
أشعلت تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي، التي اعتبرت فيها أن "أي تحرك عسكري صيني في تايوان قد يشكّل تهديداً وجودياً لليابان"، أزمة دبلوماسية حادة مع بكين، التي رأت في هذه التصريحات تحدياً مباشراً لمبدأ "الصين الواحدة" وخطاً أحمر لا يمكن تجاوزه.
وكانت تاكايتشي قالت أمام البرلمان الياباني في 7 نوفمبر الجاري، إن استخدام القوة ضد تايوان التي تطالب بها الصين "قد يبرّر رداً عسكرياً من طوكيو". وأكدت اليابان منذ ذلك الحين أن موقفها من تايوان، التي تبعد 100 كيلومتر فقط عن أقرب جزيرة يابانية "لم يتغير".
وأضافت: "إذا تضمن الأمر استخدام السفن الحربية وممارسة القوة، فأعتقد أنه بلا شك سيُعدّ حالة تهدد وجود الأمة". وأكدت أن موقف اليابان الثابت هو "وجوب حلّ قضايا تايوان سلمياً".
ولتخفيف حدة التوتر الدبلوماسي بين البلدين، زار رئيس مكتب شؤون آسيا وأوقيانوسيا في وزارة الخارجية اليابانية، ماساكي كاناي، الصين، الاثنين، إذ أكد ثبات بلاده على موقفها المنصوص عليه في بيانٍ مشترك صدر في عام 1972، والذي يعترف بجمهورية الصين الشعبية بوصفها الحكومة الشرعية الوحيدة للصين، حسبما نقلت وكالة "كيودو" الرسمية عن مصادر حكومية.
في المقابل، يستمر التوتر في الصين بسبب تصريحات تاكايتشي. فقد أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، الاثنين، أن رئيس الوزراء الصيني لي تشيانج لا يخطط للقاء رئيسة الوزراء اليابانية على هامش قمة مجموعة العشرين المقررة في جنوب إفريقيا، في 22 و23 نوفمبر الجاري، مضيفاً أن "التفاصيل بشأن زيارة الدبلوماسي الياباني الرفيع إلى بكين ستُنشر قريباً".
من جانبه، اعتبر يانج بوجيانج، مدير معهد الدراسات اليابانية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، أن تصريحات تاكايتشي "تقوّض الأساس السياسي للعلاقات بين الصين واليابان.
وأضاف في تصريحات لـ"الشرق": "هناك صين واحدة فقط، واليابان اعترفت صراحة بأن منطقة تايوان جزء لا يتجزأ من أراضي الصين"، مشيراً إلى أن هذه المبادئ، التي تم تثبيتها في أربع وثائق سياسية أساسية بين البلدين، معتبراً أنت تصريحات تاكايتشي "تتحدى تلك المبادئ".
لماذا كان ردّ الصين قوياً؟
انتقدت الصين بشدة رئيسة الوزراء اليابانية، ساناي تاكايتشي، لرفضها التراجع عن تصريحاتها، محذّرةً اليابان من تجاوز "الخط الأحمر" بالنسبة للصين.
وأدانت عدة وزارات صينية، بينها الخارجية والدفاع والتعليم والثقافة والسياحة، تصريحات تاكايتشي، وأصدرت تحذيرات شديدة اللهجة، خلال الأسبوع الماضي.
وقال جيانج بين، المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية، رداً على سؤال لـ"الشرق" على هامش مؤتمر صحافي افتراضي، إن تصريحات تاكايتشي كانت "غير مسؤولة وخطيرة للغاية"، ووجّهت "رسائل خاطئة جداً" إلى قوى "انفصال تايوان".
وبعد ذلك، أعلنت شركات طيران صينية كبرى، سياسات خاصة لاسترداد التذاكر وإعادة الحجز للمسافرين المتجهين إلى اليابان، بينما نصحت وزارة الخارجية المواطنين الصينيين بتجنب السفر إلى هناك بسبب تصاعد المخاوف الأمنية والتوترات السياسية.
ويشكل الصينيون نحو ربع إجمالي الزوار الأجانب إلى اليابان، حيث بلغ عددهم نحو 7.5 مليون في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، وفق صحيفة Japan Times.
