وسط مخاوف من "نموذج إيطاليا".. العجز المالي والانقسام السياسي يهددان حكومة فرنسا

time reading iconدقائق القراءة - 9
رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو في باريس. 28 أغسطس 2025 - Reuters
رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو في باريس. 28 أغسطس 2025 - Reuters
دبي -عبد السلام الشامخ

تواجه فرنسا أزمة سياسية ومالية عاصفة مع اقتراب تصويت الثقة على حكومة فرانسوا بايرو المقرر في 8 سبتمبر الجاري، حيث ترفض قوى المعارضة دعمه بشكل قاطع، فيما تواصل الأسواق الضغط برفع تكاليف الاقتراض إلى مستويات غير مسبوقة، بينما يهدد سقوط بايرو بجعل فرنسا تشهد رابع تغيير حكومي خلال أقل من عامين، ما يزيد من مأزق الرئيس إيمانويل ماكرون في مواجهة العجز المالي والانقسام البرلماني.

وتبنى رئيس الوزراء الفرنسي لهجة متشددة في مسعاه لكسب الدعم قبيل تصويت على الثقة في 8 سبتمبر، لكنه اعترف بأن المحادثات مع الأحزاب السياسية قد تفشل في إنقاذ حكومته من الإطاحة، حسبما نقلت صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية.

وقال بايرو في مقابلة مع قنوات الأخبار الفرنسية، مساء الأحد: "التسوية أمر جميل، لكن لست متأكداً من أنها ممكنة". وجاء هذا بعد تصريحات لعدد من زعماء المعارضة خلال عطلة نهاية الأسبوع استبعدوا فيها تماماً تقديم أي دعم له.

ودخلت فرنسا في أزمة سياسية حادة، منذ أن دعا بايرو إلى تصويت للثقة، في محاولة لكسر الجمود بشأن خطط خفض الموازنة. وسقوطه سيزيد الشكوك حول ما إذا كانت أي حكومة فرنسية قادرة على كبح العجز الأكبر في منطقة اليورو، وفق "بلومبرغ".

وأكد قادة المعارضة، بمن فيهم جوردان بارديلا، رئيس حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، وأوليفييه فور، زعيم الحزب الاشتراكي، أنهم سيصوتون ضد الثقة، مشيرين إلى أنهم سيحضرون اجتماعات بايرو فقط من "باب المجاملة".

وقال فور الأحد على قناة BFM الفرنسية: إن قرار الاشتراكيين بالتصويت ضد الثقة "لا رجعة فيه". وأضاف: "الكلمة الوحيدة التي أنتظر أن يقولها الآن هي: وداعاً".

ودفعت عمليات البيع في الأسواق خلال الأسبوع الماضي، الفارق بين تكاليف اقتراض فرنسا لأجل 10 سنوات، وألمانيا إلى أكثر من 80 نقطة أساس، وهي مستويات لم تُسجل منذ يناير الماضي.

انتخابات مبكرة

في يوليو الماضي، قدّم بايرو خططاً لخفض الإنفاق وزيادة الضرائب بقيمة 44 مليار يورو (51 مليار دولار)، وقال إنها ضرورية لخفض العجز إلى 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 5.4% متوقعة هذا العام. وقد اتخذ المستثمرون مواقف تحسباً لمخاطر سياسية متصاعدة في فرنسا، ما يهدد بإخراج التعافي الاقتصادي الهش عن مساره مع تأجيل الشركات للتوظيف والاستثمار.

وأكد بايرو، الأحد، أنه سيواصل القتال، وقال إنه يعتقد أن أمامه فرصة للنجاح: "المسألة، القضية، ليست مصير رئيس الوزراء أو فرانسوا بايرو. وليست حتى مصير الحكومة. القضية هي مصير فرنسا".

ومع التخطيط لإضرابات عمالية هذا الشهر، فإن سقوط بايرو سيعيد الرئيس إيمانويل ماكرون إلى طريق مسدود، عجز عن الخروج منه منذ الانتخابات المبكرة العام الماضي التي تركت فرنسا ببرلمان معلق، وهي تكافح مع العجز.

وتضغط بعض أحزاب المعارضة على ماكرون للمغامرة مجدداً بانتخابات تشريعية جديدة، أو حتى انتخابات رئاسية مبكرة. لكن ماكرون دعم خطط بايرو، وأصر على أنه لن يستقيل قبل نهاية ولايته في 2027.

وقال بارديلا، السبت، على قناة BFM إن حكومة بايرو "ستسقط"، وجدد دعوته لانتخابات مبكرة: "من الواضح أنه في الوضع الحالي لا أرى حلاً آخر سوى العودة إلى الشعب الفرنسي. لا يمكننا الاستمرار على هذا النحو لعامين".

"إيطاليا الجديدة"؟

وأمام انسداد الأفق، باتت فرنسا قريبة من السقوط في نفس مصير إيطاليا، التي عانت طوال العقد الماضي من ديون متصاعدة، وتكاليف اقتراض مرتفعة، وحكومات تنهار خلال أشهر معدودة.

وكان التغيير المتكرر لرؤساء الوزراء نادراً في فرنسا، الدولة المحورية في أوروبا، والتي صُمم نظامها السياسي لضمان الاستقرار. لكن في السنوات الأخيرة، دخلت فرنسا في حلقة مفرغة: تدهور المالية العامة يغذي الانقسام السياسي، وهذا الانقسام بدوره يمنع البلاد من اتخاذ قرارات صعبة لإصلاح أزمتها المالية، حسبما ذكرت "وول ستريت جورنال".

من غير المتوقع أن ينجو بايرو من التصويت، ما سيجبر الرئيس إيمانويل ماكرون على تعيين رئيس وزراء جديد لتشكيل الحكومة التالية.

