
رغم رهان دوائر سياسية واقتصادية متشددة في واشنطن تجاه الصين على أن الرسوم الجمركية الأميركية ستقوض قدرة بكين، إلا أن مؤشرات النشاط الصناعي في المدن الصينية أظهرت واقعاً مغايراً، إذ تواصل المصانع الازدهار، ما يشير إلى أن الاقتصاد الصيني لا يزال يحتفظ بهامش قوة يفوق تقديرات الولايات المتحدة.
وشددت بكين، قبل أسبوع، قبضتها على الإمدادات العالمية من المعادن الحيوية النادرة، منهيةً حالة الهدوء التجاري الهش مع الولايات المتحدة، لتبعث رسالة واضحة مفادها أنها مستعدة لـ"القتال"، وفق وصف تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز".
وإلى جانب المعادن النادرة، تمتلك بكين ورقةً رابحة أخرى هي مصانعها، فرغم الرسوم الجمركية المرتفعة التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لا يزال القطاع الصناعي الصيني يساهم في الحفاظ على النمو الاقتصادي، مانحاً الرئيس شي جين بينج موقفاً أقوى في مواجهة أميركا.
يي وو.. قلب الصناعة الصينية
تتجلى مظاهر هذه القوة في مدينة يي وو الصينية، التي تضم أكبر سوق جملة في العالم، حيث يُباع هناك كل شيء تقريباً من الألعاب، والإلكترونيات، والطائرات المسيّرة، في مجمعات ضخمة تمتد على مساحات هائلة.
وكشفت المدينة، الأسبوع الماضي، عن مركز تجاري جديد يعادل حجمه مئات ملاعب كرة القدم، ليكون منصة لتصدير البضائع، وعرضاً لـ"القوة التصنيعية الصلبة للصين أمام العالم".
ومع عودة الرسوم مجدداً، بدأت تحوّل المدينة الصينية صادراتها إلى أسواق جديدة في جنوب شرق آسيا وجنوب إفريقيا، وفق الصحيفة.
وفي مركز التجارة الرقمية العالمي الجديد في يي وو، كما وصفته الصحيفة، تسمح السلطات للبائعين باستخدام إنترنت غير خاضع لجدار الحماية الصيني، ما يتيح لهم بيع منتجاتهم عبر منصات مثل "تيك توك"، و"يوتيوب"، المحظورة في بقية أنحاء البلاد.
اليوان يزيد القدرة التنافسية
وسجل اليوان الصيني تراجعاً أمام معظم العملات هذا العام، رغم ارتباطه الوثيق بالدولار الأميركي. والأسبوع الماضي، رفع البنك المركزي سعره المرجعي إلى أعلى مستوى له خلال عام، كما خفّض أسعار الفائدة لتحفيز الإقراض.
ورغم أن هذه المؤشرات سلبية داخلياً، إلا إنها جعلت الصادرات الصينية أكثر تنافسية.
ويرى كريستوفر بيدور، نائب مدير أبحاث الصين في شركة Gavekal Dragonomics أنه "كلما ساءت الأوضاع داخلياً، أصبحت صادراتهم أكثر قدرة على المنافسة". وأضاف: "بين الصدمة الانكماشية وضعف العملة، أصبحت البضائع الصينية أرخص وأقدر على منافسة منتجات دول كثيرة".
وبحسب بيانات الجمارك الصينية، ارتفعت الصادرات في سبتمبر إلى 328.6 مليار دولار، أعلى مستوى شهري في 6 أشهر.
ورغم أن الصادرات إلى الولايات المتحدة انخفضت بنسبة 27%، إلا أنها قفزت في معظم الأسواق الأخرى.
إقبال عالمي
تعتمد مقاومة الصين للصدمات التجارية على بقاء الأسواق الأخرى مفتوحة أمام بضائعها، لكن ذلك يواجه اعتراضات متزايدة، حتى في بعض دول جنوب شرق آسيا التي ارتفعت وارداتها من الصين بشكل كبير.
ومع ذلك، فإن الطلب على السلع الصينية منخفضة الكلفة لا يزال قوياً.
وفي مدينة التجارة الدولية في يي وو، كان النشاط التجاري على أشده، الأسبوع الماضي، حيث يتفاوض المشترون من مختلف الدول مع الباعة، من طائرات صغيرة مسيرة، وكلاب آلية، ورجال يجربون بنادق بلاستيكية.
ووفق "نيويورك تايمز"، تضطر الصين إلى تكثيف التصدير للخارج لأنها لا تجد مشترين كافين في الداخل.
وتسبب انهيار سوق العقارات المستمر منذ 4 سنوات، في انكماش معظم مدخرات العائلات الصينية، وزاد من التشاؤم الاقتصادي. ولتخفيف الأثر، تدعم الحكومة القطاع الصناعي مباشرة.
وفي الوقت نفسه، تتراجع الأسعار في مختلف القطاعات، وترتفع البطالة بين الشباب، وتتباطأ الأجور في المدن إلى أدنى مستوياتها، بل تتقلص في بعض الصناعات. كما انهارت أسعار الأراضي، وهو ما يقلّص عائدات الحكومات المحلية.
فائض تجاري للصين
وتعتبر القوة التصنيعية للصين، المدعومة بسياسات حكومية، جزءاً من تحول اقتصادي ضخم يجعل الصين تُصدّر منتجاتها إلى عدد أكبر من الأسواق حول العالم.
وقد بلغ الفائض التجاري للصين هذا العام أكثر من 875 مليار دولار، متجهاً نحو رقم قياسي جديد. وتشكل الصادرات نحو ثلث النمو الاقتصادي الصيني خلال العام الماضي، وهو مسار يقول الخبراء إن من الصعب استمراره.
لكن هذه الاستراتيجية ضرورية ومليئة بالمخاطر في الوقت نفسه، إذ تعكس الزيادة الكبيرة في الصادرات علامة إنذار بشأن الاقتصاد المحلي، الذي يعاني مما يسميه الاقتصاديون "صدمة انكماشية".
وأظهرت بيانات جديدة أن النمو توقف خلال الصيف بسبب تباطؤ مبيعات التجزئة، كما أن الاعتماد المتزايد على التجارة الخارجية يجعل الصين عرضة لاحتمال أن تفرض الدول الأخرى قيوداً أو حواجز تجارية جديدة.