من جرينادا إلى بنما.. محطات في سجل تدخلات واشنطن بأميركا اللاتينية

41 تدخلاً في قرن.. وجه آخر لسياسة واشنطن في الفناء اللاتيني

time reading iconدقائق القراءة - 11
جندي بنمي يقف أمام قاعدة عسكرية بعد اشتباكات مع الجيش الأميركي في بنما. 18 ديسمبر 1989 - REUTERS
جندي بنمي يقف أمام قاعدة عسكرية بعد اشتباكات مع الجيش الأميركي في بنما. 18 ديسمبر 1989 - REUTERS
دبي-محمد الدسوقي

سلط الحشد العسكري الأميركي في الكاريبي والتهديدات لنظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الذي قال الرئيس دونالد ترمب إن "أيامه باتت معدودة"، الضوء على تاريخ التدخلات العسكرية الأميركية في أميركا اللاتينية، التي تنظر إليها واشنطن على أنها "ساحتها الخلفية".

وتوثّق دراسات أكاديمية أن الولايات المتحدة تسببت في تغيير حكومات داخل أميركا اللاتينية ما لا يقلّ عن 41 مرة بين 1898 و1994، بمعدّل مرة كل 28 شهراً تقريباً، وفق موقع revista التابع لجامعة هارفارد الأميركية.

بنما.. والإطاحة بنورييجا

شهد الربع الأخير من القرن الماضي، عدة عمليات عسكرية أميركية لتغيير أنظمة الحكم في بعض دول أميركا اللاتينية، ففي عام 1983، وخلال فترة الرئيس رونالد ريجان تدخلت واشنطن في جرينادا (وهي دولة جزرية في البحر الكاريبي)، بسبب ميلها إلى المعسكر السوفيتي آنذاك، وبعد ذلك بـ7 سنوات، حلّ الدور على بنما.

وفي الثمانينات، صعد الجنرال مانويل نورييجا، الذي عمل في مجال الاستخبارات، على الساحة السياسية في بنما، ورغم أنه حافظ لسنوات على علاقة وثيقة بالأجهزة الأميركية، انقلبت هذه العلاقة إلى عداء مفتوح.

وتطور العداء إلى اتهامات أميركية لنورييجا بالضلوع في غسيل الأموال، وتهريب المخدرات، والتورط في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وقمع المعارضة، حتى وجهت له في 1988 لوائح اتهام أميركية رسمية في قضايا تتعلق بتهريب المخدرات وتبييض الأموال، حتى قررت إدارة جورج بوش الأب في عام 1990 التدخل عسكرياً لإنهاء حكم ما وصفته واشنطن بـ"الديكتاتور نورييجا".

وسبق ذلك بعام واحد تقريباً، تأزم الأوضاع داخلياً في بنما حيث ألغى نورييجا نتائج انتخابات كانت تشير إلى تقدم المعارضة بقيادة جييرمو إندارا آنذاك، ما دفع واشنطن إلى تشديد العقوبات وتعزيز الحضور العسكري الأميركي في منطقة القناة.

ومع تصاعد التصادم بين القوات الأميركية والجيش البنمي، وإعلان الجمعية الوطنية (البرلمان) في بنما حالة حرب مع الولايات المتحدة، وما تلى ذلك من قتل ضابط مشاة أميركي بزي مدني عند حاجزٍ أمني به قوات بنمية، أعطى الرئيس جورج بوش الأب الضوء الأخضر لاجتياحٍ واسع.

"القضية العادلة" - غزو بنما

وفي فجر يوم 20 ديسمبر 1989، انطلقت طائرات عسكرية أميركية من طراز C-141 تحمل آلاف الجنود نحو بنما، لتبدأ عملية "Just Cause" (القضية العادلة)، والتي كانت تعتبر آنذاك أكبر عملية عسكرية منذ حرب فيتنام.

وخرج بوش الأب في خطاب للشعب الأميركي في اليوم نفسه، قائلاً إن عملية Operation Just Cause (القضية العادلة) ضد بنما جاءت لأربع أسباب، أولها هي مكافحة تهريب المخدرات، والدفاع عن الديمقراطية في بنما، وحماية معاهدة قناة بنما (اتفاقيات توريخوس–كارتر)، وحماية أرواح الأميركيين (بعد قتل جندي مارينز في بنما).

