الحركة المحافظة في أميركا.. من "اختبار الحكم" إلى الانقسام الكبير (2- 4)

time reading iconدقائق القراءة - 18
الرؤساء الأميركيون السابقون (من اليسار) جيرالد فورد (جمهوري) وبيل كلينتون (ديمقراطي) وجورج بوش الأب (جمهوري) والسيدة الأولى السابقة نانسي ريجان (زوجة الجمهوري رونالد ريجان) في فيلادلفيا. 28 أبريل1997 - Reuters
الرؤساء الأميركيون السابقون (من اليسار) جيرالد فورد (جمهوري) وبيل كلينتون (ديمقراطي) وجورج بوش الأب (جمهوري) والسيدة الأولى السابقة نانسي ريجان (زوجة الجمهوري رونالد ريجان) في فيلادلفيا. 28 أبريل1997 - Reuters
واشنطن-محمد شهود

صباح 20 يناير 1981، كان الصقيع يلفّ ساحة مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، بينما يضع الرئيس المنتخب آنذاك رونالد ريجان يده على الإنجيل لأداء اليمين، معلناً بداية حقبة جديدة للإدارة الأميركية.

لم تكن لحظة القسم مجرد مشهد احتفالي لانتقال السلطة، بل كانت إعلاناً عن دخول الحركة المحافظة إلى اختبارها الحاسم، وهو ترجمة شعارات "السوق الحرة" و"استعادة الهيبة الأميركية" من خطاب الحشود إلى سياسات وقوانين، وبالتالي الانتقال من مقاعد المعارضة إلى مقاعد الحكم.

ومثّل انتخاب ريجان في عام 1980، ذروة المسار الطويل الذي سلكته الحركة المحافظة في الولايات المتحدة، فقد كان ريجان، الممثل الهوليوودي السابق وحاكم ولاية كاليفورنيا، من أشد أنصار المرشح الرئاسي السابق عن الحزب الجمهوري باري جولدووتر في حملة 1964، وحمل شعلة أفكاره حتى دخل بها البيت الأبيض. 

وبفوزه على الرئيس الديمقراطي الليبرالي جيمي كارتر، دشّن رونالد ريجان عصراً جديداً تُوج بصعود الجناح اليميني داخل الحزب الجمهوري، وجعل من ريجان أول رئيس أميركي محافظ بالمعنى الكامل منذ نحو نصف قرن (منذ كالفن كوليدج الرئيس الثلاثين للولايات المتحدة فترة (1923-1929).

وتحت قيادته، تحوّلت أفكار كانت تُعتبر هامشية داخل التيار الجمهوري إلى سياسات سائدة، إذ دفع ريجان بأجندة محافظة طموحة، تمثلت في خفض حاد للضرائب وللقيود، والحد من نمو الحكومة، وإعادة بناء القوة العسكرية الأميركية.

ريجان و"لحظة الحزم"

في 5 أغسطس 1981، أعلن ريجان إقالة أكثر من 11.000 مراقب جوي من أعضاء اتحاد مراقبي الحركة الجوية المحترفين (PATCO)، بعد أن أضربوا عن العمل للمطالبة بتحسين ظروف العمل وزيادة الرواتب، رغم أن القانون الفيدرالي الأميركي يحظر على الموظفين الحكوميين الإضراب، ليمنحهم ريجان 48 ساعة للعودة، ثم نفّذ قراره بلا تردّد. 

واستقبلت القاعدة اليمينية الخطوة كبيان حُكم، فيما قرأتها دوائر الأعمال بوصفها إشارة إلى أن الحكومة لن تتسامح مع تعطيل الأسواق والبنى التحتية تحت أي ضغط نقابي.

ارتبط اسم ريجان في الذاكرة السياسية الأميركية بـ"اقتصاد جانب العرض" أو ما عُرف بـ"الريجانوميكس" (Reaganomics)، وهو النهج الذي ربط بين خفض الضرائب وتحفيز النمو، وصولاً إلى زيادة عائدات الدولة على المدى البعيد.

ومع دخول ريجان البيت الأبيض عام 1981، تحوّل الشعار إلى سياسات ملموسة، فأقرّ قانون إنعاش الاقتصاد الذي خفّض الضرائب على مدى 3 سنوات، وقلّص الشريحة الضريبية العليا من 70 إلى 50%، قبل أن يأتي قانون الإصلاح الضريبي لعام 1986 ليبسط النظام ويخفض المعدل الأعلى إلى نحو 28%، في واحدة من أكبر التحولات الضريبية في تاريخ البلاد.

