الرئيسان السابقان نيكسون وجيرارد فورد، التي لم توقف، برأيهم، التوسع الليبرالي للدولة.

ومن بين القضايا التي تبنّاها اليمين الجديد بقوة خلال السبعينيات والثمانينيات، كانت الدفاع عن "الحق الفردي في حمل السلاح"، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الحرية الشخصية التي يكفلها التعديل الثاني للدستور.

وقد تحوّلت الرابطة الوطنية للبنادق (NRA) من منظمة تروّج للتدريب على استخدام السلاح، إلى واحدة من أقوى جماعات الضغط السياسي المحافظة.

واعتُبر أي تحرك حكومي لتنظيم الأسلحة تهديداً مباشراً للحرية الفردية، مما دفع المحافظين إلى استخدام هذا الملف كأداة لتعبئة القاعدة الشعبية، خاصة في الريف والجنوب، حيث يُنظر إلى السلاح ليس فقط كوسيلة للدفاع، بل كرمز للحرية في مواجهة الدولة.

خارجياً، ركّز "اليمين الجديد" على إعادة رسم السياسة الأمنية للولايات المتحدة بروح أكثر تشدداً، رافضاً ما عُرف بسياسة "الانفراج" مع الاتحاد السوفيتي، وهي سياسة خففت التوتر بين القوتين العظميين في السبعينيات. كما عارض التيار اتفاقيات قناة بنما التي نقلت إدارة القناة إلى الحكومة البنمية، وشكك في اتفاقية الحد من الأسلحة النووية المعروفة باسم "SALT II"، معتبراً أنها تقيّد قدرات واشنطن الدفاعية.

أعاد المحافظون الجدد في هذا الإطار تنشيط جماعات ضغط مؤثرة مثل "لجنة الخطر الداهم" للدفع نحو زيادة الإنفاق العسكري، واستعادة ما وصفوه بـ"الهيبة الأميركية" على الساحة الدولية.

وجاءت أحداث نهاية العقد، من أزمة احتجاز الرهائن الأميركيين في إيران إلى الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979، لتؤكد روايتهم بأن الولايات المتحدة فقدت قوتها الردعية، مما منح صقور الأمن القومي اليد العليا داخل الحركة.

لم يقتصر اليمين الجديد على الاقتصاد والسياسة، بل تبنّى أيضاً أجندة اجتماعية محافظة، رافضاً صعود النسوية وتفكك الأسرة، وربط بين غياب القيم التقليدية وارتفاع معدلات الجريمة، ما عزز تركيزه على حماية "النموذج العائلي" كركيزة للاستقرار الاجتماعي.

"اليمين الديني" في معترك السياسة

دفعت هذه الحقبة المحافظين إلى توسيع البنية التحتية لحركتهم والبحث عن حلفاء جدد. ومن أهم التطورات التي شهدتها السبعينيات كان بروز "اليمين الديني" كقوة سياسية. فقد "أرعبت" التغيرات الثقافية الكبرى، كإقرار الإجهاض قانونياً (في قضية رو ضد ويد عام 1973)، وما عُرف بـ"الثورة الجنسية"، وحركات تحرير المرأة والحريات الفردية وحظر الصلاة في المدارس، ملايين الأميركيين المتدينين من البروتستانت الإنجيليين والكاثوليك المحافظين وغيرهم.

كان كثير من هؤلاء في السابق غير مهتمين بالسياسة أو حتى ميّالين للديمقراطيين، خصوصاً في الجنوب. ولكن في أواخر السبعينيات، نظم هؤلاء الناخبين صفوفهم عبر قيادات دينية إنجيلية، مثل القس جيري فالويل والناشط بول ويريك، وشكلوا كتلة سياسية محافظة.

غير أن ما يوصف بـ"الدافع الأخلاقي" لم يكن وحده ما أيقظ اليمين الديني. فقد جاءت الشرارة التنظيمية عبر قضية ضريبية شديدة الحساسية تمثلت في سحب الإعفاء الضريبي من جامعة بوب جونز (Bob Jones University)، وهي مؤسسة إنجيلية محافظة كانت ترفض تسجيل الطلاب السود أو السماح بالعلاقات بين الأعراق.

وفي عام 1976، قررت مصلحة الضرائب الأميركية إلغاء امتيازات الجامعة المالية، معتبرة سياساتها انتهاكاً للمصلحة العامة. وقد أثار هذا القرار، قبل أن تؤيده المحكمة العليا لاحقاً عام 1983، موجة غضب واسعة في صفوف اليمين الديني.

واستثمر جيري فالويل ومساعدوه في هذه اللحظة، واعتبروها الدليل القاطع على أن الانعزال عن السياسة لم يعد خياراً.

