
على خلفية اتهامات بالخيانة، يتصاعد الخلاف في واشنطن، بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ومجموعة مشرّعين من الحزب الديمقراطي، شجّعوا الجنود والعاملين في الجيش على رفض تنفيذ "الأوامر غير القانونية".
النواب الستة، أطلقوا دعوتهم في 18 نوفمبر. وجاء الرد سريعاً من الرئيس الأميركي، الذي اتهمهم بـ"السلوك التحريضي"، داعياً إلى "اعتقالهم ومحاكمتهم" على فعل قال إنه قد "يعاقب عليه بالإعدام".
وفي 25 نوفمبر الماضي، طلب مكتب التحقيقات الفيدرالي إجراء مقابلات مع المشرعين الستة لتحديد "ما إذا كان هناك أي مخالفات"، ورد 4 نواب قائلين "لن يوقفنا أي قدر من الترهيب أو المضايقة عن القيام بوظائفنا واحترام دستورنا".
وقبل تحرك مكتب التحقيقات الفيدرالي بيوم، لوَّح البنتاجون بإمكانية استدعاء السيناتور مارك كيلي، وهو ضابط سابق في البحرية وأحد المشرعين الستة، للعودة إلى الخدمة العسكرية الفعلية، تمهيداً لبحث توجيه اتهامات عسكرية محتملة له، وذلك بعدما وصف وزير الدفاع بيت هيجسيث، عبر مواقع التواصل، ما قام به بأنه سلوك "تحريضي".
قانونية أم غير قانونية؟
وتأتي دعوة المشرعين الديمقراطيين في وقت تنفذ فيه إدارة ترمب ضربات عسكرية في منطقة البحر الكاريبي قبالة سواحل فنزويلا.
وكانت الولايات المتحدة، منذ بداية سبتمبر الماضي، قد شنت نحو 14 غارة جوية أميركية على قوارب في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ، قتلت فيها أكثر من 60 شخصاً. وبرر ترمب أوامره التي نفذتها القوات العسكرية بأنها ضد "عصابات المخدرات".
لكن السيناتور الديمقراطي روبن جاليجو من أريزونا انتقد الهجمات، ووصفها بأنها "جريمة قتل مُصرّح بها"، حتى السيناتور الجمهوري راند بول من كنتاكي اعتبر أن هذه العمليات ترقى إلى"إعدامات خارج نطاق القضاء"، مشيراً إلى أن الإدارة لم تقدم أي أدلة تدعم ادعاءاتها حول طبيعة الشحنات أو هوية الأشخاص على متن القوارب.
السيناتور إليسا سلوتكين، أحد المشرعين الستة، وهي محللة سابقة في وكالة المخابرات المركزية، وخدمت في العراق مرات عدة، أعلنت أنها تلقت من جنود في الخدمة الفعلية مخاوف بشأن قانونية الضربات في البحر الكاريبي.
وأضافت في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز"، أن بعضهم تساءل عما إذا كان يمكن تحميلهم المسؤولية الشخصية عن الوفيات.
وتدعم تصريحات سلوتكين تقارير صحافية رصدت قلقاً داخلياً متزايداً داخل صفوف الجيش الأميركي بشأن أن بعض الأوامر أو العمليات قد تكون غير قانونية، وقد تعرضهم للمساءلة مستقبلاً.
"مخاوف الجنود"
وانعكس هذا القلق في لجوء عدد متزايد من العسكريين الأميركيين إلى منظمات قانونية مستقلة، مثل "مشروع الأوامر"، وقد تواصل مع تلك المنظمات ضباط مشاركين في التخطيط لهجمات بحرية، وأفراد من الحرس الوطني المكلفين بمهام داخل المدن الأميركية، وحتى آخرين لديهم مخاوف من التواطؤ والإبادة الجماعية المحتملة في غزة بموجب الأسلحة الأميركية المرسلة إلى إسرائيل.
لفهم الإطار القانوني الأميركي في التعامل مع الأوامر العسكرية، تحدثت "الشرق" مع أستاذة العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس، ومدير مختبر الأمن البشري، تشارلي كاربنتر، التي أكدت أن "مخاوف الجنود من تنفيذ الأوامر غير القانونية حقيقية وحاضرة بشكل كبير".