لكن هذه التخفيضات، إلى جانب زيادة الإنفاق الدفاعي، أدّت إلى تضخم العجز، ما دفع الإدارة إلى إقرار زيادات انتقائية في الإيرادات وإصلاحات في الضمان الاجتماعي عام 1983.

داخلياً، سعى ريجان إلى تقليص نمو الإنفاق غير الدفاعي، ونقل بعض البرامج إلى الولايات عبر منح شاملة، ووجّه ضربة قوية للنقابات، كان أبرزها إقالة الآلاف من مراقبي الحركة الجوية المضربين في عامه الأول.

ونجحت سياساته النقدية والمالية في خفض التضخم من مستويات خانقة إلى خانة الآحاد بين عامي 1983و1984، وأطلقت موجة انتعاش اقتصادي، رغم أن البطالة بلغت ذروتها عند 10.8% في 1982 قبل أن تتراجع تدريجياً.

على الصعيد الخارجي، رفع ريجان من حدة المواجهة في الحرب الباردة، واصفاً الاتحاد السوفيتي بـ"إمبراطورية الشر" عام 1983، ومعلناً مبادرة الدفاع الاستراتيجي التي أثارت جدلاً واسعاً، حيث عزّز الوجود العسكري الأميركي في الخارج بنشر صواريخ متوسطة المدى في أوروبا، والتدخل في جرينادا عام 1983 (غزو عسكري للجزيرة الواقعة في جزر الهند الغربية من قبل الولايات المتحدة وحلفاء من منطقة الكاريبي)، وقصف ليبيا عام 1986.

لاحقاً انتقل ريجان إلى مسار دبلوماسي مع الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، عُقدت خلاله قمم بارزة أفضت إلى معاهدة الصواريخ المتوسطة (INF) عام 1987، التي أزالت فئة كاملة من الأسلحة النووية.

ذروة التيار المحافظ الأميركي

ويُنظر إلى ولايتي ريجان الرئاسيتين (1981– 1989) على نطاق واسع باعتبارهما ذروة التيار المحافظ، وإلى جانب نجاحه الانتخابي الكاسح، حقق فوزاً ساحقاً في إعادة انتخابه عام 1984. واستطاع ريجان أن يدفع بالنقاش الوطني في اتجاه اليمين، كما جسّد في ولايتيه المبادئ التي يعتبرها المحافظون جوهر عقيدتهم.

ففي عهده، وقف الجمهوريون على الركائز الثلاث للمحافظة، الحد الأدنى من الحكومة المركزية، واقتصاد السوق الحر، والقيم الأخلاقية التقليدية.

وفي الثمانينيات، رسّخ رونالد ريجان إرثاً قضائياً لا يزال أثره قائماً، فقد عيّن ساندرا داي أوكونور عام 1981، كأول امرأة في تاريخ المحكمة العليا، وأنطونين سكاليا عام 1986، الذي أصبح أبرز الأصوات المدافعة عن القراءة الأصولية للدستور. 

لكن محاولته تعيين القاضي روبرت بورك عام 1987، اصطدمت برفض مجلس الشيوخ، في معركة سياسية حادة أدخلت مصطلح Borking إلى القاموس السياسي الأميركي (ويعني حملة منظمة لإفشال ترشيح شخصية لمنصب عام)، لتنتهي بتعيين أنتوني كينيدي عام 1988، الذي لعب لاحقاً دور "الصوت المرجّح" في قضايا مفصلية. 

وفي خلفية هذه التعيينات، كانت الجمعية الفيدرالية للمحامين، التي تأسست عام 1982، تبني نفوذها كمؤسسة فكرية وقانونية تزود الإدارات الجمهورية بقوائم المرشحين القضائيين المحافظين، لتصبح ركيزة دائمة في البنية المؤسسية للحركة المحافظة.

انقسامات تحت السطح

سنوات حكم ريجان حملت في طياتها معارك داخلية، كشفت عن تباينات جوهرية داخل الحركة المحافظة، ففي الاقتصاد، أدّت سياسات خفض الضرائب وزيادة الإنفاق العسكري إلى عجز ضخم في الميزانية، ما أثار انتقادات الجناح المالي المحافظ، الذي رأى أن الانضباط المالي جزء لا يتجزأ من العقيدة المحافظة.

وعلى جبهة السياسة الخارجية، انقسم الصف المحافظ بعدما شرع ريجان في التفاوض مع الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، خصوصاً حول معاهدات الحد من التسلح، إذ رأى صقور الحرب الباردة أن أي تسوية مع موسكو تمثل تنازلاً عن مبدأ المواجهة الحازمة.