لهجة صينية "غير مسبوقة"
وفي 13 نوفمبر الجاري، استدعى نائب وزير الخارجية الصيني، سون ويدونج، السفير الياباني لدى الصين، كينجي كاناسوجي، بناء على "توجيهات من القيادات العليا"، لتقديم احتجاج رسمي وشديد بشأن تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية، وفق بيان الخارجية الصينية.
ويعدّ استخدام مصطلح "استُدعي بتوجيهات" أمراً نادراً في الدبلوماسية الصينية، ما يعكس خطورة الأزمة، إذ لم يكن مجرد اتصال روتيني، بل تحذيراً رفيع المستوى وحادّ اللهجة.
ويشير شيانج هاوي، خبير الشؤون اليابانية في المعهد الصيني للدراسات الدولية، إلى أن "هذه الصياغة (بتوجيهات) تؤكد خطورة الموقف، لأنها تعني أن الاحتجاج يمثل رسالة مباشرة من أعلى سلطات الصين"، و"ليس مجرد تبادل دبلوماسي روتيني".
وأضاف أن عبارة "توجيهات" تشير إلى أن نائب الوزير سون لم يتحدث بصفته الشخصية أو كنائب وزير، بل كان ينقل موقف القيادة العليا مباشرة.
تاكايتشي والانتقادات الداخلية
ومع تصاعد التوترات على الصعيد الخارجي، تواجه رئيسة الوزراء اليابانية تاكايتشي، انتقادات داخلية أيضاً. وعلى عكس رؤساء الوزراء السابقين الذين حافظوا على الحذر في قضايا مضيق تايوان، ألمحت تاكايتشي ضمنياً إلى احتمال تورّط عسكري ياباني في المضيق، وهو موقف مثير للجدل داخل اليابان.
ومن بين المنتقدين، رئيس الوزراء السابق شيجيرو إيشيبا، الذي اعتبر أن تصريحات تاكايتشي كانت "قريبة جداً من الادعاء بأن أي طارئ في تايوان هو طارئ لليابان"، مشيراً إلى أن الإدارات السابقة تجنّبت عن قصد الإدلاء ببيانات حاسمة بشأن مثل هذه الفرضيات.
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة "سانكي شيمبون" اليابانية، مقطع فيديو من تسعينيات القرن الماضي، يظهر تاكايتشي في شبابها، وكانت آنذاك عضواً في البرلمان، وهي تستجوب رئيس الوزراء حينها، تومييشي موراياما، بشأن سبب اعترافه بعدوان اليابان خلال الحرب.
وكان بيان موراياما الصادر في عام 1995، قد عبّر عن "ندم عميق" وقدم "اعتذاراً صادقاً" باستخدام لغة غير مسبوقة للاعتذار عن أفعال اليابان خلال الحرب العالمية الثانية.
وقال رئيس الوزراء الياباني السابق، يوشيهيكو نودا، رئيس الحزب الديمقراطي الدستوري الياباني حالياً، إن تاكايتشي "تجاوزت الحدود"، وكانت "متهوّرة إلى حد كبير"، ما وضع العلاقات الصينية اليابانية في وضع خطير.
واتهم رئيس الوزراء السابق، يوكيّو هاتوياما، تاكايتشي، في منشور على منصة "إكس"، بأنها تسعى "لتأجيج الأزمة والدعوة لتعزيز القدرات العسكرية"، مؤكداً أن اليابان "تحترم حقيقة أن تايوان جزء من الصين، وأنها مسألة سياسية داخلية تخص الصين، ولا يجوز لليابان التدخل فيها".
اتفاقيات تاريخية تزيد من حساسية المسألة التايوانية
وقال تاكاكاجي فوجيتا، الأمين العام لجمعية المدير العام لـ"جمعية توريث وتعميم بيان موراياما" في اليابان، في تصريحات لـ"الشرق"، إن "مسألة تايوان شأن داخلي صيني".
وأشار إلى بيان موراياما الصادر في 15 أغسطس 1995، الذي اعتذر فيه رسمياً عن "الحكم الاستعماري والعدوان الذي تسبّب في أضرار ومعاناة هائلة لشعوب عدة دول، ولا سيما شعوب الدول الآسيوية".
كما استشهد فوجيتا بـ"البيان المشترك لحكومة جمهورية الصين الشعبية وحكومة اليابان" الصادر عند تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في عام 1972، والذي اعترف عملياً بأن تايوان جزء من الصين.
