رصدت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، الأيام الأخيرة التي سبقت سقوط كابول في قبضة حركة طالبان، الأسبوع الماضي، والتي رسمت صورة جديدة لأفغانستان.
الرئيس السابق أشرف غني، وهو تكنوقراطي سابق في البنك الدولي، ومؤلف كتاب "إصلاح الدول الفاشلة"، جمع المسؤولين يوم السبت 7 أغسطس الجاري، في مؤتمر حول تحسين العلاقات بين مكتب المدعي العام في البلاد والمسؤولين المحليين، في الوقت الذي كانت الدولة الأفغانية تنهار وتسقط بأيدي طالبان.
وأشارت الصحيفة إلى أن غني، أمضى معظم ما تبقى من ذلك اليوم في حديقة القصر الرئاسي لقراءة كتاب.
وأضافت الصحيفة في تقرير مطول، أنه بحلول ذلك الوقت، كان عدد المناطق الخاضعة لسيطرة كابول يتضاءل كل ساعة تقريباً، حيث سقطت مدينة قندوز، وهي أكبر مدينة في الشمال الشرقي للبلاد.
في الليلة التالية، وفي غضون 24 ساعة فقط، تبعتها عواصم المقاطعات الأخرى، والتي سقطت العديد منها دون حتى خوض قتال، إذ استولى مقاتلو طالبان على قواعد مليئة بالأسلحة الأميركية.
وتابعت: "في ذلك الوقت كان الرئيس (الأميركي جو) بايدن في منزله في ويلمنجتون بولاية ديلاوير، يلعب الجولف في نادي فيلدستون، ثم عقد اجتماعاً افتراضياً مع فريق الولايات المتحدة الأميركية لتهنئتهم على أدائهم في أولمبياد طوكيو، وقال البيت الأبيض إنه تم إطلاعه على الأوضاع في أفغانستان قبل عقد ذلك الاجتماع".
ووفقاً للصحيفة، ففي يوم الأحد 8 أغسطس الجاري، حذّرت السفارة الأميركية من الوضع في كابول، وقالت إن على الأميركيين مغادرة أفغانستان على متن أول رحلة طيران متاحة، فيما بدأ الأفغان، الذين كانوا يعلمون أنه ستتم مطاردتهم في ظل سيطرة طالبان، في الحديث عن رغبتهم في الفرار من البلاد، ومع ذلك، بقيت الكثير من المقاعد فارغة على متن الرحلات المغادرة.
وأشارت الصحيفة إلى أن الاعتقاد كان في ذلك الوقت، بأن قوات طالبان لن تهاجم كابول، قبل الانسحاب العسكري الأميركي المقرر في 31 أغسطس الجاري، كما أن العديد من المسؤولين في واشنطن كانوا في إجازة، وتركز انتباه الموجودين في واشنطن على مشروع قانون البنية التحتية.
وفي ذلك الوقت قام زعماء الجماعات المسلحة الأقوياء في أفغانستان، الذين قاتلوا ضد طالبان قبل الغزو الأميركي عام 2001، بتعبئة مقاتليهم، وملء الفراغ الذي نتج عن هروب القوات الأفغانية، وفقاً للصحيفة.
نزوح المسؤولين
وأوضحت الصحيفة أنه بحلول يوم الثلاثاء 10 أغسطس، استقال القائم بأعمال وزير المالية الأفغاني خالد بايندا من منصبه، وتوجه إلى خارج البلاد، وأصدر الرئيس غني تعليماته للمطار بعدم السماح لكبار المسؤولين بمغادرة البلاد، بعدما شعر بالانزعاج من النزوح الجماعي المتسارع، إذ قال مسؤولون كبار للصحيفة إنه "طلب من مكتب الجوازات التوقف عن تجديد أو إصدار جوازات السفر لمدة 20 يوماً".
وذكرت الصحيفة أنه بعد ظهر ذلك اليوم، أجرى وزير الخارجية الأفغاني حنيف أتمار، مشاورات مع القائم بالأعمال الأميركي، روس ويلسون.
وفي مقابلة مع "وول ستريت جورنال" في أعقاب الاجتماع، أقر أتمار أن كابول فوجئت بسرعة تقدم طالبان، كما تحدث بثقة عن إمكانية قلب الأوضاع باستخدام الطائرات المُسيرة الحربية، وإعادة تشكيل استراتيجية الحرب للتركيز على الدفاع عن المدن الكبرى.
وبسؤاله عن الاستعدادات للإخلاء، وتوصيات البعثات الأجنبية لمواطنيها بمغادرة البلاد، أعرب أتمار عن استنكاره لما وصفه بـ"حالة الذعر"، الموجودة بين بعض الجهات الفاعلة في البلاد.
وفي واشنطن، احتفل بايدن بإقرار مشروع قانون البنية التحتية من قبل مجلس الشيوخ الأميركي، ولدى سؤاله عن أفغانستان، قال: "على القادة الأفغان أن يجتمعوا"، مؤكداً أنه لم يندم على قراره في الربيع الماضي، سحب جميع القوات الأميركية من كابول.