وجمع "تحالف ريجان" (Reagan Coalition) أطيافاً متباينة من صقور الدفاع والمُحافظين الجدد الذين أرادوا تصعيد المواجهة مع الاتحاد السوفيتي عبر برامج طموحة مثل "حرب النجوم"، إلى واقعيين في الخارجية رأوا أن التفاوض مع جورباتشوف ومعاهدة خفض الأسلحة النووية عام 1987، هي السبيل لضمان أمن أميركا.

واقتصادياً، ظهر خلاف حول أولويات السياسة المالية، بين أنصار "اقتصاد جانب العرض" الذين دفعوا باتجاه خفض الضرائب مهما كان العجز، مقابل صقور الميزانية الذين قبلوا بزيادات إيرادية محدودة، مثل قانون إصلاح الإيرادات لعام 1982 لضبط العجز المتفاقم.

وعلى جبهة التجارة، وقف المدافعون عن الانفتاح والاتفاقيات، كاتفاقية التجارة الحرة مع كندا (1988) في مواجهة التيار الحمائي، الذي حذّر من فقدان الوظائف الأميركية.

حتى قضايا الهجرة والقيم الاجتماعية لم تسلم من الانقسام، فقد أثار قانون إصلاح الهجرة لعام 1986 جدلاً بين جناح الأعمال والكنائس، الذي رأى فيه تسوية تمنح شرعية للمهاجرين مقابل تشديد الإنفاذ، وبين تيار ضبط الحدود الذي اعتبره "عفواً" يشجع على الهجرة غير النظامية. 

وبالمثل، اصطدم اليمين الديني الساعي لتشريعات ضد الإجهاض والإباحية بأنصار الليبرتارية (حرية السوق)، الذين حذّروا من توسيع سلطة الدولة على حساب الحريات الفردية.

وفي عام 1986، تحولت فضيحة "إيران- كونترا" (Iran-Contra) إلى اختبار حقيقي لتماسك التحالف المحافظ في عهد ريجان. كشفت التحقيقات أن الإدارة موّلت ميليشيات "كونترا" المناهضة للشيوعية في نيكاراجوا عبر التحايل على تعديلات قانونية فرضها الكونجرس، وأيضاً بيع أسلحة لإيران بصفقة سرية.

صراع التسعينيات وسقوط الاتحاد السوفيتي

مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، بدا أن الحركة المحافظة في الولايات المتحدة، التي بلغت ذروتها خلال عهد رونالد ريجان، تواجه اختباراً حقيقياً لقدرتها على الاستمرار والتجدد.

فخروج ريجان من البيت الأبيض عام 1989 ترك فراغاً قيادياً، وأدّى إلى انتقال الراية إلى نائبه جورج بوش الأب، الذي رغم تقديم نفسه كامتداد طبيعي لعهد ريجان، إلا أنه سرعان ما خيّب آمال القاعدة المحافظة، خاصة بعد قراره عام 1990 بخرق تعهده الشهير "لا ضرائب جديدة"، وهو ما اعتُبر خيانة صريحة لنهج ريجان الاقتصادي المناهض لزيادة الضرائب والرافض لتوسيع الحكومة.

هذا القرار أدّى إلى شرخ داخل التحالف المحافظ، وأثار استياءً واسعاً في أوساط النشطاء والجماعات اليمينية، التي رأت في بوش تجسيداً للعودة إلى ما قبل ريجان، أي إلى نهج جمهوري تقليدي أكثر اعتدالاً وبراجماتية.

وأدّى انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 إلى زعزعة الركيزة التي جمعت طيف المحافظين الأميركيين لعقود، وهو العداء للشيوعية.

فخلال الحرب الباردة، شكّل هذا العداء نقطة التقاء بين المحافظين الجدد والقدامى، الليبرتاريون والتقليديون، إذ وحّدهم خطر خارجي مشترك، لكن بزوال "العدو"، تفكك الإجماع، وطفا إلى السطح انقسام أيديولوجي عميق.

المحافظون الجدد الذين كانوا في صعود منذ عهد ريجان، رأوا أن انهيار الشيوعية فرصة لتوسيع النفوذ الأميركي عالمياً، عبر التدخل العسكري، وتصدير الديمقراطية، وتعزيز العولمة. 

