
تصر اليابان على مواصلة استيراد الغاز الروسي، رغم الضغوط الأميركية والتهديد بفرض عقوبات على الدول التي تستمر في تعاملاتها التجارية مع موسكو، في وقت لا يزال فيه ملف الجزر المتنازع عليها أحد أعقد القضايا بين البلدين.
وكان ملف استيراد الغاز الطبيعي الروسي المسال حاضراً على جدول مباحثات رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، خلال لقائهما في طوكيو في 28 أكتوبر الماضي.
ويرى خبراء يابانيون، تحدثت إليهم "الشرق"، أن هذا المسار يعكس نهجاً براجماتياً تتبناه تاكايتشي، التي أصبحت أول سيدة تتولى رئاسة الحكومة في اليابان. كما يعتبرون أن هذا النهج دفعها إلى التخلي عن الشعار الذي رُدّد كثيراً في السنوات الماضية: "أوكرانيا اليوم، شرق آسيا غداً"، في إشارة إلى المخاوف من أن يؤدي تساهل المجتمع الدولي مع غزو روسيا لأوكرانيا إلى تشجيع سيناريو مشابه في شرق آسيا، خصوصاً ما يتعلق بتايوان، والتي تسببت مؤخراً في أزمة دبلوماسية بين طوكيو وبكين.
ويضع الخبراء سياسة تاكايتشي في إطار السعي لخفض التوتر مع موسكو، بالتوازي مع حماية مصالح الاقتصاد الياباني، لا سيما مصالح الشركات اليابانية العاملة في قطاع الطاقة، وبينها شركتان تستثمران في مشروع "سخالين-2" الروسي.
وتظهر تاكايتشي مباشرة بشأن رغبتها بخلق توازن، بين حاجة طوكيو لضمان أمنها القومي، والإبقاء على قناة للحوار مع موسكو، رغم أن البلدين يتبادلان العقوبات منذ بدء الحرب في أوكرانيا عام 2022.
ما أهمية الغاز الروسي لليابان؟
يقول تايسوكي أبيرو، كبير الباحثين في الشأن الروسي بمؤسسة "ساساكاوا للسلام" في طوكيو، إن هناك "سببان رئيسيان" في تمسك اليابان بالغاز الروسي، الأول "قطع الطريق على الصين"، مضيفاً في تصريحات لـ"الشرق"، أن "شركات تدعمها الحكومة اليابانية تمتلك حقوق تنقيب في مشروع سخالين 2، وهما ميتسوي وميتسوبيشي".
واعتبر أبيرو أنه "بمجرد تخلي اليابان عن حصتها في المشروع، من المتوقع أن تحل الشركات الصينية محلها"، لافتاً إلى أنه "رغم إبلاغ بكين واشنطن بأنها ستتوقف عن شراء الغاز الروسي، إلا أن واقع الشحنات من روسيا إلى السوق الصينية، لا يظهر تراجعاً".
أما السبب الثاني، وفقاً لأبيرو، فهو أن "اليابان ترى أن الأثر الاقتصادي لوقف شراء الغاز الروسي لن يكون له تأثير يذكر على قوة اقتصاد موسكو، أو على أداء روسيا العسكري في حربها مع أوكرانيا"، مضيفاً أن "حجم ما تستورده اليابان لا يزيد عن 9% من استهلاكها السنوي، أي نحو 6 ملايين طن مكافئ للغاز، بقيمة إجمالية تقدر بنحو 4 مليارات دولار".
ومع تولي تاكايتشي رئاسة الحكومة، تغير موقف اليابان من الحرب الأوكرانية، عكس رئيس الوزراء السابق فوميو كيشيدا الذي اعتمد شعار "أوكرانيا اليوم، شرق آسيا غداً".
هذا الشعار الذي زاد من توتر العلاقات بين طوكيو وموسكو، اختفى مع وصول تاكايتشي، وهو ما يفسره الخبير أبيرو بأن "الحكومة الحالية لا تريد أن تربط بين الوضع في شرق آسيا وقضية أوكرانيا"، مشيراً إلى أن "الوسط المحيط باليابان يشهد توتراً غير مسبوق، فهناك التهديدات الصاروخية والنووية من كوريا الشمالية من جهة، والنزاع على جزر سينكاكو مع الصين التي توسع حضورها العسكري من جهة أخرى".
ويرى أبيرو أن طوكيو "لا ترغب اليوم بفتح جبهة توتر جديدة مع روسيا، ويبدو أنه كان هناك صدى إيجابياً لهذا التوجه، فعلى الرغم من أن موسكو أعلنت الأسبوع الماضي عن قائمة عقوبات إضافية تشمل 30 شخصية إعلامية وسياسية وأكاديمية يابانية، فإن وزير الخارجية الحالي توشيميتسو موتيجي لم يكن من بينهم، بينما كان وزير الخارجية السابق يوشيماسا هاياشي ضمن قائمة العقوبات".