وقالت كاربنتر، إن "القانون العسكري الأميركي UCMJ يفرض واجباً افتراضياً على العسكريين بطاعة الأوامر، لكنه في الوقت نفسه يلزمهم برفض الأوامر غير القانونية بشكل واضح".
لكن كيف يعرف الجنود ما إذا كانت هذه الأوامر غير قانونية؟ تؤكد كاربنتر أن الأمر متروك بشكل كبير للفطرة، وتوضح أن دليل المحاكمات العسكرية يصف الأمر غير القانوني بأنه الأمر الذي يمكن لأي شخص عادي أن يدرك، بحسب فطرته أو إحساسه، أنه خاطئ أو يمثل انتهاكاً للقانون الدولي أو المحلي.
وأوضحت أنه "عندما ينفّذ الجنود مثل هذه الأوامر، يمكن أن تتم محاكمتهم لاحقاً من قبل حكومة أميركية لاحقة، أو من قبل المجتمع الدولي، كما حدث في محاكمات نورمبرج وطوكيو"، واصفةً بالأمر بأنه "معيار ذاتي، وهناك العديد من العوامل النفسية التي تشجع على الطاعة".
وكان "مختبر الأمن الإنساني" في جامعة ماساتشوستس أمهرست، الذي تديره كاربنتر، قد أجرى دراسة خلال الصيف طرح فيها على عسكريين في الخدمة سؤالاً مباشراً حول اللحظة التي يعتبرون فيها الأمر "غير قانوني بوضوح" لدرجة أنهم سيكونون مجبرين على عصيانه.
قالت كاربنتر إن النتائج أظهرت أن الغالبية العظمى كانت قادرة على تقديم إجابة واضحة، ومعظمها شمل أمثلة ملموسة "مثل قتل المدنيين أو تعذيب الأسرى، أو الإشارة إلى قوانين لا يمكنهم خرقها مثل اتفاقيات جنيف، قانون حقوق الإنسان، الدستور الأميركي"، مضيفة "فقط 9% قالوا إنهم سينفذون أي أمر دون استثناء".
"مسؤولية الأفراد"
رغم قدرة الجنود على تمييز الأوامر غير القانونية، وقدرتهم القانونية على عصيانها، فإن كاربنتر تؤكد أنه نادراً ما يعصي الجنود الأوامر، إلا في الحالات الواضحة جداً بحيث يمكن لأي شخص عادي أن يعرف أنها خاطئة، "لأنهم مبرمجون بشدة على الطاعة".
وذكرت كاربنتر أن الأمر يتطلب قدراً كبيراً من الشجاعة الأخلاقية "للوقوف في وجه ضابط أعلى عندما يُطلب منك ارتكاب أفعال تنتهك الدستور أو قوانين الحرب أو المبادئ الإنسانية الأساسية".
حتى على مدار التاريخ يصعب إيجاد أمثلة تاريخية لرفض عسكريين للأوامر. أستاذ التاريخ السياسي في جامعة بينجهامتون في نيويورك والخبير في السياسة الأميركية الحديثة دونالد نيمان، أشار إلى عدم وجود أمثلة تاريخية؛ لأنها نادراً ما تصبح علنية.
وأضاف نيمان، في حديث مع "الشرق"، أن هناك أمثلة أكثر بكثير على العسكريين الذين تعرضوا للعقاب بسبب تنفيذ أوامر "غير قانونية"، منها محاكمات نورمبرج في ألمانيا، وكذلك محاكمات ماي لاي التي نشأت عن حرب فيتنام.
وكانت محاكمات نورمبرج قد جرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في مدينة نورمبرج بألمانيا، لقادة نازيين على جرائمهم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وأقرت المحاكمات مبدأ المسؤولية الفردية.
أما في قرية ماي لاي بفيتنام عام 1968، فارتكب جنود أميركيون جرائم حرب ضد المدنيين. وفي أطول محاكمة عسكرية في تاريخ الولايات المتحدة، تمت محاسبة المسؤولين العسكريين عن هذه الانتهاكات، بعد رفض هيئة المحلفين دفاع المسؤولين باتباع الأوامر العليا، موضحين أنه "لا يعفى من المسؤولية عن الجرائم المرتكبة بحق المدنيين".
وأكد على هذا المبدأ القانوني، أستاذ القانون الدستوري والسياسة في جامعة ميريلاند، مارك جريبر، إذ قال لـ"الشرق" إن القانون العسكري يُلزم الجنود بعصيان أي أمر "غير قانوني" يخالف الدستور، أو القانون الوضعي، أو المعاهدات التي وقّعتها الولايات المتحدة، أو القانون الدولي، لكن القانون الموحد للقضاء العسكري UCMJ يُعاقب الجنود على عدم اتباع الأوامر إذا ثبتت قانونيتها.
تحديد قانونية الأمر من عدمه يحتاج إلى إجراءات دقيقة تختلف حسب كل حالة على حدة، إذ ذكر أستاذ القانون بجامعة جورج ميسون، إيليا سمون، لـ"الشرق" أنه من حيث المبدأ، يمكن للحكومة أن تقاضي من يعصون الأوامر. وفي المقابل يمكن للعسكري أن يقوم دفاعه على أن الأمر غير قانوني، وعندها يكون على المحكمة أن تقرر لأنها "هي الفيصل في الأمر".
"التحريض على عصيان الأوامر"
في مقطع الفيديو الذي نشره المشرعون الستة، حذروا الجنود الأميركيين قائلين إن "التهديدات التي تُهدِّد دستورنا لا تأتي من الخارج فحسب، بل من داخلنا أيضاً. يجب عليك رفض الأوامر غير القانونية".
وانضم وزير الدفاع إلى ترمب في وصف تصرف المشرعين بالتحريض.
واتهم هيجسيث السيناتور مارك كيلي، وهو من قدامى المحاربين في البحرية وأحد المشرعين الستة، بأن سلوكه "يسيء إلى سمعة القوات المسلحة، وسيتم التعامل معه على النحو المناسب"، مهدداً بمقاضاته من خلال استدعائه للخدمة في البحرية.
لكن أستاذ القانون جريبر، أكد عدم صحة وصف دعوة المشرعين بأنها سلوك "تحريضي".
وأوضح جريبير أن الدعوة ليست تحريضاً على مخالفة القانون، بل العكس تماماً، "القانون الأميركي لا يعتبر الكلام جريمة إلا إذا كان يدفع الناس فوراً لارتكاب عمل غير قانوني يسبب ضرراً كبيراً، وكان من المرجّح أن يحدث بالفعل".
وتابع جريبر أن ما قيل لم يكن تحريضاً؛ لأن الدعوة كانت عقلانية وليست اندفاعية، ولم تطلب فعلاً فورياً، ولم تُشجّع على أي سلوك مخالف للقانون، بل إن القانون نفسه يلزم العسكريين برفض الأوامر غير القانونية "لذلك، لا يوجد شيء اسمه التحريض على طاعة القانون، ولا يمكن اعتباره جريمة".
ويتفق أستاذ القانون بجامعة جورج ميسون، إيليا سمون، مع جريبر في أن ما فعله أعضاء الكونجرس لا يعتبر في نظر القانون عملاً تحريضياً.
وقال سمون إنه لا يشترط أن يكون الشخص عضواً في الكونجرس ليشير إلى أن الجنود لهم الحق في رفض الأوامر غير القانونية، وشدد على أن الجنود عليهم رفض الأوامر غير القانونية، واعتبر أن تلك الدعوة تندرج تحت حرية التعبير، وأن "أي شخص يمكنه التعبير عن هذا الحق باعتباره جزءاً من حرية التعبير".
ورأى سمون أن تحرك "البنتاجون" ضد السناتور مارك كيلي ومحاولة استدعائه للخدمة ومحاكمته، يعدّ "إساءة استخدام للسلطة"، مرجحاً أن تراها المحاكم "ملاحقة غير مبررة".
من جانبها، قالت كاربنتر إن البنتاجون يقوده رجل دعا علناً إلى تبني نهج متساهل تجاه محاكمة جرائم الحرب، ودافع عن العفو عن مجرمي الحرب المدانين، وألغى مركز حماية المدنيين التابع لوزارة الدفاع، وأقال معظم المحامين المكلفين بضمان الالتزام بقوانين النزاع المسلح.
وأضافت كاربنتر: "يجب أن نفهم هذا كجزء من جهد أوسع لتخويف من يقفون دفاعاً عن سيادة القانون وخلق ثقافة الإفلات من العقاب على جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان. هذا على عكس ما كانت تمثله القوات المسلحة الأميركية على الأقل منذ منتصف القرن العشرين".