في المقابل، رفض المحافظون القُدماء (Paleoconservatives) هذا التوجه، واعتبروا أن مرحلة ما بعد الحرب الباردة تستوجب انكفاءً قومياً، ورفضاً لـ"الهندسة العالمية"، وتركيزاً على الدفاع عن الهوية الوطنية، والاقتصاد الحمائي، ومحاربة الهجرة الواسعة.

وفي ذروة الانقسام داخل الحزب الجمهوري، أطلق الإعلامي والمرشح الرئاسي السابق بات بيوكانن في الانتخابات التمهيدية لعام 1992 حملة "قومية– شعبوية"، انتقد فيها نهج بوش الأب ورفع شعار "الحرب الثقافية" لاستعادة هوية أميركا المحافظة، محققاً دعماً كبيراً وصل إلى نحو 40% في ولاية نيوهامبشير.

هذا الزخم الشعبي عبّر عن عمق التوتر داخل الحزب الجمهوري بين جناح النخبة وجناح القاعدة الشعبوية، ومع خسارة بوش الأب للانتخابات أمام بيل كلينتون، بدت الحركة المحافظة وكأنها في حالة تراجع.

الثورة الجمهورية 1994

عاد التيار المحافظ إلى المشهد بقوة عبر انتصار تاريخي في انتخابات الكونجرس عام 1994، مُشكّلاً تحولاً بنيوياً في المشهد السياسي.

فبعد عامين من بدء إدارة الرئيس الأميركي الـ42 بيل كلينتون (1993- 2001)، تراكمت عوامل سخط المحافظين، من سقوط خطته الشاملة لإصلاح الرعاية الصحية، إلى إقرار حزمة الضرائب التي وصفتها المعارضة بأنها ضربة للنمو الاقتصادي، وصولاً إلى شعور متزايد بأن الحزب الديمقراطي يقود البلاد نحو حكومة أكبر وأكثر تدخّلاً.

في هذا المناخ، برز زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب نيوت جينجريتش (أصبح لاحقاً رئيساً لمجلس النواب) بصفته مهندس الاستراتيجية الجديدة، مطلقاً وثيقة "عقد مع أميركا" (Contract with America) التي حوّلت انتخابات التجديد النصفي إلى استفتاء على أجندة محافظة واضحة المعالم. 

وتضمنت وثيقة "عقد مع أميركا" التزامات بميزانية متوازنة، وتقليص البيروقراطية، وإصلاح الرعاية الاجتماعية وفق مبدأ "العمل مقابل الإعانة"، وفرض الانضباط على الكونجرس من خلال إخضاع أعضائه للقوانين نفسها التي تُطبّق على المواطنين، إضافة إلى تحديد عدد دورات شاغلي المناصب التشريعية.

والنتيجة كانت زلزالاً سياسياً في المشهد الأميركي، حيث سيطرت الأغلبية الجمهورية الجديدة على أجندة الكونجرس. كما أنها وضعت نهاية للهيمنة التقليدية للتيار الجمهوري المعتدل، ومهدت الطريق لسيطرة الجناح المحافظ المتشدد على الحزب الجمهوري لاحقاً، إضافة إلى إنهاء 4 عقود من سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب.

وخلال أول مئة يوم من عمل الكونجرس الجديد، أقرّ مجلس النواب معظم بنود "العقد"، لكن مسار التشريع اصطدم بواقع السياسة الأميركية، بعض القوانين تعثّرت في مجلس الشيوخ، وأخرى واجهت فيتو رئاسي من الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، وأبرزها فشل تعديل الموازنة في حصد أغلبية الثلثين، وعدم تمرير تحديد الدورات كإجراء دستوري.

تلك المواجهة بين الكونجرس الجمهوري والرئيس الديمقراطي بلغت ذروتها في إغلاقي الحكومة عامي 1995 و1996، قبل أن يعتمد كلينتون استراتيجية التموضع في الوسط، ما أفضى إلى تمرير إصلاحات كبرى في الرعاية الاجتماعية عام 1996، حقق من خلالها المحافظون أحد أبرز أهدافهم.

ومن المفارقات البارزة في التسعينيات أن بعض أهم انتصارات المحافظين لم تأتِ على يد رئيس جمهوري، بل من خلال إدارة ديمقراطية بقيادة بيل كلينتون.

