الاستيلاء السريع لحركة "طالبان" على كابول لم يكن في حسبان الدول الأجنبية، التي تجهد الآن لرسم سياستها إزاء الأمر الواقع الجديد في البلد المضطرب، وحساب مكاسبها وخسائرها، رغم أن غالبيتها آثرت التمهّل والامتناع عن اتخاذ مواقف حاسمة، في انتظار النهج الذي ستعتمده الحركة.
ورحبّت دول محدودة بإطاحة نظام الرئيس أشرف غني، فيما رفضت أخرى الاعتراف بسلطة الحركة، بينما أبدت بلدان انفتاحاً حذراً على التعامل مع "طالبان"، لا سيما تلك المنافسة للولايات المتحدة، أو المناهضة لها، علماً بأن التصريحات قد لا تعكس النيات الحقيقية.
إسلام آباد التي تُتهم بأنها "راعية" للحركة، اعتبرت أن "نصرها" أظهر أن الأفغان "كسروا قيود العبودية"، كما قال رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، فيما تحدث مساعده الخاص، رؤوف حسن، عن "انتقال سلس تقريباً للسلطة، من الحكومة الأفغانية الفاسدة إلى طالبان".
أما وزيرة المناخ الباكستانية، زرتاج جل وزير، فاعتبرت أن "الهند تحصل على هدية مناسبة ليوم استقلالها"، في تغريدة حذفتها لاحقاً.
وإذ يشي كلام الوزيرة بأن عودة "طالبان" ستزعج نيودلهي، فإن وزير الخارجية الهندي، سوبراهمانيام جايشاتكار، رأى أن مسألة تعامل بلاده مع قيادة الحركة لا تزال مبكرة، مضيفاً: "نتابع تطوّر الوضع في كابول".
وسُئل هل ستواصل الهند استثماراتها وانخراطها في أفغانستان، فأجاب أن "العلاقات التاريخية مع الشعب الأفغاني مستمرة"، علماً بأن "طالبان" حضّت نيودلهي على استكمال مشاريعها في البنية التحتية بأفغانستان، إذا أرادت ذلك.
تركيا متشجّعة
في السياق الإيجابي، أعرب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن استعداده للقاء قادة "طالبان"، مرحّباً بـ "التصريحات المعتدلة التي تصدر عنها". واعتبر أن "الوجود العسكري التركي في أفغانستان سيمنح الإدارة (الأفغانية) الجديدة ميزة على الساحة الدولية، ويسهّل عملها"، كما أفادت وكالة "فرانس برس".
وأضاف: "كانت لدينا النيّة لضمان أمن المطار والمساهمة في أمن البلد، بعد انسحاب (القوات) الأميركية. ما زالت لدينا النية لفعل ذلك".
أما وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، فرحّب بـ"الرسائل التي وجّهتها طالبان حتى الآن، سواء إلى الأجانب والبعثات الدبلوماسية، أو إلى شعبها أيضاً"، معرباً عن أمله بأن "تُترجم ذلك في أفعال". وأضاف: "نستمرّ بالتحاور مع جميع الأطراف في أفغانستان، بما في ذلك طالبان".
جاويش أوغلو كان يتحدث في عمان، خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الأردني أيمن الصفدي، الذي أبدى "قلقاً من المسار الذي سارت إليه الأمور في أفغانستان"، معرباً عن أمله بأن "يستطيع الأفرقاء الأفغان التوصّل إلى آلية تضمن أن يتعاونوا من أجل حماية بلادهم ومصالحها".
الإمارات تحضّ على التسامح
وفي وقت أكدت وزارة الخارجية السعودية دعمها "الشعب الأفغاني الشقيق، وخياراته التي يقررها بنفسه من دون تدخل من أحد"، قال أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، إن "الأوطان لا تُبنى بالانتقام بل عبر العفو، والحوار والتسامح، والقبول بدور المرأة وعملها، ومن خلال العلاقات الطيبة لتحقيق الرخاء". وأضاف: "نتمنى أن يطوي الأفغان صفحات المعاناة لصالح السلام والازدهار".
في السياق ذاته، حضّ وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الحركة على تحقيق تسوية سياسية شاملة وانتقال سلمي للسلطة، مع "أهمية الحفاظ على المكتسبات التي حققها الشعب الأفغاني".
روسيا ترى "إشارات أمل"
طهران انتهزت الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وسقوط كابول، للترحيب بـ"هزيمة" واشنطن، متجنّبة إبداء رأي واضح بشأن مستقبل البلاد.
وأجرى الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، اتصالَين هاتفيَّين بنظيريه، الصيني شي جين بينج والروسي فلاديمير بوتين، داعياً "جميع الفئات والمجموعات الأفغانية الناشطة، إلى التعاون من أجل إرساء الاستقرار في البلاد سريعاً، وأن يحوّلوا خروج أميركا إلى منعطف للسلام والاستقرار في أفغانستان".
ورأى أن "السلطة الناتجة عن إرادة الشعب الأفغاني المظلوم، هي مصدر للأمن والاستقرار" في أفغانستان.