وتجاوز عائد السندات الفرنسية لأجل 10 سنوات نظيره اليوناني، وأصبح يقارب حالياً العائد الإيطالي.

كانت كل من أثينا وروما قد خفّضتا عجز ميزانيتهما بعد إجراءات تقشف مؤلمة خلال أزمة الديون الأوروبية في العقد الماضي. واليوم، تقترب جورجيا ميلوني من أن تصبح واحدة من أطول رؤساء الوزراء خدمة في إيطاليا بعد ما يقرب من ثلاث سنوات في المنصب.

لكن بالنسبة لفرنسا، فإن الخروج من هذه الدوامة صعب لأن الجمعية الوطنية (البرلمان الأدنى) مقسمة إلى كتل متناحرة، لكل منها أولويات مالية متعارضة وعدد كافٍ من الأصوات لترجيح الكفة، بحسب "وول ستريت جورنال".

فالأحزاب اليسارية ترفض أي خفض في خطط الرفاهية الاجتماعية، التي تمثل 65% من الإنفاق العام. أما النواب الوسطيين المتحالفين مع بايرو وماكرون، ومعهم مجموعة من المحافظين التقليديين، فيرغبون بزيادة الإنفاق العسكري لمواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا من دون رفع الضرائب. بينما نواب اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان، فيرون أنه على الحكومة خفض الإنفاق عبر تقليص الهجرة والمدفوعات للاتحاد الأوروبي.

ووضع ماكرون الأساس للأزمة الحالية، عندما قدّم تخفيضات ضريبية واسعة بعد انتخابه في عام 2017 من دون تقليص مماثل في تكاليف الرعاية الصحية والتعليم والخدمات العامة الأخرى.

فقد ألغى ضريبة الثروة والسكن، وخفض ضرائب الشركات، وفرض ضريبة ثابتة على أرباح رأس المال. ونتيجة لذلك، حُرمت الدولة بحلول 2023 من 62 مليار يورو سنوياً من الإيرادات الضريبية، أي ما يعادل 2.2% من الناتج المحلي.

سلسة من الأزمات

وساعدت التخفيضات الضريبية في جعل فرنسا واحدة من أكثر الوجهات جذباً للاستثمار الأجنبي في أوروبا، وانخفضت البطالة إلى 7%، وهو أدنى مستوى منذ عقود. لكن سلسلة من الأزمات ضربت لاحقاً. فقد اندلعت احتجاجات "السترات الصفراء" العنيفة، ما دفع ماكرون إلى إنفاق 17 مليار يورو لتهدئة المحتجين.

ثم جاءت جائحة فيروس كورونا بتكلفة 41.8 مليار يورو، تلتها الحرب في أوكرانيا التي رفعت أسعار الطاقة، فرد ماكرون بدعم بقيمة 26 مليار يورو.

عندها وجدت فرنسا نفسها في مأزق عميق؛ ارتفع الدين من 2.2 تريليون يورو قبل انتخاب ماكرون، إلى 3.3 تريليون، وتوقف النمو الاقتصادي. رفض ماكرون رفع الضرائب، وواجه صعوبة في تقليص الامتيازات الاجتماعية. تمكن من رفع سن التقاعد إلى 64 عاماً بحلول 2030، ما قد يوفّر 17.7 مليار يورو، لكن ذلك تحقق بعد معركة شرسة مع المعارضة واحتجاجات واسعة.

والعام الماضي، اضطرت فرنسا إلى سلسلة من التعديلات المهينة على عجز الموازنة. فقد رفع مكتب الإحصاء الوطني العجز لعام 2023 إلى 5.5% من الناتج المحلي مقارنة بـ 4.9% متوقعة، ثم عدلت الحكومة توقعها لعجز 2024 إلى 5.1% من 4.4%. وردّت وكالة S&P بخفض التصنيف الائتماني لفرنسا. وهدد المحافظون بإسقاط الحكومة إذا لم تبذل مزيداً من الجهد للسيطرة على الإنفاق، بحسب "وول ستريت جورنال".

واستبق ماكرون الصراع البرلماني بخطوة اعتُبرت من أهم قراراته، إذ حلّ البرلمان، ودعا إلى انتخابات مبكرة. وأسفرت الانتخابات الصيفية عن انقسام غير مسبوق في الأصوات داخل الجمعية الوطنية. ومن دون أغلبية واضحة، صار تمرير أي قانون، بما في ذلك الموازنة السنوية، بمثابة استفتاء على الحكومة.

وسقط اختيار ماكرون الأول لرئاسة الوزراء، ميشيل بارنييه المحافظ، سريعاً في تصويت الثقة. ثم تولى بايرو المنصب في ديسمبر الماضي، وتمكن من تمرير موازنة 2025 عبر رفع مؤقت لضرائب الشركات.

لكنه سرعان ما حذّر البرلمان من أن "تضحيات أعمق" ضرورية لتقليص عجز 2025، إذ انه المتوقع أن يبلغ 5.4% من الناتج المحلي هذا العام. وفقد دعم الحزب الاشتراكي بعد فشل المفاوضات بشأن إصلاح ماكرون لنظام التقاعد.

ثم أثار بايرو غضب البلاد بخطته لزيادة الإنتاجية عبر إلغاء عطلتين وطنيتين: اثنين الفصح و8 مايو (ذكرى استسلام ألمانيا النازية).

وقال جوردان بارديلا، زعيم "التجمع الوطني" اليميني المتطرف: "إنها هجمة مباشرة على تاريخنا وجذورنا – وعلى العمال الفرنسيين".

تصنيفات

قصص قد تهمك