
في ظل الأزمات المتلاحقة التي عصفت بلبنان خلال الأعوام الأخيرة، من الانهيار المالي غير المسبوق، إلى جائحة كورونا، ثم انفجار مرفأ بيروت والحروب المستجدة، يعيش الاقتصاد اللبناني مرحلة دقيقة وحساسة، وعلى رغم قتامة المشهد وتفاقم التحديات، يتحدث وزير الاقتصاد اللبناني عامر البساط عن بروز مؤشرات إيجابية تبعث على الأمل بإمكان تحقيق بداية تعافٍ، شرط المضي بالإصلاحات الجذرية وإرساء الاستقرارين الاقتصادي والأمني، معتبراً أن وجود سلاح خارج الدولة يشكل عائقاً أمام النهوض الاقتصادي وإعادة الإعمار.
وللدخول أكثر في تفاصيل الوضع الاقتصادي، وعملية إعادة إعمار ما هدمته الحرب الأخيرة، والدعم الذي يحتاج إليه لبنان من الدول الكبرى، أجرت "اندبندنت عربية" مقابلة خاصة مع الوزير عامر بساط، وخلالها كان التركيز على حجم التحديات أمام الحكومة، ومعالم الرؤية الاقتصادية الجديدة، وموقف لبنان من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، إضافة إلى خطط إعادة هيكلة المصارف واستعادة ثقة المستثمرين.
في تقييمه للوضع الاقتصادي في لبنان حالياً بعد أعوام من الانهيار، يؤكد وزير الاقتصاد أن الحقيقة واضحة وهي أن الوضع ليس طبيعياً بعد ستة أعوام من أزمة مالية كبيرة وجائحة كورونا وانفجار المرفأ وبعد حرب شرسة بين إسرائيل و"حزب الله"، ويعترف بأن الوضع صعب جداً كما هو واضح في القطاع المصرفي، حيث تجمد نحو 83 مليار دولار من أموال المودعين، وارتفعت نسب البطالة والهجرة، لكن في المقابل يتحدث عن أمر إيجابي وفسحة أمل تمثلت بحجم النمو الاقتصادي الذي بين أن عام 2025 قد يكون الأفضل منذ عام 2011، إن كان لناحية تدفق أموال جديدة أو من خلال عودة السياح، ويؤكد أنه على الحكومة إعادة الوضع إلى طبيعته.
رؤية اقتصادية: من الريع إلى الإنتاج
يحسم البساط أن الحكومة لم تتراجع عن نيتها الإعداد لرؤية اقتصادية طويلة المدى ويؤكد أن أبرز ملامحها هي نقل الوضع من اقتصاد ريعي يعتمد على الاستهلاك والاستيراد والدين، كما كانت الحال في الأعوام الـ20 الماضية، إلى اقتصادٍ إنتاجي يعتمد على الاستثمار، ويقول "فنحن نمتلك العقل وهو رأس مالنا الأساس".
وعن الفساد وسوء الإدارة اللذين يشكلان جذور الأزمة في لبنان ويعوقان أي إصلاح، يرى البساط أن هذه تراكمات وعقود من سوء الإدارة وقسم منها سببه سوء النمو والركود والأزمات، ويشدد على أن إعادة بناء الدولة تعد من أهم أهداف الحكومة الحالية، والخطوة الأولى هي في التعيينات لملء الشواغر وتشكيل الهيئات الناظمة، وإعادة النظر بما يعرف بالتضخم التشريعي، وتغيير القوانين ورفع المعاشات، وعن طول هذا المسار يقول "رحلة الميل تبدأ بأول خطوة".
ويشرح وزير الاقتصاد عن خطوات قصيرة المدى يتم العمل على تنفيذها منها المكننة (Otomation) في كل الوزارات، حيث أضحت 70 في المئة من تعاملات وزارة الاقتصاد إلكترونية، على أن تصبح بعد عام بنسبة 100 في المئة، ويشرح أن التعاملات الداخلية في الوزارات يتم العمل على مكننتها، وهي عملية قد تحتاج إلى عام، لكنها في الأقل وضعت على سكة التنفيذ.
جولة سادسة مع صندوق النقد الدولي
يشدد الوزير المشارك في لجنة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى جانب وزير المالية ياسين جابر وحاكم مصرف لبنان كريم سعيد، أن العوائق التي تمنع ولا تزال حصول الاتفاق مع الصندوق هي تقنية أكثر مما هي سياسية.
ويشرح أن أهمية الاتفاق مع الصندوق هي في مساعدة الحكومة من جهة على بلورة كل الملفات واستعادة ثقة المجتمع الدولي والعربي من جهة أخرى.
يعترف بوجود فجوة كبيرة من الصدقية بين لبنان والعالم وبأن الدول لم تعد تؤمن بهم وبقدرتهم على التغيير والإصلاح، لكن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي قد يفتح الباب ويعيد ثقة الدول بهم.
العوائق التقنية التي تحول دون توقيع الاتفاق شائكة، وفق البساط، ومرتبطة بسبعة ملفات ليست مستحيلة لكنها تتطلب عملاً تقنياً ودراسات وتقارير وكلها تحتاج إلى وقت.
ويكشف عن أن عدد الجولات التفاوضية مع صندوق النقد الدولي قد بلغت خمس جولات، ووصلت إلى موقع متقدم، والجولة السادسة ستحصل الأسبوع المقبل، حيث من المتوقع أن يزور لبنان وفد من الصندوق، مستبعداً أن تكون الجولة السادسة حاسمة، نظراً إلى الملفات التي لا تزال عالقة، منها القطاع المصرفي والقطاعات الهيكلية وشؤون مالية ونقدية وملف الكهرباء.