وكان واضحاً أن موسكو وبكين تتطلّعان إلى تعامل إيجابي مع "طالبان"، بعد رحيل الأميركيين عن أفغانستان، إذ رأى وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، "إشارات أمل من طالبان، التي تعرب عن رغبتها في تشكيل حكومة مع قوى سياسية أخرى".
وتحدث عن "إشارة إيجابية"، في "إعلان الحركة وإثباتها عملياً، استعدادها لاحترام آراء الآخرين"، معلناً تأييد بلاده إطلاق "حوار وطني" في أفغانستان، بـ"مشاركة كل القوى السياسية والإتنية والطائفية". لكنه لم يحسم مسألة الاعتراف بالحركة، بوصفها سلطة شرعية في أفغانستان، معتبراً أن "من السابق لأوانه القول إننا سنبدأ اتخاذ إجراءات سياسية أحادية"، كما أفادت وكالة "رويترز".
والتقى السفير الروسي في كابول، ديمتري جيرنوف، ممثلاً للحركة، معتبراً أنها "تتصرّف بطريقة مسؤولة ومتحضرة"، فيما اعتبر الموفد الخاص لبوتين بشأن أفغانستان، زامير كابولوف، أن "طالبان لا تمثل تهديداً لآسيا الوسطى".
الصين تريد "علاقات ودية"
كذلك تجنّبت بكين الاعتراف بسلطة "طالبان"، مستدركةً أنها مستعدة للتعامل معها. وقال ناطق باسم وزارة الخارجية الصينية الأربعاء، إن بلاده "ستسهم في إعادة إعمار البناء الاجتماعي والاقتصادي لأفغانستان". وأضاف: "موقف الصين من القضية الأفغانية ثابت وواضح. أما الاعتراف بالحكومة فيتطلّب تشكيلها".
جاء ذلك بعدما أعلنت ناطقة باسم الوزارة الاثنين، أن بكين "تحترم حق الشعب الأفغاني في تقرير مصيره ومستقبله"، مؤكدة استعدادها لإقامة "علاقات ودية" مع "طالبان"، التي ذكرت أن مسلحيها "عبّروا مرات عن أملهم بتطوير علاقات طيبة مع الصين".
وحضّت الحركة على "التميّز بوضوح عن التنظيمات الإرهابية الدولية"، و"ضمان ألا تصبح أفغانستان مجدداً تقاطعاً للإرهاب والتطرّف"، علماً أنها اتهمت الولايات المتحدة بإشاعة "فوضى رهيبة" في أفغانستان.
وكان لافتاً أن الناطق باسم "طالبان"، سهيل شاهين، تحدث عن "دعم سياسي" تتلقاه الحركة من بكين وموسكو.
واشنطن تترقّب "سلوك طالبان"
الولايات المتحدة، المُحرجة بعد السقوط السريع لكابول، والفوضى التي تلت ذلك، أشارت إلى "توافق قوي جداً" مع الصين وروسيا بشأن الوضع في أفغانستان، علماً بأن الرئيس الأميركي، جو بايدن، ذكر في سياق دفاعه عن تمسّكه بالانسحاب من ذاك البلد، أن "منافستينا الاستراتيجيتين الحقيقيتين، الصين وروسيا، كانتا ترغبان في أن تستمرّ الولايات المتحدة إلى ما لا نهاية في تكريس مليارات الدولارات من الموارد، وفي الاهتمام بتحقيق الاستقرار في أفغانستان".
واعتبر مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، أن "على طالبان أن تُظهر للعالم مَن هي"، مضيفاً: "التقييم ليس جيداً، ولكن سيكون من السابق لأوانه" تحديد ما سيكون الوضع مستقبلاً. ورأى أن من المبكّر الإجابة عما إذا كانت الحركة "حكومة شرعية" في أفغانستان، مؤكداً عزم واشنطن "محاسبتها"، إذا سمحت لتنظيم "القاعدة" بالبقاء في أفغانستان.
كذلك ربط الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، موقف بلاده من أي حكومة مقبلة في أفغانستان، بـ "سلوك طالبان". وتابع أن واشنطن تشترط للتعامل مع الحكومة العتيدة أن "تحافظ على الحقوق الأساسية لشعبها، بينهم نصف شعبها، أي الزوجات والبنات، وألا تؤمّن ملاذاً للإرهابيين". وزاد: "مع طالبان، سنراقب ما يفعلونه، بدلاً من الاستماع إلى ما يقولونه".
5 شروط فرنسية
فرنسا كانت واضحة جداً في موقفها من "طالبان"، إذ حدّد وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، 5 شروط كي يعترف المجتمع الدولي بنظامها. وقال لشبكة تلفزة فرنسية: "إذا كان الجيل الجديد من طالبان يريد اعترافاً دولياً، فعليهم أولاً أن يسمحوا بخروج الأفغان الذين يريدون مغادرة البلد لأنهم خائفون، ثم أن يحولوا دون أن يصبح بلدهم ملاذاً للإرهاب".
