
قال مسؤولون وخبراء فلسطينيون وفرنسيون لـ"الشرق" إن إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن تشكيل لجنة مشتركة مع السلطة الفلسطينية لصياغة دستور لدولة فلسطين المستقبلية يعبر عن جهد فرنسي لإعادة إحياء مسار الدولة الفلسطينية وتعزيز الحضور الدبلوماسي الفرنسي في الشرق الأوسط.
وجاء هذا الإعلان في وقت حساس تشهد فيه القضية الفلسطينية تحركات دبلوماسية مكثفة بعد وقف إطلاق النار في غزة، وسط غموض بشأن مستقبل القطاع ومصير حل الدولتين في ظل حكومة يمينية في إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو، لا تتورع عن إعلان نواياها المعادية للفلسطينيين والرامية إلى منع إقامة دولة فلسطينية.
الشلالدة: منصة إلكترونية لمناقشة الدستور
وقال عضو لجنة الحقوق والحريات في لجنة صياغة الدستور الفلسطيني المؤقت محمد الشلالدة إنه بموجب مرسوم صادر عن الرئيس الفلسطيني، شكّلت لجنة من 17 عضواً لصياغة دستور مؤقت، وأنجزت المرحلة الأولية فقط للانتقال من حالة "السلطة الوطنية الفلسطينية" إلى "دولة فلسطينية تحت الاحتلال".
وأوضح الشلالدة، في حديث مع "الشرق"، أن التحدي الرئيسي يكمن في وضع الفلسطينيين تحت الاحتلال وغياب السيادة، وأن الهدف من الدستور المؤقت هو "إنهاء الالتزام باتفاقية أوسلو بعد تنصل الاحتلال منها".
وذكر الشلالدة، الذي كان وزير العدل الفلسطيني حتى العام 2024، أن اللجنة الوطنية تضم قانونيين وخبراء وأكاديميين وممثلين عن المجتمع المدني، وتم تفعيل منصة إلكترونية لمناقشة الدستور في مراحله الأولية لضمان التوافق لاحقاً.
وأضاف أن المنصة ترسخ آليات التنفيذ والمراقبة، مع استفتاء شعبي ومصادقة المجلس التشريعي، والتحول من صيغة القانون الأساسي إلى دستور مؤقت، ليخدم جميع الفلسطينيين داخل وخارج الأراضي المحتلة، متوقعاً إنجاز الصياغة خلال فترة تتراوح بين 6 أشهر وأقل من عام.
وفي الحالة الفلسطينية، يُعد القانون الأساسي بمثابة "دستور وظيفي" منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، لكنه كان محدوداً؛ لأنه يطبق فقط على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، أي الأراضي التي كانت إسرائيل قد انسحبت منها آنذاك، دون أن يشمل الفلسطينيين في الشتات أو في الأراضي المحتلة عام 1967 ولم تنسحب إسرائيل منها.
وقال وزير العدل الفلسطيني السابق إن "الدستور المؤقت" سيطبق على الفلسطينيين في الداخل والخارج من خلال تطبيق قرارات الشرعية الدولية رقم 194، دون الانتقال إلى "دستور دائم" إذ لا يمكن ذلك إلا بعد زوال الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية.
ولا يمنع القانون الأساسي الفلسطيني الاستعانة بخبراء دوليين لتقديم استشارات في صياغة أي قوانين، لكن هذه المشاركة لا تمنح أي دولة أجنبية سلطة تشريعية أو تنفيذية، إذ أن دورهم يكون قاصراً على تقديم دعم فني واستشاري.
وعن اللجنة المشتركة مع فرنسا، أوضح الشلالدة أن "التشاور مع اللجان الدولية لا ينطوي على ضرر قانوني، إذ يمكن الاستفادة من خبرتها في صياغة دساتير عصرية تدعم التداول السلمي للسلطة والنظام البرلماني الرئاسي الديمقراطي".
مجدلاني: لجنة ماكرون ليست مفاجئة
وأكد عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أحمد مجدلاني، لـ"الشرق"، أن هناك عملية للإصلاح السياسي لوضع أسس الدستور المؤقت الذي ينتقل من حالة "السلطة" إلى حالة "الدولة الفلسطينية".
وقال مجدلاني، المقرب من الرئيس محمود عباس، إن باريس ستقدّم دعماً تقنياً وسياسياً، لا أكثر ولا أقل، وليس فرضاً للقوانين، مشيراً إلى أن مشاركة فرنسا تأتي في سياق إشراك المجتمع الدولي في تدبير الدستور المؤقت للدولة الفلسطينية.