فقد اضطر كلينتون، تحت ضغط الكونجرس الذي سيطر عليه الجمهوريون بعد انتصارهم الساحق عام 1994، إلى تبنّي أجندة محافظة في قضايا محورية، فوافق عام 1996 على قانون إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية، واضعاً بذلك حداً لحقبة "الدولة الراعية" (وهي حقبة بدأت في ثلاثينيات القرن الماضي بسبب الكساد الاقتصادي، في عهد الرئيس الأميركي السابق فرانكلين روزفلت، وقد بدأت هذه الحقبة في التراجع خلال سبعينيات القرن الماضي، وانتهت في التسعينيات مع صعود المحافظين الجدد) والتي طالما انتقدها المحافظون، ومكرساً بدلاً منها مبدأ "العمل مقابل الإعانة".

وفي العام نفسه، وقّع كلينتون قانون الدفاع عن الزواج (DOMA) الذي يعرّف الزواج بأنه بين رجل وامرأة، في انتصار واضح للمحافظين الثقافيين الذين خاضوا "حرباً" ضد ما اعتبروه تهديداً لهوية الأسرة الأميركية.

وأثبت التيار المحافظ قدرته على التأثير في السياسات الوطنية وفرض أجندته، حتى في ظل إدارة ديمقراطية معارضة.

بزوغ الإعلام المحافظ

لطالما اعتقد المحافظون أن وسائل الإعلام التقليدية تتبنى ميولاً ليبرالية، وهو شعور ترسخ منذ حملة السياسي المحافظ باري جولدووتر في عام 1964. ورداً على ذلك، أنشأوا نظاماً إعلامياً موازياً أصبح أحد أعمدة قوتهم.

وكان أبرز هذه التطورات هو انتشاراً واسعاً لبرامج الإذاعة الحوارية المحافظة، ففي عام 1987، ألغت لجنة الاتصالات الفيدرالية ما يُعرف بـ"مبدأ التوازن"، وهو قانون كان يُلزم محطات الراديو بتقديم وجهات نظر متوازنة حول القضايا العامة. 

وبعد رفع هذا القيد، ازدهرت البرامج الحوارية ذات التوجه الواحد دون الحاجة لتقديم وجهات نظر معارضة، واستغل المحافظون هذه الفرصة، فإلغاء هذا القانون "يُنسب إليه الفضل في ولادة الإذاعة الحوارية الحديثة"، حيث أتاح للمذيعين تقديم تعليقات محافظة بلا قيود، ولساعات متواصلة.

وسرعان ما أصبح نجوم مثل المذيع المحافظ راش ليمبو يتمتعون بتغطية وطنية، وجذبوا ملايين المستمعين، خاصة في المناطق التي شعرت بالتهميش من إعلام النخبة في واشنطن ونيويورك.

وبحلول التسعينيات، أصبح ليمبو "المذيع الأعلى تصنيفاً في الإذاعة الحوارية" بلا منازع، وسعى قادة الجمهوريين إلى كسب جمهوره.

وبالفعل، سيطرت الإذاعة الحوارية المحافظة على الأثير مقارنة بالبرامج الليبرالية من حيث عدد المستمعين، ولعب هؤلاء المذيعون، مثل ليمبو، شون هانيتي (النجم البارز حالياً في شبكة فوكس نيوز)، ومايكل سافاج، دوراً يفوق الترفيه، فقد وفّروا لمستمعيهم، خصوصاً من الطبقة العاملة أو سكان الأرياف، إحساساً بالهوية والانتماء والغضب المشترك، وعززوا الروايات المحافظة، وحرّكوا الناخبين.

والمحطة الفاصلة الأخرى في المشهد الإعلامي المحافظ، هو تأسيس قناة "فوكس نيوز" عام 1996 على يد إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ.

وأُنشئت الشبكة بهدف صريح يتمثل في تقديم بديل للإعلام التلفزيوني الذي اعتُبر ذا ميول ليبرالية، وسرعان ما أصبحت القناة الأعلى تصنيفاً بين شبكات الأخبار.

وبحلول الألفية الجديدة، باتت "فوكس نيوز" تحتل مكانة فريدة في المشهد الإعلامي الأميركي، خاصة لدى من ينتمون إلى اليمين الأيديولوجي، ولم تتمكن أي وسيلة إعلامية أخرى من مضاهاة شعبيتها لدى الجمهوريين. 

وتُظهر الاستطلاعات أن نحو ثلثي الجمهوريين يثقون بـ"فوكس نيوز" كمصدر للأخبار السياسية، وهي نسبة تفوق بكثير أي وسيلة إعلامية أخرى، كما أفاد نحو 6 من كل 10 جمهوريين بأنهم يتابعون الأخبار من القناة أسبوعياً.

تصنيفات

قصص قد تهمك