إغلاق حكومي غير تقليدي في أميركا.. ترمب يختبر حدود سلطاته الرئاسية

time reading iconدقائق القراءة - 11
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يشير بيده إلى زعيم الأقلية الديمقراطية بمجلس النواب حكيم جيفريز خلال اجتماع بشأن الإغلاق الحكومي بالمكتب البيضاوي، 30 سبتمبر 2025 - realDonaldTrump
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يشير بيده إلى زعيم الأقلية الديمقراطية بمجلس النواب حكيم جيفريز خلال اجتماع بشأن الإغلاق الحكومي بالمكتب البيضاوي، 30 سبتمبر 2025 - realDonaldTrump
واشنطن -عزيز عليلو

لم يمر وقت طويل على بدء الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة في 1 أكتوبر، حتى تحوّل سريعاً إلى ما هو أبعد من مجرد أزمة تمويل، فبينما تتعطل المؤسسات، وبات أكثر من مليون موظف فيدرالي ما بين الإجبار على إجازات إجبارية وتهديد بفقدان دائم لوظائفهم، تلوح في الأفق ملامح اختبار دستوري جديد.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرى في الإغلاق فرصة لإعادة رسم ميزان القوى بين البيت الأبيض والكونجرس، وتوسيع سلطاته التنفيذية عبر تقليص الجهاز البيروقراطي الفيدرالي، وفرض أجندة رئاسية دون تصويت من الكونجرس.

في السابق، كانت الإغلاقات تعكس عجز المشرّعين عن التوصل إلى اتفاقات مالية، وغالباً ما كانت تدور حول بنود إنفاق أو أولويات سياسية مؤقتة.

أما هذه المرة، فيسعى الرئيس ترمب إلى استغلال لحظة الشلل المؤسسي لتقليص حجم الحكومة الفيدرالية من جذورها، عبر تسريحات جماعية وإلغاء برامج طالما عارضها، معوّلاً على الفراغ الدستوري الذي يخلقه الإغلاق ليُرسّخ سابقة في التاريخ الأميركي الحديث، بحسب صحيفة "واشنطن بوست".

سلطة استثنائية في لحظة فراغ

في أي إغلاق حكومي، يملك الرئيس صلاحيات واسعة لتحديد ما يُعدّ "خدمات أساسية" وما يمكن وقفه مؤقتاً. لكن إدارة ترمب تجاوزت هذا الإطار التقليدي، إذ وضعت خططاً لتسريح آلاف الموظفين الفيدراليين بشكل دائم، بدعوى أن وظائفهم "لا تتماشى مع أولويات الرئيس".

هذا التوجه، بحسب صحيفة "واشنطن بوست"، يفتح الباب أمام إعادة هيكلة واسعة للإدارة الفيدرالية، دون الحاجة لأي تصويت في الكونجرس.

المحامية والمحللة السياسية الديمقراطية جيمي رايت تلخص هذه المقاربة قائلةً لـ"الشرق"، إن "الإغلاق في العادة حالة جمود، لكن في قاموس ترمب هو فرصة لرفع الفأس. الموظفون الأكثر عرضة هم أولئك العاملون في وكالات طالما أراد إضعافها، من البيئة إلى الصحة والتعليم. هذه ليست إجازات مؤقتة، بل خطة لتغييرات لا رجعة فيها".

اقرأ أيضاً

ترمب يدعو الجمهوريين لاستغلال إغلاق الحكومة.. ويلوح بفصل موظفين فيدراليين نهائياً

قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب إن الجمهوريين يجب أن يستغلوا إغلاق الحكومة لـ"التخلص من الهدر والفساد"، فيما واصل التلويح بفصل نهائي للموظفين الفيدراليين.

وتضيف رايت أن هذه الاستراتيجية تصطدم بحواجز قانونية ودستورية، إذ لا يملك الرئيس ببساطة صلاحية طرد عشرات الآلاف من الموظفين المحميين بالقانون الفيدرالي، وهو ما قد يفتح الباب لسيل من الدعاوى القضائية. لكنها تشير في الوقت نفسه إلى أن ترمب "يجيد العمل في المناطق الرمادية من القانون، حيث الغموض يصبح أداة، والمشهد الإعلامي جزءاً من الاستراتيجية السياسية".

استهداف وكالات وبرامج بعينها

ولا تقتصر خطط ترمب على تخفيضات عامة في النفقات، بل تشمل إعادة توجيه شاملة لأولويات الدولة. وبحسب تقارير FOX News، فقد وجه البيت الأبيض أوامره بالفعل إلى الأجهزة التنفيذية لوضع قوائم بالبرامج والموظفين الذين سيجري الاستغناء عنهم خلال الأسابيع المقبلة، مع التركيز على القطاعات المرتبطة بالتنظيمات البيئية والصحية والتعليمية.