وأضاف أن اللجنة، التي أعلن عنها ماكرون، "ليست مبادرة مفاجئة، بل حصيلة عمل مشترك منذ فترة بين الرئيس عباس والمجتمع الدولي".
ولفت إلى أن اللجنة المشتركة مع فرنسا لم تُشكّل بعد، فيما تضم اللجنة الفلسطينية لصياغة الدستور المؤقت 17 خبيراً قانونياً، مع مشاركة سياسيين بطابع مهني دون تمثيل حزبي.
ويواصل ماكرون استثمار هذا الزخم من خلال المساهمة في صياغة الدستور، الذي من شأنه أن يمثل خطوة إضافية نحو قيام دولة فلسطينية حقيقية في إطار حل الدولتين.
أحمد برّاك: نريد دستوراً دائماً
واتفق النائب العام الفلسطيني السابق أحمد برّاك، خلال حديثه مع "الشرق"، مع مجدلاني والشلالدة على أن الدعم الفرنسي يقتصر على الجانب التقني والاستشاري فقط، دون أي سلطة تشريعية أو تنفيذية، مؤكدين جميعاً أن القرار النهائي لاعتماد "الدستور المؤقت" يبقى فلسطينياً بالكامل وفق "القانون الأساسي".
وأوضح أحمد برّاك أن "الهدف من الدستور المؤقت إذا كان رمزياً فقط فهو غير كافٍ"، مؤكداً على ضرورة وجود "دستور وطني دائم" يشرّع المبادئ الوطنية، ويحدد شكل الحكم وعلاقة الدولة بالمواطن وفق المفاهيم الدستورية المعروفة.
وأضاف براك، وهو عضو سابق في اللجنة الاستشارية للمحكمتين الدوليتين العدل والجنائية، أن "القانون الأساسي" يلبي المرحلة الانتقالية حتى انتهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، موضحاً أنه إذا كان هذا هو الهدف، فلا حاجة لإلغاء القانون الأساسي واستبداله بـ"دستور مؤقت" لأنه يلبي نفس الاحتياجات في هذه المرحلة.
وأشار إلى أن مشاريع الدستور السابقة، آخرها برئاسة رئيس المجلس الوطني الفلسطيني ولجنة إعداد الدستور، سليم الزعنون، بمشاركة خبراء عرب، أكدت ضرورة أن يكون هناك "دستور دائم" يشمل جميع الفصائل، مع عرضه لاستفتاء شعبي لمنحه الشرعية.
كازانوفا: خطوة رمزية ومشروع افتراضي
في المقابل، قال جيل كازانوفا، مستشار وزارتي العدل والخارجية الفرنسية سابقاً في شؤون الاتصال والاستراتيجية، إن إعلان ماكرون عن تشكيل اللجنة المشتركة مع الفلسطينيين لصياغة دستور يهدف إلى تعزيز قيام الدولة الفلسطينية، "لكن الأمر لا يرقى إلى مستوى مبادرة سياسية حقيقية"، بحسب تعبيره.
وأشار، في حديث خاص لـ"الشرق"، إلى أن ماكرون دعا مؤخراً إلى تشكيل عدة لجان حول غزة وفلسطين عموماً، حضرها عدد محدود من الدبلوماسيين"، لافتاً إلى أن ماكرون بدأ بالفعل العمل على تشكيل لجنة خبراء فرنسيين لمساعدة الفلسطينيين في صياغة دستورهم، لكن أوضح أن بعض الدبلوماسيين الذي حضروا تلك النقاشات يرون أن "فكرة ماكرون عن صياغة دستور فلسطيني هي مشروع افتراضي في ظل الاحتلال الإسرائيلي".
وأضاف كازانوفا: "ما وراء هذه المبادرة هو رغبة ماكرون في إثبات وجوده وتأكيد أن فرنسا في عهده ما زالت فاعلة على الساحة الدولية، بينما يرى الفلسطينيون فيها فرصة للحصول على دعم سياسي من دول كبرى بعد المبادرة الفرنسية، لكنها تظل خطوة رمزية أكثر من كونها مشروعاً سياسياً حقيقياً".
بالانش: اعتراف رمزي
ويرى فابريس بالانش، مدير مجموعة الأبحاث والدراسات حول قضايا الشرق الأوسط في فرنسا، إن قيام دولة فلسطينية "فعلية" ما زال يعتمد على الموقفين الإسرائيلي والأميركي، "إذ أن الاعتراف بالدولة حتى الآن يبقى رمزياً، وكذلك ما تبعه من صياغات دستورية تشرعن الدولة الفلسطينية على أرضها".
وأكد بالانش، في حديث مع "الشرق"، أن ماكرون يرغب في مساعدة الفلسطينيين على صياغة الدستور في إطار استمرار الموقف الفرنسي الداعم للاعتراف بدولة فلسطين.