ويتوقع البساط أن يكون الاجتماع السنوي في الـ13 من أكتوبر (تشرين الأول) في واشنطن مناسبة لاستكمال البحث وأن يحصل تقدم، ويجزم بأن لجنة التفاوض، التي تضمه مع جابر وسعيد، لن تتخذ أي قرار إلا بما يخدم مصلحة لبنان.
توزيع الخسائر حتمي
يرفض وزير الاقتصاد ما يحكى عن غياب خطة واضحة لإعادة هيكلة المصارف، ويتحدث عن ثلاث خطوات حددتها الحكومة منذ اليوم الأول وأنجزت الأولى المتمثلة برفع السرية المصرفية بعدما كانت محرّمة سابقاً، ووضعت ثانياً قانون إعادة هيكلة المصارف في مجلس النواب، والعمل مستمر لإقرار الخطوة الثالثة وهي الأصعب، عبر تحديد الفجوة المالية أو ما يسمى بإعادة التوازن المالي، وإيجاد حل عادل لمشكلة المودعين وإعادة هيكلة المصارف.
ويجزم بأن المودع سيستعيد أمواله وبأن الالتزام ثابت بهذا الأمر، بالتوازي مع إعادة هيكلة المصارف لأنه لا يمكن أن يتحقق أي نمو من دون قطاع مصرفي سليم.
ويعبر عن قناعته باعتماد مبدأ توزيع الخسائر بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف، لكن من دون أن تؤدي هذه الخطوة إلى خسارة الدولة أو المصرف المركزي أو إقفال القطاع المصرفي.
شروط عودة المستثمرين
لا يمكن جذب المستثمرين إلى لبنان قبل أن تقوم الدولة اللبنانية بما عليها فلا "غداء مجانياً" no free lunch يقول وزير الاقتصاد، مضيفاً أن مسار استعادة المستثمرين يجب أن يبدأ بإعادة هيكلة المصارف وخفض سعر الكهرباء وتقوية مؤسسات الدولة وتأمين الاستقرار الأمني والسياسي وحصر السلاح بيد الدولة، فيما "قبل تحقيق كل هذه الخطوات لن يأتي أي مستثمر إلى لبنان، لكن يمكننا أقله القول للمستثمر إننا بدأنا المسار ووضع الأمور على الطريق الصحيح".
يحدد البساط المستثمرين بثلاث فئات، الأولى أصحاب المؤسسات الصغيرة الذين فقدوا الأمل والمطلوب استعادتهم، والفئة الثانية هي المغتربون الناجحون في دول العالم وهم كثر، وأخيراً المستثمرون الأجانب وخصوصاً الأشقاء العرب الذي علينا إقناعهم مجدداً بدور لبنان المميز في الاقتصاد العربي كما كان على مرّ التاريخ.
هناك قرار من رئيس الحكومة، يضيف البساط، يدعو إلى تغيير المقاربة واستبدال صورة لبنان من بلد متسول إلى بلد الاستثمار.
ويؤكد أن مؤتمر إعادة الإعمار المقرر انعقاده في فرنسا لم يحدد موعده بعد وأن تحديد الموعد مرتبط بالإصلاحات الاقتصادية وبموضوع السلاح، ويتحدث عن مؤتمر ثانٍ لا يقل أهمية عن الأول وهو "مؤتمر الاستثمار" الذي سينعقد في الـ18 والـ19 من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل في بيروت بمشاركة مستثمرين لبنانيين من دول الانتشار وشركات خاصة.
يؤكد وزير الاقتصاد أن الاستقرار الأمني والاستقرار الاقتصادي شرطان أساسان لعودة الاستثمار، وبخاصة الاستقرار الأمني الذي يعد شرطاً سابقاً لدى كل مستثمر يتم التواصل معه، ويضيف أن الحكومة بدأت في هذا المسار والقرار اتخذ في جلسة الخامس من أغسطس (آب) الماضي والتنفيذ سيبدأ بالتوازي مع القرارات الإصلاحية الأخرى التي اتخذت ومستمرة، ويرى أن المستثمر والمانح عندما سيريان أن الحكومة جدية وبدأت التنفيذ سيأتيان إلى لبنان.
السلاح غير الشرعي عائق
يشدد البساط على أن الوضع في لبنان في الأعوام الـ10 الأخيرة لم يكن طبيعياً، فازدهار أية دولة ونموها يتطلب أن تكون مسيطرة على حدودها وعلى اقتصادها النقدي واقتصادها الموازي وأن تكون محتكرة لقرار الحرب والسلم وللسلاح، ودولة تراقب وتحاسب كل القطاعات بما فيها القطاعات الاقتصادية، ويعترف بأن وجود سلاح خارج عن الدولة هو عائق أمام النمو وعودة الأدمغة والاستثمارات وأمام تأمين الأموال اللازمة لإعادة الإعمار.
ويختم بالتأكيد أن "تنفيذ شرطي الإصلاح الاقتصادي والأمني وقيام دولة طبيعية قد لا يضاعفان فقط الاقتصاد اللبناني إنما يمكن أيضاً أن يرتفع الحجم خلال ستة أعوام من 30 مليار دولار إلى 100 مليار، فيما تطبيق حصر السلاح وإقرار الإصلاحات سيوفران حظوظاً للبنان أكبر بكثير مما هي عليه اليوم... القرار السياسي اتخذ للمرة الأولى منذ عقود والجيش وضع خطة تنفيذية والاتكال على الله وعلى إرادة الشعب في لبنان".
هذا المحتوى من "إندبندنت عربية"