وفي عام 1979، أسس فالويل "الأغلبية الأخلاقية" (The Moral Majority)، كمنصة لتوحيد الإنجيليين المحافظين تحت راية واحدة، تجمع بين القلق الأخلاقي والغضب من الدولة. ومن خلال تلك المنصة، شنّ اليمين الديني حملات تعبئة ضخمة ضد الإجهاض والإباحية والمثلية والمساواة الدستورية بين الجنسين، مطالباً في الوقت ذاته بزيادة الإنفاق الدفاعي وانتهاج سياسة خارجية صارمة ضد الشيوعية.

وكان ذلك بداية دخول الملايين من الأميركيين الإنجيليين إلى المعترك السياسي كمكوّن دائم وفاعل في الحركة المحافظة، لا بوصفهم جمهوراً دينياً غاضباً فقط، بل ككتلة تصويتية منظمة، تمتلك شبكة مؤسسات وإعلاماً خاصاً، وخطاباً سياسياً واضحاً يدافع عن "أميركا التقليدية" في وجه ما يرونه انحرافاً ثقافياً وتغولاً ليبرالياً تقوده واشنطن.

وقد أثمرت هذه الجهود في جعل "اليمين الديني" قوة انتخابية أساسية ضمن التحالف الجمهوري، يُنسب إليه على نطاق واسع الفضل في فوز رونالد ريجان بالرئاسة عام 1980.

مراكز الفكر السياسي المحافظ

في أوائل السبعينيات، أدرك المحافظون الأميركيون أن خوض معركة الأفكار لا يقل أهمية عن خوض الانتخابات، خصوصاً في ظل هيمنة الليبراليين على الجامعات ووسائل الإعلام والمؤسسات البحثية الكبرى، مثل "بروكينجز" و"راند".

ومن هنا بدأ توجّه منظم نحو إنشاء مراكز فكر محافظة تعمل ليس فقط على إنتاج الأفكار، بل على توجيه السياسات العامة، وتغذية النخبة الجمهورية برؤية أيديولوجية متماسكة.

وكانت نقطة التحول البارزة عام 1973 مع تأسيس "The Heritage Foundation" في واشنطن، التي قدمت نموذجاً جديداً لمراكز الفكر المحافظة، عبر المزج بين العمل البحثي والتأثير السياسي.

وبلغ نفوذ هذه المؤسسة ذروته عام 1981 عندما قدمت لإدارة ريجان كتيّباً بعنوان Mandate for Leadership، استُخدم كمرجعية لإعداد السياسات الفيدرالية الجديدة.

ولحقتها لاحقاً مؤسسات مثل "معهد كاتو" عام 1977، والذي مثّل الخط الليبرتاري داخل اليمين، ومعهد المشروع الأميركي (AEI) الذي اتخذ طابعاً محافظاً أوضح في تلك المرحلة، إلى جانب معهدي مانهاتن وكليرمونت اللذين أسهما في ترسيخ الخطاب الثقافي المحافظ والدفاع عن "الفضيلة الجمهورية" والهوية الأميركية التقليدية.

وفي نهاية السبعينيات، كانت الحركة المحافظة قد نجحت في تشكيل تحالف عريض شمل، من الاقتصاديين المؤمنين باقتصاد السوق الحرة، والمدافعين عن الحكومة الصغيرة، والمتشددين ضد الشيوعية في الحرب الباردة، والمحافظين الاجتماعيين والمسيحيين الإنجيليين، بالإضافة إلى فئات من العمال البيض الساخطين في الجنوب والغرب الأوسط الذين ضاقوا ذرعاً بالتيارات الثقافية الليبرالية.

المحافظون على أعتاب عهد ريجان

مع نهاية السبعينيات، كانت الحركة المحافظة الأميركية قد رسخت أركانها الفكرية والتنظيمية؛ فأفكارها باتت أكثر وضوحاً، وشبكة مؤسساتها الإعلامية والفكرية والحزبية أصبحت قادرة على التعبئة وحشد الموارد، فيما تزايدت قاعدة اجتماعية متعطشة لتغيير يطيح بالإرث الليبرالي لما بعد الحرب العالمية الثانية.

وفي هذا المناخ، كان المشهد السياسي مهيأً لقيادة تحمل المشروع المحافظ من دوائر التنظير إلى أروقة الحكم. وعند خط النهاية من عقد السبعينيات، برز اسم رونالد ريجان، الممثل السابق وحاكم كاليفورنيا، ووريث إرث باري جولدووتر، ليتقدم الصفوف ويختبر قدرة المحافظين على ترجمة أفكارهم إلى سياسات من قلب البيت الأبيض.

تصنيفات

قصص قد تهمك