وأضاف أن "هذا التحرك القانوني سيشكل نجاحاً دبلوماسياً لفرنسا، فقط في حال اعتمدت العديد من الدول الفكرة، مثلما حدث في الاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية".
دوبوي: استحضار لمواقف شيراك
فيما أكد رئيس المعهد الأوروبي للاستشراف والأمن في باريس إيمانويل دوبوي أن هذه الخطوة تأتي امتداداً للاعتراف الفرنسي بدولة فلسطين، لكنها برأيه "تبقى ذات طابع رمزي وتقني أكثر من كونها مشروعاً سياسياً حقيقياً، إذ أن قيام الدولة ثم صياغة الدستور وتنفيذه فعلياً على الأرض ما زال مرهوناً بموقفي إسرائيل والولايات المتحدة".
وقال إيمانويل دوبوي، لـ"الشرق"، إن إعلان ماكرون عن اللجنة المشتركة حمل عدة أهداف، أبرزها، صياغة دستور جديد وإنشاء لجنة فرنسية - فلسطينية لتعزيز أسس الدولة في الضفة وغزة، بينما تركز "خطة السلام" الأميركية على حوكمة غزة أكثر من الضفة الغربية.
وأضاف: "المقترح الفرنسي يحمل بعداً رمزياً أكثر منه عملياً، إذ لا يدخل ضمن إطار خطة السلام الأميركية، لكنه ينسجم مع الموقف الذي عبّر عنه ماكرون في الأمم المتحدة في سبتمبر، الداعي إلى حلٍّ سياسي واقتصادي متكامل للقضية الفلسطينية، بالتعاون مع مصر والإمارات والأردن والسعودية".
ويرى دوبوي أن هذا التوجه يأتي في سياق استراتيجي يهدف إلى دعم مؤسسات السلطة الفلسطينية، خصوصاً حركة "فتح" والرئيس عباس، في حين تشير الخطة الأميركية إلى إدارة قطاع غزة عبر لجنة فنية فلسطينية، دون تحديد ما إذا كانت ستخضع لإشراف السلطة في رام الله أم لا.
ويقول رئيس المعهد الأوروبي للاستشراف والأمن في باريس: "لذا، تسعى المبادرة الفرنسية إلى هدفين متوازيين: إعادة إحياء الدور الفرنسي في الشرق الأوسط، والمساهمة في إنعاش مسار عملية السلام".
ويعتبر دوبوي أن "لقاء ماكرون وعباس محاولة فرنسية لإعادة إطلاق حضورها الدبلوماسي في العالمين العربي والإسلامي، مستحضرة رمزية مواقف الرئيس الراحل جاك شيراك عام 2003، عندما وقف في وجه الحرب على العراق".
واختتم حديثه قائلاً: "أما بالنسبة لماكرون، فهذه المبادرة تمثل رهاناً سياسياً مزدوجاً: دعم القضية الفلسطينية من جهة، واستعادة صورته كزعيم عالمي من جهة أخرى، في وقت يعيش فيه تراجعاً داخلياً حاداً".
رومانو: اقتراح مبادئ من القانون الأوروبي
وقال أستاذ القانون الدولي في جامعة السوربون، فرانكو رومانو: "في الواقع، هذه القضية معقدة للغاية، وتتطلب تفكيراً مدروساً قبل الوصول إلى أي استنتاجات، فهي تمس عدة أبعاد سياسية وقانونية وجيوسياسية".
وأضاف لـ"الشرق": "في حال نجحت مبادرة ماكرون، سيستفيد الفلسطينيون من الخبرة الفرنسية في مجالات القانون والدستور في بناء دولة مدنية قائمة على تداول السلطة".
وأردف: "قد يقترح المستشارون القانونيون الفرنسيون دمج مبادئ من القانون الفرنسي والأوروبي مع القوانين الفلسطينية لسد أي ثغرات قانونية".
وتابع: "يمكن تطبيق هذه المعايير كلياً أو جزئياً على الدستور الفلسطيني المؤقت، ما دامت لا تتعارض مع التقاليد القانونية الفلسطينية أو مع النظام العام الفلسطيني".
ومضى يقول: "تأتي مبادرة ماكرون في إطار خطة سلام فرنسية تهدف إلى إشراك محمود عباس والسلطة الفلسطينية فعلياً في إعداد دستور الدولة الفلسطينية المستقبلية، إذ تعتبرهم فرنسا الشريك الوحيد القادر على ضمان تنفيذ هذا الدستور، رغم ضعف السلطة الفلسطينية".