ومن هذا المنطلق، يعتقد الخبير الياباني أن تاكايتشي "أبقت على شراء الغاز الروسي، كإشارة إيجابية لرغبتها بالاحتفاظ بقناة للحوار".
كسر الجمود
بعد الحرب العالمية الثانية شهدت العلاقة بين روسيا واليابان حالة دبلوماسية غير طبيعية، فالبلدان لم يوقعا على معاهدة سلام بينهما بعد نهاية الحرب، بسبب الخلاف على ملكية أربع جزر احتلتها موسكو.
وفي عهد رئيس الوزراء السابق شينزو آبي (2012-2020) اعتقدت اليابان أنها تستطيع كسر جمود قضية الجزر، من خلال خلق حالة تعاون اقتصادي وتجاري، يفتح الطريق أمام عودة البلدين إلى طاولة المفاوضات.
ومن جانبها، فتحت موسكو الأبواب أمام طوكيو للانخراط في مشاريع استثمارية ضخمة، من بينها مشروعي "سخالين 1" و"سخالين 2"، وهما من أهم مشاريع التنقيب عن النفط والغاز في أقصى الشرق الروسي.
وارتفع حجم التبادل التجاري البيني إلى 30 مليار دولار، وتركزت على الطاقة والموارد الطبيعية والآليات والسيارات والتقنيات اليابانية.
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، اتخذت اليابان موقفاً واضحاً بالوقوف في صف الدول الغربية، وفرضت عقوبات اقتصادية على روسيا، شملت منع تصدير التكنولوجيا المتقدمة، وإيقاف التعاون في المشاريع الاقتصادية، كما جمّدت أموال شخصيات روسية، من بينها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأفراد حكومته.
في المقابل، ردّت روسيا على إجراءات طوكيو بحزمة عقوبات مضادة شملت كبار المسؤولين اليابانيين، ومن بينهم تاكايتشي التي كانت تشغل حينها منصب وزيرة الأمن الاقتصادي.
الجزر المتنازع عليها
وقلل يو كويزومي، البروفيسور المساعد في جامعة طوكيو، وخبير السياسات الأمنية الروسية، من أهمية شراء الغاز الروسي كوسيلة لاستعادة الجزر المتنازع عليها.
وقال يو لـ"الشرق"، إنه "لفهم تغير سياسة اليابان تجاه روسيا يجب قراءة العقيدة العسكرية الجديدة" لطوكيو، والتي تم إقرارها في عام 2022، مضيفاً أنه "تمت الإشارة إلى روسيا على أنها دولة يجب الحذر من قوتها العسكرية، وخاصة ما يتعلق بتعاونها مع الصين".
وأشار إلى أنه في هذه العقيدة العسكرية السابقة لليابان، والتي اعتُمدت من عام 2012 وحتى 2022، كانت "تعتبر روسيا مورداً مهماً للطاقة إلى اليابان، ويجب مواصلة الحوار معها لحل قضية الجزر الشمالية".
ويعتقد كويزومي أن الحكومة اليابانية تدرك تماماً أن الغاز الروسي لن يوصلها إلى حل لقضية "الجزر الشمالية".
وعندما كانت العلاقات في ذروة ازدهارها بين طوكيو وموسكو، عقد رئيس الوزراء السابق آبي 27 لقاء مع بوتين، وعرض عليه إعادة جزيرتي "هابوماي" و"شيكوتان" لليابان، لكن بوتين رفض ذلك، رغم أن الجزيرتين لا تمثلان سوى 7% فقط من مساحة الجزر المتنازع عليها.
وتعتبر اليابان الجزر الأربع جزءاً لا يتجزأ من البلاد، في حين تدرك روسيا الأهمية الجيوسياسية لهذه الجزر، التي تمثل بوابة تربط المحيط الهادئ ببحر اليابان.
وإلى جانب أهميتها الجيوسياسية، فمياهها تكتنز ثروة سمكية هائلة، بالإضافة إلى توقعات بوجود مخزونات كبيرة من الغاز.
ورفض كازوشيكي هاياشي، مسؤول العلاقات العامة في جمعية "الأراضي الشمالية" اليابانية (التي تشمل الجزر المتنازع عليها)، التعليق على موقف الحكومة بالاستمرار أو وقف شراء الغاز الروسي، لكنه قال لـ"الشرق" إنه يعلم أن حالة الحوار بين البلدين في السابق مكنت جمعيتنا من مساعدة نحو 5 آلاف ياباني من السكان الأصليين لزيارة أراضيهم على متن سفينة "إيتوبيريكا"، وهو اسم طائر موطنه هذه الجزر.
وأضاف: "أما الآن وبعد الحرب الروسية على أوكرانيا وتوتر العلاقات، فقد توقفت الزيارات، وأصبحنا ننقل السكان إلى المياه القريبة من الجزر الشمالية، ليلوحوا من بعيد لموطنهم وقبور أحبائهم".









