
بدأ حلف شمال الأطلسي "الناتو" تحرّكات لسد الفراغ الناجم عن سحب الولايات المتحدة مئات الجنود من رومانيا، وأجرى مناورات عسكرية واسعة النطاق في إطار تعزيز الجناح الشرقي لأوروبا، بهدف ردع "عدوان روسي محتمل"، وفق مجلة "بوليتيكو".
وقالت المجلة في تقرير، إن 5 آلاف جندي من قوات "الناتو" احتشدوا في الجبال الوعرة المليئة بالغابات وسط رومانيا، لمحاربة "عدو خيالي".
وفي ما وصفه الحلف بأنه "استعراض للقوة"، هبطت مروحيتان فرنسيتان من طراز Puma من السحب، وحلقتا على ارتفاع منخفض فوق التلال، بينما كانت الدبابات ومدافع الهاوتزر تتحرك في مواقعها والطائرات المقاتلة والطائرات المسيرة تحلق في السماء.
ونقلت المجلة عن الجنرال الروماني دورين توما، قائد الفرقة المتعددة الجنسيات التابعة لحلف الناتو في منطقة الجنوب الشرقي، قوله: "الهدف الرئيسي للسيناريو هو الردع، والهدف من هذه الرسالة ليس سراً: روسيا (بقيادة الرئيس) فلاديمير بوتين"، على حد تعبيره.
وأشارت إلى أن التدريبات كانت جزءاً من مناورات سنوية تُعرف باسم "خريف داتشيان" (Dacian Fall)، لكن نسخة هذا العام، التي اختتمت الخميس، حملت عبئاً إضافياً، وهي جزء من سباق الناتو لتعزيز الجناح الشرقي لأوروبا.
تأتي المناورات بعد أسابيع قليلة فقط من إعلان واشنطن أنها ستخفض بشكل كبير مستويات القوات الأميركية في رومانيا، حتى في الوقت الذي يحذر فيه مسؤولو دفاع واستخبارات أوروبيون من أن موسكو ربما تختبر عزم الحلف في غضون السنوات القليلة المقبلة.
وتضم رومانيا، التي تقع على حدود أوكرانيا ومولدوفا والبحر الأسود، العديد من قواعد الناتو، ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، استضافت رومانيا مجموعة قتالية متعددة الجنسيات تابعة للناتو بقيادة فرنسا، وتضم إسبانيا وبلجيكا ولوكسمبورج.
إعادة انتشار أميركي
وفي نوفمبر الجاري أعلنت واشنطن أنها ستعيد نشر لواء مشاة يضم نحو 800 جندي يتمركز في رومانيا إلى قاعدته الرئيسية في ولاية كنتاكي، حيث تعيد وزارة الحرب "البنتاجون" توجيه جهودها من أجل التركيز على أولويات داخلية مثل حماية الحدود، ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وسيبقى نحو 1000 جندي أميركي في البلاد، في إطار اتفاقية دفاعية ثنائية بين واشنطن وبوخارست.
من جانبه، قلل الأمين العام لحلف الناتو مارك روته، وكبار المسؤولين الرومانيين وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب من تداعيات القرار، لكن وزير الدولة الروماني لشؤون الدفاع سورين مولدوفا، قال مؤخراً لـ"بوليتيكو" إنه يتعين على الولايات المتحدة "إلغاء" الانسحاب.
وقال ضابط عسكري روماني رفيع المستوى لـ"بوليتيكو"، إنه من غير المتوقع أن يكون لخفض القوات الأميركية تأثير عسكري.
وأضاف: "بالنسبة للرجال في الخنادق، ليس بالأمر المهم"، ولكن كرمز سياسي، يخشى البعض أن يشجع ذلك الرئيس بوتين على أن "يختبر حظه".
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، سقط حطام طائرة روسية مسيرة كانت تستهدف أوكرانيا على الأراضي الرومانية، وهو الأحدث في سلسلة حوادث مماثلة.
في تعليق على القرار، قالت محللة السياسات في معهد "راند" للأبحاث أنكا أجاتشي، إن الانسحاب "سيكون له آثار عملياتية محدودة".
وأضافت: "إنها الإشارات الاستراتيجية التي يحتاج التحالف إلى القلق بشأنها"، مشيرة إلى أن إجراء مناورات مثل "خريف داتشيان" تحتاج إلى "إظهار الردع".
حراك عسكري
وقالت "بولتيكيو" إن المناورات تهدف لإثبات أن حلفاء الناتو مستعدون للعمل معاً لتعزيز الجناح الشرقي، ونشر الدروس المستفادة من الحرب في أوكرانيا.