الصحافي الاقتصادي في موقع "بوليتيكو"، آري هوكينز، أوضح في مقابلة مع "الشرق"، أن الإدارة بدأت فعلاً بتطبيق هذه الخطة على الأرض.

وقال هاوكينز: "شاهدنا بالفعل تسريحات لعشرات الآلاف من العاملين، وتركزت في وزارات مثل التجارة، التي تعتمد على طاقم كبير في خدمات الأرصاد والسلامة. أما الأجهزة المعنية بالسياسات الاقتصادية والأمن القومي فقد جرى تحصينها من هذه الإجراءات".

هوكينز أشار أيضاً إلى أن البيت الأبيض يستخدم الإغلاق لتنسيق حملة سياسية ضد الديمقراطيين، عبر دفع الوكالات لنشر رسائل رسمية تلقي باللوم عليهم، في خطوة غير معتادة قد تثير تساؤلات قانونية بشأن استقلالية هذه المؤسسات.

سلاح سياسي ضد "أميركا الزرقاء"

في موازاة هذه التحركات، يستغل ترمب الإغلاق لتوجيه ضربات مركزة إلى الولايات والمناطق "الزرقاء"، ذات الأغلبية الديمقراطية.

وبحسب تحقيق موسع نشره موقع "بوليتيكو"، فقد جمّد البيت الأبيض تمويل مشاريع ضخمة في ولايتي نيويورك وكاليفورنيا، من بينها 8 مليارات دولار لمشاريع الطاقة النظيفة، إضافة إلى وقف العمل في نفق هدسون وخط المترو الثاني في مانهاتن.

هذا التوجه ليس مفاجئاً لمن تابع خطاب ترمب خلال الأسابيع الماضية، إذ تحدث علناً عن "فرصة غير مسبوقة"، لاستخدام الإغلاق لتقليص ما وصفه بـ"الوكالات الديمقراطية".

جيف لي، المحلل الاستراتيجي الديمقراطي، قال لـ"الشرق"، إن هذه القرارات "ليست إدارية بحتة، بل سياسية بامتياز". 

وأوضح أنه "في الإغلاق، للرئيس حرية تقرير ما هو أساسي وما ليس كذلك. يمكنه إبقاء وزارة الأمن الداخلي تعمل بكامل طاقتها، وفي الوقت نفسه تعطيل خدمات وزارة الزراعة التي يعتمد عليها المزارعون للحصول على القروض والدعم. هذه قرارات سياسية تُترجم إلى نفوذ تنفيذي هائل".

هذه الاستراتيجية تنسجم مع أسلوب ترمب المعروف في "استخدام أجهزة الدولة كأدوات ضغط، سواء على خصومه السياسيين، أو على الولايات التي لم تصوّت له"، على حد تعبير جيف لي.

الجدل القانوني وحدود السلطة

في قلب هذا الصراع تكمن معركة قانونية ودستورية بشأن حدود السلطة التنفيذية أثناء الإغلاق. ويرى مؤيدو الرئيس، مثل روب أرليت، الرئيس السابق لحملة ترمب في ولاية ديلاوير، أن صلاحيات الرئيس في هذه الحالة "واضحة".

وقال أرليت لـ"الشرق" إنه "علينا ألا ننسى أن هناك ثلاث سلطات في نظام الحكم الأميركي: السلطة التنفيذية بقيادة رئيس الولايات المتحدة، وتخضع لها جميع الوكالات والإدارات. ثم السلطة التشريعية (الكونجرس)، وهي التي تموّل هذه الوكالات وتمنحها الميزانيات. وأخيراً السلطة القضائية، التي تراقب مدى قانونية هذه الإجراءات وفقاً للدستور".

وأضاف: "إذا لم يكن هناك تمويل لتشغيل الوكالات التي تقع تحت مسؤولية الرئيس، فله السلطة، من حيث المبدأ، لفصل الموظفين لأنها تقع ضمن نطاق السلطة التنفيذية".

وفيما يقر أرليت بأن هذه السلطة ليست مطلقة، فإنه يشير إلى أن "القضاء هو من سيحسم المسألة. لكن نظرياً، وبحسب بنية النظام الأميركي، فإن للرئيس هذه الصلاحيات التنفيذية".

ويشكك معارضين كُثر في قانونية هذه الخطوات. جيف لي يوضح أن المسألة ستُختبر في المحاكم، قائلاً إنه "من غير الواضح قانونياً ما إذا كان يمكنه طرد موظفين بشكل دائم خلال الإغلاق. هذا الأمر سيُختبر أمام القضاء، لكن في الأثناء، يمارس الرئيس ضغطاً سياسياً هائلاً".