واعتبر فوجيتا في تصريحات لـ"الشرق"، أن "تصريحات تاكايتشي الأخيرة، تتعدى على المسار التاريخي للعلاقات بين البلدين حتى الآن، ولا يمكن وصفها إلا بأنها إشكالية للغاية وحمقاء".
وكان البيان المشترك الصادر في عام 1972، قد حدد التزامات واضحة على الجانب الياباني، وأسس لإطار دبلوماسي يعترف بسيادة الصين على تايوان ويضع أسس التعاون بين البلدين.
اعتراف اليابان
وينص البيان المشترك على أن "حكومة اليابان تعترف بحكومة جمهورية الصين الشعبية بوصفها الحكومة الشرعية الوحيدة للصين، وتؤكد حكومة جمهورية الصين الشعبية مرة أخرى أن تايوان جزء لا يتجزأ من أراضيها. كما تفهم حكومة اليابان هذا الموقف تماماً وتحترمه، وتتمسك بموقف المادة الثامنة من إعلان بوتسدام".
وأوضح يانج بوجيانج، المدير العام لمعهد الدراسات اليابانية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، لـ"الشرق" أن المادة الثامنة من إعلان بوتسدام أكدت ضرورة تنفيذ إعلان القاهرة، الذي نص على أن الأراضي التي استولت عليها اليابان من الصين، بما في ذلك تايوان وجزر بيسكادور (بنجهو)، "يجب أن تُعاد إلى الصين".
ويُذكر أنه بعد الهزيمة في الحرب الصينية–اليابانية الأولى التي بدأت بمبادرة من اليابان، أُجبرت حكومة أسرة تشينج الصينية على التنازل عن تايوان وجزر بنجهو لليابان عام 1895.
ومنذ ذلك الحين، استعمرت اليابان تلك الجزر لمدة خمسين عاماً، في الفترة من 1895 إلى 1945، إلى أن هُزمت أمام قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام 1945.
وفي 25 أكتوبر 1945، أعلنت الحكومة الصينية، استئناف ممارستها للسيادة على تايوان، وأقيمت مراسم استسلام اليابان في مقاطعة تايوان ضمن مسرح العمليات الصيني التابع لقوات الحلفاء في تايبيه.
وقال تشن بينهاوا، المتحدث باسم مكتب شؤون تايوان التابع لمجلس الدولة الصيني، في مؤتمر صحافي في 12 نوفمبر الجاري، إنه خلال حكم اليابان الاستعماري لتايوان لمدة خمسين عاماً، "ارتكبت اليابان عدداً لا يحصى من الفظائع"، مضيفاً أنّ الصين قبل ثمانين عاماً هزمت المعتدين اليابانيين، واستعادت تايوان، وأنهت الاحتلال والنهب الياباني".
وأضاف بينهاوا: "بعد مرور ثمانين عاماً، سيواجه أي شخص يحاول تحدي المصالح الجوهرية للصين أو عرقلة إعادة التوحيد الوطني معارضة حازمة من الحكومة الصينية والشعب الصيني والجيش الصيني".
تاكايتشي تصر على تصريحاتها
ورغم الضعوط الصينية، دافعت تاكايتشي، عن تصريحاتها، وقالت، رداً على سؤال في البرلمان لتوضيح موقفها، الأسبوع الماضي: "على الرغم من أنني ذكرت عدداً من السيناريوهات المحتملة، فقد أشرت أيضاً إلى أن الحكومة ستقرر حكماً شاملاً بشأن ما إذا كان الوضع يشكل وضعاً مهدداً للبقاء، مع الأخذ في الاعتبار كل المعلومات المتاحة".
ويتيح قانون الأمن الذي أُقِرّ في عام 2015 لليابان، ممارسة حق "الدفاع الذاتي الجماعي" ضمن شروط معينة، بما في ذلك إذا كان هناك خطراً واضحاً يهدد بقاء البلاد.
وعلى الرغم من التوتر الدبلوماسي المتصاعد، فقد أشارت تاكايتشي لاحقاً إلى أنها لا تعتزم التراجع عن تصريحاتها، وأصرت على أنه يتماشى مع سياسة طوكيو القائمة منذ زمن طويل. لكنها قالت إنها ستمتنع عن الإشارة إلى سيناريوهات محددة في المستقبل.