وفي واحدة من أكبر عمليات نشر الجيش الفرنسي، سارعت باريس بإرسال قوات ومعدات عسكرية إلى رومانيا في غضون المهلة التي حددها حلف الناتو وهي 10 أيام.
وبموجب متطلبات حلف الناتو، يجب أن تكون فرنسا قادرة على نشر فرقة جاهزة للحرب على الجناح الشرقي في غضون 30 يوماً بحلول عام 2027.
وقال اللواء ماكسيم دو تران، قائد فرقة المدرعات الفرنسية التي شاركت في المناورات: "للمرة الأولى، قررنا استخدام سفينة.. لقد استغرقنا يومين للوصول إلى اليونان، ثم يومين أو ثلاثة أيام أخرى لعبور بلغاريا"، بينما قامت القوات الأخرى بالرحلة على متن 5 طائرات، و11 قطاراً، ونحو 15 قافلة.
وأوضح دو تران أنه في حين أن التنقل عبر الجو، والبر، والبحر كان سلساً نسبياً، "إلا أن النقل بالقطار كان أكثر صعوبة بعض الشيء لأنه في وقت السلم، لم تكن لدينا الأولوية لعبور الحدود".
ومن المتوقع أن تكشف المفوضية الأوروبية، الأسبوع المقبل، عن مقترح لتسهيل حركة الأفراد العسكريين والأسلحة.
ونشر الجنود في الموقع معدات من جميع أنحاء التحالف، تشمل مقاتلاتEurofighter ألمانية، وطائرات رومانية من طراز F-16، وأنظمة صواريخ مدفعية عالية الحركة طراز (HIMARS)، ومدافع هاوتزر ذاتية الدفع من طراز Caesar، وأنظمة دفاع جوي من طراز Mistral، والكثير من الطائرات المسيرة.
ولأول مرة، اختبر ضباط الجيش الروماني خل المناورات طائرات مسيرة تركية الصنع من طراز Bayraktar TB2، وشملت الطائرات المسيرة الأخرى طائرات توفر معلومات الاستهداف للقوات على الأرض، بالإضافة إلى طائرات مسيرة انتحارية ونماذج مسيرات FPV المستخدمة على نطاق واسع في أوكرانيا.
سد الفجوة
وحرص مسؤولو الناتو على تأكيد أن الولايات المتحدة لم تغادر البلاد، حيث قدمت القوات الأميركية الدعم الجوي للمناورات.
وقال المقدم كريستوفر ستروب من القوات الجوية الأميركية: "نحن هنا كشريك راغب في ذلك، وسنقف إلى جانب رومانيا".
مع ذلك، فإن الانسحاب يعني أن رومانيا ستحتاج إلى حلفائها الأوروبيين لتكثيف جهودها، حسبما ذكرت أوانا لونجيسكو، المتحدثة السابقة باسم حلف الناتو، والباحثة في المعهد الملكي للخدمات المتحدة للأبحاث.
واعتبرت لونجيسكو أن قرار الولايات المتحدة يمثل "فرصة لفرنسا والدول الأوروبية الأخرى للنظر في كيفية المساهمة بمزيد من التواجد، وإظهار أنهم يكثفون جهودهم بالفعل".
وخلال السنوات الثلاث الماضية، عمّقت باريس وبوخارست العلاقات العسكرية بين البلدين، حيث ذهبت وزيرة القوات المسلحة الفرنسية المعينة حديثاً كاثرين فوترين، إلى رومانيا الشهر الماضي في واحدة من أولى رحلاتها إلى الخارج. ولكن حتى الآن، لم تعلن باريس عن خطط لتعزيز وجودها في رومانيا.
ووفقاً للمجلة، يمثل هذا التحوّل مرحلة حاسمة بالنسبة لبوخارست، التي لطالما راهنت استراتيجيتها الدفاعية على الدعم الأميركي، وقد استثمرت رومانيا بكثافة في أنظمة الدفاع الجوي الأميركية الصنع من طراز باتريوت، ومقاتلات F-35، ودبابات أبرامز، وأعطت الأولوية باستمرار لشراكتها عبر الأطلسي.
في تعليق على الأمر، قالت لونجيسكو إن "رومانيا كانت تركز منذ عقود على الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة"، لافتة إلى أن الانسحاب يمثل أيضاً "فرصة للتنويع فيما يتعلق بعمليات النشر والتدريب والقدرات".