وبحلول اليوم التالي الأربعاء 11 أغسطس، باتت مدينة "مزار شريف" بمثابة جزيرة منعزلة في بحر طالبان، حيث لم يكن من الممكن الوصول إليها إلا عن طريق الجو فقط، مما دفع الرئيس غني للذهاب إليها مع زعماء الجماعات المسلحة الداعمة للحكومة.
وأشارت الصحيفة إلى أن غني، لم يدل بأي تصريحات علنية لحشد القوات، أو رفع الروح المعنوية للسكان في ذلك اليوم، ولكنه بدلاً من ذلك تحدث عن الكيفية التي يمكن بها الآن لأعضاء الجماعات المسلحة، أن يتقاضوا رواتبهم عبر تطبيقات الهاتف المحمول، وفقاً لما نقلته الصحيفة عن مسؤولين لم تذكر أسمائهم.
ومضت الصحيفة تقول إنه "لطالما تركزت عملية صنع القرار في أيدي مستشار الأمن القومي لغني، حمد الله محب، وهو سفير سابق في واشنطن يبلغ من العمر 38 عاماً، وأمضى محب الأيام الأخيرة في الاتصال بالقادة الموجودين في ساحة المعركة، متجاوزاً التسلسل القيادي العسكري في البلاد".
نقطة تحول
ولفتت الصحيفة إلى أنه بينما اجتاحت حركة طالبان بعض المناطق في الشمال، قام المقاتلون يوم الأربعاء، بالدفاع عن مدينة غزنة جنوب كابول، ولكن حاكمها الإقليمي، داود لغماني، تفاوض على الاستسلام مقابل الحصول على ممر آمن.
قدَم لغماني الورود إلى خليفته في طالبان، ورافق مقاتلو الحركة موكبه المكون من مجموعة من سيارات الدفع الرباعي، وهو في طريقه إلى حدود المقاطعة المجاورة، حيث تم القبض عليه هناك بتهمة الخيانة.
ورأت الصحيفة أن سقوط غزنة، شكل نقطة تحول في تقدم طالبان، ناقلة عن مسؤول في القصر الرئاسي قوله: "بعد سقوط غزنة، لم نتمكن من الاحتفاظ بأي شيء".
وقالت الصحيفة إن الكثير من الأفغان كانوا يتوقعون أن طالبان، لن تنتظر الانسحاب الأميركي، مما أدى لنفاد الرحلات الجوية، وارتفاع أسعار التأشيرات في السوق السوداء، واحتشاد آلاف الأشخاص في مكاتب الجوازات في كابول، وذلك رغم أمر غني بوقف إصدارها أو تجديدها، مضيفة أنه بحلول ذلك الوقت، طلبت وزارة الخارجية الأميركية من سفارتها في كابول، التخلص من كافة الوثائق الحساسة.
وبحلول الخميس 12 أغسطس، انهارت دفاعات مدينة هرات، وانتشر مقاتلو طالبان المختبئون في المدينة في الأحياء، كما أنه في مدينة قندهار الجنوبية، تم حل القوات الحكومية بين عشية وضحاها.
أما في كابول، فقد عقد غني اجتماعاً مع القادة السياسيين، بما في ذلك كبير المفاوضين عبد الله عبد الله، الذي كان قد عاد لتوه من المحادثات مع طالبان في الدوحة، وطلب غني من وزارة الخارجية الحصول على جواز سفره.
وانتشرت حينها التكهنات بأن الرئيس الأفغاني سيستقيل، وفي ذلك اليوم ناقش بايدن الأوضاع في أفغانستان، ومسائل أخرى تتعلق بالأمن القومي مع فريق استخباراته، ثم عاد في وقت مبكر من بعد الظهر إلى منزله في ويلمنجتون، لمواصلة إجازة نهاية الصيف.
ممر آمن
والسبت 14 أغسطس، قبل يوم من سقوط العاصمة، هاجمت طالبان مدينة جلال آباد الشرقية، وفي ذلك الوقت سأل مستشار الأمن القومي الأفغاني، المسؤولين الأميركيين، عما إذا كان بإمكانهم ضمان ممر آمن له في عمليات إجلاء السفارات، وذلك حسبما قال أحد الأشخاص المطلعين على الأمر.
وتابعت الصحيفة: "واصل الرئيس غني إبداء الثقة في الشعب الأفغاني، ونشر صوراً له وهو يتجول في مواقع عسكرية في المدينة مع وزير الدفاع، وناقش خطط الدفاع في القصر الرئاسي مع قائد القوات الأميركية الجديد\ن الأدميرال بيتر فاسيلي".
وأضافت الصحيفة: "لكن خلف الأبواب المغلقة، أعلن غني في لقاء مع زعماء القبائل وشيوخ المقاطعات عن استعداده للاستقالة، والتنازل عن السلطة لحكومة انتقالية، ولكن بالنظر إلى الانتصارات التي حققتها طالبان في ساحة المعركة، فإنه كان من الواضح للجميع أن مثل هذه الحكومة ستكون تحت سيطرة الحركة".
وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، أرسل غني نفس الرسالة في مكالمة هاتفية مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وفقاً لكبار المسؤولين الأفغان..
ووعد بلينكن الرئيس الأفغاني بالعمل معه، لإبرام اتفاق مع مفاوضي طالبان في الدوحة، ولكن غني أكد له أنه ليس لديه خطط لمغادرة أفغانستان، وذلك وفقاً لمسؤولين أميركيين وأفغان.
ومن جانبه، قال مفاوض حكومي كبير، لم تذكر الصحيفة اسمه، إن قادة طالبان أشاروا إلى أنهم سيكونون مستعدين لوقف إطلاق النار لمدة أسبوعين، لتمكين مجلس الشيوخ والأعيان، المعروف باسم اللويا جيرغا، من اختيار إدارة جديدة للبلاد.
وبحلول المساء كانت مدينة مزار شريف قد سقطت، وهرب منها زعماء الجماعات المسلحة مع رجالهم إلى أوزبكستان، تاركين قافلة طويلة من سيارات الدفع الرباعي، وسيارات الشرطة وعربات الهمفي أمام البوابات الحدودية، وهي المركبات التي تم الاستيلاء عليها لاحقاً من قبل طالبان.
وفي منتصف النهار، التقى رئيس الأركان الأفغاني ومسؤول كبير آخر بغني في القصر الرئاسي، إذ كانوا مدعومين بما بدا وكأنه اتفاق وشيك مع طالبان، سيجنبهم خوض معركة في كابول، ولكن حينها اشتكى غني من أنه يشعر بالتعب، وقال إنه سيذهب إلى مقر إقامته المجاور للقصر من أجل تناول الغداء، وأخذ قسط من الراحة.
فرقة اغتيال
ومضت الصحيفة تقول: "ولكن سرعان ما ظهر مستشار الأمن القومي حمد الله محب في مقر إقامة غني، حيث كان الأخير يقيّم تحذيرات فريقه الأمني، من أن فرقة اغتيال تابعة لطالبان كانت موجودة على أرض القصر، خلف المبنى، جاهزة لإطلاق النار عليه، بحسب قول أحد الأشخاص الذين كانوا موجودين في القصر في ذلك الوقت، ولكن لم يتم الإبلاغ عن أي دليل على وجود مثل هذه الفرقة".
وفي نفس الوقت تقريباً، تلقى محب اتصالاً هاتفياً من أحد زعماء طالبان، وهو خليل حقاني، قال له إن "الجميع ما عدا أنت، والرئيس، ونائب الرئيس عمرو الله صالح، عقدوا صفقات معنا"، وأن "طالبان لن تقبل سوى بالاستسلام بشكل كامل"، وذلك وفقاً لمسؤول أفغاني كبير.
وأفادت الصحيفة أنه بعد ذلك قامت فرقة رئاسية بنقل غني ومحب، ومجموعة من مساعديه المقربين إلى وزارة الدفاع، الموجودة بالقرب من القصر، وتم تقسيمهم إلى مجموعتين، وكان وزير الخارجية أتمار قد وصل في وقت سابق إلى القصر، بجواز سفر غني.
وتبع وزير الخارجية إحدى المجموعتين إلى وزارة الدفاع، ولكن بمجرد وصوله إلى هناك، فإنه لم يجد الرئيس، وفقاً لمسؤول كبير تحدث معه، مما دفعه للعودة إلى القصر الرئاسي مرة أخرى، وعندما وصل أتمار إلى القصر لم يجد أحد فيه، إذ كان الرئيس غني ومساعدوه المقربون قد استقلوا بالفعل ثلاث طائرات هليكوبتر مدرعة، وتوجهوا إلى خارج أفغانستان.
غني يغادر
وقال شخص مقرب من أشرف غني، إن قرار مغادرته اتخذه رئيس الحرس الرئاسي، مشيراً إلى أن غني ذهب إلى خارج البلاد، لأنه لم يكن يريد أن تتحول المعركة النارية المتوقعة في القصر الرئاسي، إلى معركة أكبر في كابول.
وتابعت الصحيفة: "هكذا انهارت الدولة الأفغانية، وكذلك انهارت أي فرصة لإنهاء الحرب عن طريق التفاوض"، وحينها قال بلينكن إن "انهيار قوات الأمن الأفغانية، حدث بسرعة أكبر مما توقعنا.
وبعد انتشار خبر مغادرة غني للبلاد، هرع آلاف الأشخاص إلى المطار، كما غادر بعض الوزراء، بمن فيهم أتمار، على متن رحلات جوية.
وبحلول الليل، كان اللصوص قد استولوا على مركبات الشرطة المهجورة، وساروا بها وسط شوارع كابول، وحينها استدعى الزعيم البارز لطالبان في الدوحة، شير محمد عباس ستانيكزاي، مدير أمن القصر الرئاسي، وقال له إنه حان الوقت لتسليم مفاتيح القصر للحركة.
وبعدها دخل مقاتلو طالبان المدينة، ورفعوا أعلامهم، معلنين إسقاط الحكومة.