وكان الرئيس الأميركي جيمي كارتر، وقع في عام 1977 مع رئيس بنما عمر توريخوس، معاهدتين تاريخيتين، تُعرفان باسم "معاهدات توريخوس-كارتر"، لاعتماد آلية عمل القناة والمرور الأميركي.

ووفقاً لموقع الجيش الأميركي، فإن الهدف الرسمي للاجتياح هو إسقاط الجنرال نورييجا، الذي تحول من حليف لوكالة الاستخبارات المركزية CIA إلى "عدو رقم واحد، بسبب تورطه في تهريب المخدرات وتزوير انتخابات مايو 1989".

واستهدف الجيش الأميركي الدفاعات الجوية البنمية، وصولاً إلى قصف القوات الخاصة (دلتا فورس) لمقر قيادة قوات الدفاع البنمية (PDF) في بالبوا، بينما هبطت الكتيبة 75 مظلات على مطار توكومن لمنع طائرة نورييجا من الهروب، بحسب ما ذكر فريق منظمة EAAF الأرجنتينية في بنما (وهي منظمة غير حكومية وغير ربحية تجري تحقيقات عن المختفين قسراً وانتهاكات حقوق الإنسان).

محاكمة نورييجا في ميامي

وخلال 48 ساعة فقط، انهار نظام نورييجا، ولجأ الجنرال البنمي إلى سفارة الفاتيكان في 24 ديسمبر، قبل أن يستسلم في 3 يناير 1990 بعد حصار لمدة أيام أعياد الميلاد تخللها ترهيب نفسي وذهني عبر استخدام "موسيقى الروك" بصوت عال. ثم أُلقي القبض عليه ونُقل إلى ميامي لمحاكمته بتهم تتعلق بتهريب المخدرات، وفق هيئة الإذاعة البريطانية BBC.

وحكم بالسجن على نورييجا لمدة 40 عاماً بتهم تتعلق بتهريب المخدرات، وأُطلق سراحه في 2007، ثم سُلم إلى فرنسا ثم إلى بنما، وتوفي عام 2017.

ولا تزال الخسائر البشرية مثار جدل. ولكن "البنتاجون" أعلن، حينها سقوط 23 جندياً، وتصفية 314 من قوات نورييجا. لكن منظمات حقوقية بنمية وتقرير لجنة مستقلة أميركية قدر عدد الضحايا المدنيين بنحو 500 شخص، معظمهم في حي التشوريو الذي دُمر بالكامل، وفق وكالة "أسوشيتد برس".

وانتهى الغزو رسمياً في 31 يناير 1990، وسلمت السلطة إلى زعيم المعارضة جييرمو إندارا. لكن بنما ظلت تعاني عقوداً من آثار القصف وفقدان السيادة.

التدخّلات الأميركية في الدول اللاتينية

الغزو الأميركي لبنما لم يكن حادثاً عارضاً أو منفرداً، إذ كان جزءاً من سلسلة تدخلات أميركية في منطقة الكاريبي على مدار عقود، منها نشر قوات في كوبا، مروراً بغزو هايتي في عام 1994.

وعلى مدى قرن من الزمان تقريباً، اعتبرت دول أميركا اللاتينية مسرحاً للتدخّلات الأميركية المباشرة وغير المباشرة، سواء عسكرياً أو عبر دعم الانقلابات أو الضغط الاقتصادي والسياسي.

وفي جواتيمالا، لم تلجأ الولايات المتحدة إلى الغزو المباشر، بل اعتمدت عام 1954 على عملية سرّية تحت اسم PBSUCCESS نفّذتها وكالة الاستخبارات المركزية CIA لإسقاط الرئيس جابوبو آربينث. وجاء ذلك في أعقاب إصدار قانون الإصلاح الزراعي في يونيو 1952، والذي نصّ على مصادرة الأراضي الكبيرة غير المزروعة وإعادة توزيعها على مئات آلاف الفلاحين الفقراء، وتعويض الملاك بسندات حكومية.