تداعيات اقتصادية بمليارات الدولارات

الإغلاق لا يدور فقط حول السلطة، بل أيضاً حول ثمن اقتصادي باهظ. إذ قدّرت مذكرة صادرة عن مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض، نشرها موقع "بوليتيكو"، أن الاقتصاد الأميركي قد يخسر 15 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي عن كل أسبوع من الإغلاق، مع احتمال فقدان 43 ألف وظيفة إضافية في حال استمر لشهر.

تأثيرات هذه الخسائر لا تقتصر على الموظفين الفيدراليين، بل تمتد إلى الاقتصاد الأوسع، من الإنفاق الاستهلاكي إلى النقل الجوي، حيث ترتفع معدلات الغياب بين العاملين في المطارات إلى ثلاثة أضعاف في فترات الإغلاق الطويل.

الصحافي الاقتصادي في "بوليتيكو"، آري هوكينز أشار إلى أن الاقتصاد الأميركي غالباً ما عوض خسائره بعد انتهاء الإغلاق الحكومي في السابق، غير أنه أشار إلى أن قدرة الاقتصاد على التعافي ربما تكون مرتبطة بمدة استمرار الإغلاق.

وأوضح أنه إذا استمر هذا الإغلاق لفترة مماثلة لعام 2019 حين استمر لـ35 يوماً، فقد نشهد خسائر اقتصادية مركّبة، ناتجة عن التأثيرات التقليدية مثل تباطؤ النشاط الاقتصادي وصعوبات لوجستية، بالإضافة إلى التداعيات المحتملة من جانب ترمب في حال اتبع نهج التسريح الدائم لعدد كبير من الموظفين الفيدراليين بدلاً من منحهم إجازات مؤقتة.

وتابع: " يتم اتخاذ قرارات التسريح بشكل منفصل من قِبل كل وكالة، ما يعني أن تأثير هذه الخطوة سيكون متفاوتاً ومعقّداً يصعب التنبؤ به بشكل موحد".

معركة على أبواب انتخابات 2026

ومع اقتراب الانتخابات النصفية عام 2026، يأخذ هذا الصراع بعداً سياسياً مباشراً، إذ يرى الديمقراطيون في الأزمة فرصة لتسليط الضوء على أسلوب ترمب في الحكم، فيما يراهن الجمهوريون على تعبئة قاعدتهم خلف شعار "تقليص الحكومة".

جيف لي يرى أن التبعات السياسية تعتمد على المدة والآثار الاقتصادية، قائلاً إن "الانتخابات لا تُحسم بالإغلاق نفسه، بل بنتائجه. إذا أدى الإغلاق إلى تباطؤ اقتصادي كبير، فستكون هذه نقطة ضعف للجمهوريين. أما إذا تمكن ترمب من فرض أجندته وإقناع قاعدته بأنه يحارب البيروقراطية، فقد تتحول إلى مكسب سياسي".

من جانبه، اعتبر روب أرليت أن تداعيات الإغلاق على مزاج الناخبين في الانتخابات النصفية "تبقى رهناً بمن يربح معركة الخطاب الإعلامي".

وقال إنه "من الصعب إعطاء إجابة قاطعة اليوم لأن الأمور لم تتضح بعد. ما أعرفه هو أن الجمهوريين صوّتوا لصالح قرار التمويل المؤقت لإبقاء الحكومة مفتوحة وأرادوا مواصلة الحوار والمفاوضات، بينما الديمقراطيون رفضوا ذلك. وبالتالي، فهم من اختاروا الإغلاق الحكومي".

وأضاف: "إذا لم يفهم الجمهور هذه الحقيقة أو لم يدركها، فاللوم يقع على الجمهوريين لأنهم لا يبلّغون رسالتهم بفاعلية من ناحية العلاقات العامة والإعلام".

أما جيمي رايت، فحذرت من أن هذا الصراع الحالي "قد يعيد كتابة قواعد اللعبة، من رئيس يسعى لتقليص دور الكونجرس إلى حد غير مسبوق، إلى دولة تدار من المكتب البيضاوي وحده".

وخلصت إلى أن الإغلاق الحالي يتجاوز كونه نزاعاً حول الموازنة أو التأمين الصحي، "ليصبح ساحة لاختبار شكل السلطة في الولايات المتحدة، وحدود الدور الذي يمكن أن يلعبه الرئيس عندما تتوقف عجلات الحكومة عن الدوران".

تصنيفات

قصص قد تهمك