وطالب الحركة أيضاً بأن "تسمح بوصول المساعدات الإنسانية إلى الأراضي الأفغانية، وأن تحترم الحقوق، لا سيما حقوق المرأة"، إضافة إلى "تشكيل حكومة انتقالية". وشدد على أن "هذه هي الشروط لنيل اعتراف دولي"، محذراً "طالبان" من أن "المجتمع الدولي سينبذها"، إن لم تلبِّ هذه المطالب.
أما كليمان بون، وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية، فأكد أن بلاده "لن تعترف (بنظام طالبان) ولن تجري أي اتصال سياسي" معها. وأضاف: "لا نجري أي اتصال سياسي (مع الحركة) ولن يكون هناك أي تهاون أو مجاملة من أي نوع مع نظامها. فما من نهج معتدل لديها". وتمنّى "مواصلة المسار السياسي" الذي كان قائماً في البلاد.
لندن تأمل بمقاربة "موحّدة"
في السياق ذاته، أعلن رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، أن بلاده ستحكم على نظام "طالبان" بناءً على "الخيارات التي سيتخذها وعلى أفعاله، لا على أقواله، على سلوكه حيال الإرهاب والجريمة والمخدرات، وكذلك على حقّ الوصول (للمساعدات) الإنسانية وحقوق الفتيات في الحصول على التعليم". وتابع: "بصرف النظر عن مدى قتامة دروس الماضي، فالمستقبل لم يُكتب بعد. وفي هذا المنعطف المظلم، يجب أن نساعد شعب أفغانستان على اختيار أفضل مستقبل ممكن له".
ودعا المجتمع الدولي إلى الاتفاق على "مقاربة موحّدة" حيال عودة الحركة إلى الحكم، مضيفاً: "نحن متوافقون على واقع أن الاعتراف بنظام جديد في كابول، سابق لأوانه، وبشكل ثنائي سيشكّل خطأً من أيّ بلد".
جاء ذلك بعدما استبعد وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب، حواراً مع "طالبان" في "المستقبل المنظور"، مستدركاً: "كنا دوماً نتحاور بشكل ما".
أوروبا تريد حواراً
وشدد وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، على أن بلاده "ستحكم على طالبان استناداً إلى أفعالها"، معتبراً أن إضفاء طابع "سلمي على المرحلة الانتقالية، يعتمد على ما ستفعله الحكومة الانتقالية، حالما تُشكّل، وإذا كان بمقدورنا الوثوق بتصريحاتها".
أما وزير الخارجية الأوروبي، جوزيب بوريل، فوصف الوضع في أفغانستان بأنه "كارثة وكابوس". ورأى أن النصر الذي حققته "طالبان" يحتّم على الاتحاد أن "يتحدث إليها، بهدف إجراء حوار في أسرع وقت لتفادي كارثة إنسانية، وربما على صعيد الهجرة" من أفغانستان.
وأضاف: "التعاون مع أي حكومة أفغانية مستقبلاً، سيكون مشروطاً بالتوصّل إلى تسوية سلمية بمشاركة الجميع واحترام الحقوق الأساسية لجميع الأفغان، بما في ذلك النساء والشبان وأبناء الأقليات، علاوةً على احترام الالتزامات الدولية لأفغانستان، والالتزام بمحاربة الفساد ومنع استخدام التنظيمات الإرهابية لأراضيها".
واستدرك أن "الأمر لا يتعلّق باعتراف رسمي (بطالبان)، بل بإجراء اتصال (بها)"، وزاد: "لم أقلْ سوى أننا مُضطرون للتحدث معهم من أجل كل شيء... سنضع شروطنا لمواصلة الدعم وسنستغلّ نفوذنا. يبدو ذلك مجرد أسلوب تفكير مفرط في التفاؤل، لكننا سنستغلّ كل نفوذنا"، وفق "رويترز".
كندا لن تعترف
لكن رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، جزم بأن بلاده "لا تعتزم الاعتراف بحكومة طالبان"، قائلاً: "حين كانوا في الحكم قبل عقدين، لم تعترف كندا بحكومتهم. أسقطوا بالقوة حكومة منتخبة وحلّوا مكانها، ويشكّلون مجموعة إرهابية بحسب القانون الكندي".
أما الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينس ستولتنبرج، فشدد على أن "من مسؤولية مَن يتولون السلطة أن يتأكدوا من عدم تمركز إرهابيين دوليين مجدداً" في أفغانستان. وأضاف: "لدينا القدرة على ضرب الجماعات الإرهابية من مسافة بعيدة، إذا رأينا أنها تحاول ترسيخ موقعها وتخطّط وتنظّم هجمات على حلفاء الناتو ودولهم".
وتابع: "بفضل وجودنا العسكري ودعم المجتمع الدولي، كبُر جيل جديد من الرجال والنساء في أفغانستان وتلقى تعليمه وشارك في السياسة وأدار شركاته وأفاد من وسائل إعلام دينامية... لا يمكن محو كل هذا التقدّم بسهولة. سنحمّل الحكام الجدد مسؤولية حماية الحقوق الإنسانية الأساسية، بما في ذلك حقوق النساء".
كذلك ذكر الناطق باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، أن المنظمة الدولية ستحتاج "إلى رؤية أفعال لطالبان على الأرض، بشأن تنفيذ وعودها".
اقرأ أيضاً: