
يبذل المستشار الألماني فريدريش ميرتس جهوداً "غير مسبوقة" لإبراز القيادة الألمانية في صميم الاتحاد الأوروبي، واضعاً نفسه في موقع المدافع ليس عن أوكرانيا فحسب، بل، بحسب وصفه، عن أوروبا بأكملها، وفق مجلة "بوليتيكو".
واعتبرت المجلة أن ذلك يمثل "تحولاً جذرياً" في نهج ألمانيا حيال الشؤون العالمية. فقد أحجم سلفاه، أولاف شولتس وأنجيلا ميركل، عن وضع البلاد في "دور قيادي صريح" على الساحة الدولية أو داخل الاتحاد الأوروبي. ومالت ألمانيا، بدلاً من ذلك، إلى التريث وتجنب المخاطر غير الضرورية.
وصاغ الألمان فعلاً، وهو Merkeln للدلالة على التردد، مشتقاً من اسم المستشارة السابقة ميركل، ويعني عدم القيام بأي إجراء أو تأجيل اتخاذ القرارات أو تجنب إبداء رأي، في إشارة إلى أسلوب قيادة حذر ومتجنب للمواجهة وردود الفعل.
موقف أكثر فاعلية
واتخذ ميرتس موقفاً "أكثر فاعلية" داخل الاتحاد الأوروبي، متقمصاً دوراً عادة ما لعبته فرنسا في عهد رئيسها إيمانويل ماكرون، الذي تراجع نفوذه حالياً. ووضع نفسه أبرز المدافعين الأوروبيين عن خطة محفوفة بالمخاطر لتمويل أوكرانيا بقرض قيمته 210 مليارات يورو، مدعوم بأصول روسية مجمدة.
وفي وقت سابق من ديسمبر، زار ميرتس رئيس الوزراء البلجيكي بارت دي ويفر، الذي رفض الخطة، برفقة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في محاولة لإقناعه بالتراجع عن معارضته.
وقال دبلوماسي إيطالي تعليقاً على تلك المساعي: "عندما يتعلق الأمر بإدارة القضايا الأوروبية، فإن ميرتس يمثل النقيض التام لميركل".
وخارج إطار شؤون الاتحاد الأوروبي، حالة التذبذب في موقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وتآكل التحالف عبر الأطلسي، دفعت ميرتس لتجاوز حدود ألمانيا في السياسة الخارجية.
وفي ظل هذا التحول الجذري، تعهد ميرتس مراراً بأن تضطلع ألمانيا بـ"دور قيادي" على الساحة الدولية.
وقال ميرتس، الاثنين، إلى جانب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: "مصير أوكرانيا هو مصير أوروبا كلها". وأضاف: "ومن هذا المنطلق، يعد دعم كييف بشكل وثيق في المفاوضات الجارية حالياً هنا في برلين مهمة أساسية، وقد أخذتها على عاتقي".
هل أوروبا قادرة على "الوقوف جنباً إلى جنب"؟
كانت محاولة ميرتس الوفاء بوعد القيادة واضحة تماماً هذا الأسبوع. فبينما أشاد بضغط ترمب من أجل التوصل إلى اتفاق سلام، وضع المستشار نفسه، في نواحٍ عدة، في "مواجهة مباشرة" مع الرئيس الأميركي، ساعياً إلى ضمان ألا تفرض واشنطن اتفاقاً "مجحفاً".
وعارضت إدارة ترمب أيضاً مقترح الاتحاد الأوروبي بشأن الأصول الروسية المجمدة، مفضلة السعي لتحقيق أرباح من تلك الأصول في إطار أي اتفاق سلام محتمل.
وقال نوربرت روتجن، النائب الألماني البارز المنتمي إلى المحافظين بزعامة ميرتس، لموقع "بوليتيكو": "واشنطن تمارس ضغوطاً هائلة هنا، ولذلك بات الأمر أيضاً مسألة تأكيد موقفنا في مواجهة واشنطن".
وقبيل اجتماع حاسم لقادة أوروبا، الخميس، وصف ميرتس القرار المرتقب بشأن استخدام أصول البنك المركزي الروسي المجمدة في الاتحاد الأوروبي بأنه "اختبار لقدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها".
وقال ميرتس، الاثنين: "دعونا لا نخدع أنفسنا.. إذا لم ننجح في ذلك، فإن قدرة الاتحاد الأوروبي على التحرك ستتضرر بشدة لسنوات، إن لم يكن لفترة أطول". وأضاف: "وسنُظهر للعالم أننا، في لحظة حاسمة من تاريخنا، عاجزون عن الوقوف جنباً إلى جنب والعمل على الدفاع عن نظامنا السياسي على هذه القارة الأوروبية".
وفي انعكاس للنهج الحازم الذي تتبناه حكومته مؤخراً، حول ميرتس برلين إلى محور للجهود الدبلوماسية الرامية إلى التوصل لاتفاق سلام محتمل. واستضاف، يومي الأحد والاثنين، زيلينسكي والمبعوثين الأميركيين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر.
وقال زيلينسكي في اليوم ذاته: "تقف برلين الآن في قلب محادثات وقرارات دبلوماسية بالغة الأهمية". وأضاف: "هذه المحادثات معقدة دائماً وليست سهلة أبداً، لكنها كانت مثمرة للغاية".
وبدا ميرتس، وهو يقف إلى جانب الرئيس الأوكراني، حريصاً على إبراز الدور الذي اضطلعت به ألمانيا في المفاوضات الأخيرة. وقال: "شهدنا زخماً دبلوماسياً كبيراً، ربما الأكبر منذ اندلاع الحرب". وأضاف: "لدينا فرصة لعملية سلام حقيقية لأوكرانيا. هذه النبتة لا تزال صغيرة، لكن الفرصة قائمة".
جهود محفوفة بالمخاطر
واعتبرت المجلة أن جهود ميرتس لدفع ألمانيا إلى صدارة قيادة الاتحاد الأوروبي في ملف أوكرانيا وغيرها من القضايا، من الدفاع إلى التجارة، محفوفة بالمخاطر.
ورحب القادة الأوروبيون، إلى حد كبير، باستعداد ميرتس لتحمل دور قيادي أكبر، ولا سيما قرار المستشار، حتى قبل توليه المنصب، فتح باب الاقتراض بمئات المليارات من اليوروهات لتعزيز القدرات العسكرية لألمانيا.
غير أن ممارسة ألمانيا، باعتبارها أكبر اقتصاد في أوروبا، نفوذها داخل اتحاد يضم 27 دولة تتطلب "توازناً دقيقاً"، وقد بدا ميرتس في بعض الأحيان، خلال الفترة الأخيرة، متجاوزاً لهذا التوازن، وفق "بوليتيكو".
فبعد أن أصدرت إدارة ترمب استراتيجيتها للأمن القومي، التي صورت الاتحاد الأوروبي ككيان عابر للحدود "يقوض الحرية السياسية والسيادة"، أدان ميرتس الوثيقة واصفاً إياها بأنها "غير مقبولة".
وفي الوقت نفسه، عرض على ترمب مخرجاً بدا وكأنه يقوض الاتحاد الأوروبي أكثر: "إذا لم تتمكن من التوافق مع أوروبا، فعلى الأقل اجعل ألمانيا شريكك".
وسعى ميرتس إلى تأكيد المصالح الألمانية في مفاوضات التجارة داخل الاتحاد الأوروبي، وكذلك في مسألة الحظر المقترح لمحركات الاحتراق، ونجح في تخفيف حدة ذلك المقترح.
غير أن الخطر الأكبر بالنسبة لميرتس يكمن في ما إذا كانت جهوده الأخيرة ستنجح أو ستفشل. فمن خلال تصوير قرارات القادة الأوروبيين المرتقبة هذا الأسبوع بشأن الأصول الروسية بوصفها "لحظة فاصلة" للاتحاد الأوروبي ولأوكرانيا، قد يكون ميرتس عرضة "للإحراج" في ظل معارضة بلجيكا وإيطاليا للخطة.