واستهدفت هذه السياسة عملياً مصالح نخبة صغيرة من ملاّك الأراضي، وفي مقدمتهم شركة "يونايتد فروت" الأميركية، إلى جانب تصاعد نفوذ الحزب الشيوعي داخل الائتلاف الحاكم، لذلك قررت إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور التعامل مع حكومة آربينث كـ"رأس جسر شيوعي" في أميركا الوسطى.

ومزجت الـCIA في عملية PBSUCCESS بين الحرب النفسية، وتمويل قوة مسلّحة منفيّة، والضغط الدبلوماسي والاقتصادي، وصولاً إلى إجبار آربينث على الاستقالة في يونيو 1954، وإلغاء قانون الإصلاح الزراعي وإعادة الأراضي المصادَرة إلى ملاّكها السابقين.

وبحسب وثائق أميركية رسمية صادرة عن وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية ولجنة مجلس الشيوخ، فإن التدخل الأميركي في تشيلي بين 1963 و1973 كان "واسعاً ومتواصلاً"، شمل تمويل أحزاب معارِضة لليسار، ودعم حملات إعلامية واقتصادية لإضعاف حكومة أليندي، ومحاولات مباشرة لدفع العسكريين إلى الانقلاب.

وقررت واشنطن التدخل عسكرياً في جرينادا عام 1983 تحت شعار "استعادة الديمقراطية" وحماية طلاب أميركيين على الجزيرة وسط جدل كبير حول قانونيته، لكنه أصبح لاحقاً نموذجاً لتجربة "العمليات السريعة" في الكاريبي.

وجاء سيناريو هايتي في عام 1994 تحت شعار Operation Uphold Democracy بشكل مختلف حيث تدخلت الولايات المتحدة في إطار قرار من مجلس الأمن (940) لإعادة الرئيس المنتخب جان-بيرتران أريستيد بعد انقلاب عسكري، وهو مثال على استخدام "غطاء أممي" في تدخل عسكري بأميركا اللاتينية، وفق تقارير.

أمثلة على التدخلات الأميركية غير المباشرة:

  • جواتيمالا 1954: أشرفت CIA على عملية سرّية أُطلق عليها PBSUCCESS لإطاحة الرئيس جاكوبو أربنث، الذي سعى لإصلاحات زراعية تضر بشركات أميركية مثل United Fruit، وفق revista.
  • تشيلي 1973: تعرّض الرئيس المنتخب سلفادور آلليندي لحملة أميركية من CIA، دعمت الانقلاب الذي قاده الجنرال أوجوستو بينوشيه.

عسكرة الكاريبي

وأعاد انتشار حاملة الطائرات USS Gerald R. Ford والسفن والمدمرات الحربية في الكاريبي، واستعراض القوة بالقاذفات الثقيلة في المنطقة، عبر عملية Southern Spear، مشاهد التدخل الأميركي في الفناء الخلفي، إلى الأذهان وسط سجال بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والفنزويلي نيكولاس مادورو.

وترى مراكز أبحاث أن الحشد العسكري وتصنيف مادورو على أنه رئيس منظمة إرهابية، هو خطوة نحو "تدويل" الأزمة الفنزويلية واستخدام خطاب "الحرب على المخدرات/narco-terrorism" لتبرير تغيير النظام، والتدخل عسكرياً في كاراكاس، كما استخدمته واشنطن في غزو بنما بسردية "مكافحة الكارتلات"، بحسب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية csis.

وكان الرئيس الأميركي قد صرح في وقت سابق من الشهر الجاري، بأنه اتخذ قراره بشأن كاراكاس. ورغم أنه ألمح إلى إمكانية عقد محادثات مع مادورو، إلا أن العتاد والآليات العسكرية الأميركية لا تزال تواصل الاستعدادات والتأهب في البحر الكاريبي. 

وصنفت الولايات المتحدة رسمياً، الاثنين، "كارتل دي لوس سوليس" (عصابة الشمس) في فنزويلا "تنظيماً إرهابياً أجنبياً"، وفرضت عليها عقوبات إضافية متعلقة بالإرهاب قائلة إن الجماعة تضم مادورو ومسؤولين آخرين، وهو ما يوفّر لواشنطن مبرراً قانونياً إضافياً للتحرك عسكرياً داخل فنزويلا، أو في محيطها.

تصنيفات

قصص قد تهمك