
أثار إعلان كوريا الشمالية، الأربعاء، اختبار إطلاق صواريخ باليستية من قطار متنقل، تساؤلات بشأن قدرات هذه المنظومة التي يمتلكها عدد محدود من الدول النووية.
وقالت وكالة الأنباء المركزية الكورية الرسمية في بيونج يانج، إنه جرى إطلاق الصواريخ، خلال تدريبات "فوج صاروخي محمول على السكك الحديدية"، نقل نظام الأسلحة على طول خطوط السكك الحديدية في المنطقة الجبلية بوسط البلاد، وإن الصواريخ أصابت بدقة هدفاً بحرياً على بعد 800 كيلومتر.
وعرضت وسائل إعلام رسمية ما بدا أنهما صاروخان مختلفان، انطلقا من قاذفات مثبتة على عربات قطار، وتغطيهما نيران برتقالية على طول مساريهما المحاطين بغابة كثيفة.
ولا تملك هذا النظام إلى حد الساعة سوى دول محدودة، هي الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند، بحسب ورقة بحثية لمركز دراسات الأسلحة غير التقليدية، التابع لجامعة سلاح الجوي الأميركي.
كيف بدأت الفكرة؟
ظهرت المنظومة للمرة الأولى في ثمانينيات القرن الماضي خلال فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، كنتيجة لتنافس القوتين على تطوير قدراتهما النووية.
في الستينيات عندما كانت الحرب الباردة في أوجها، تزايدت مخاوف الاتحاد السوفيتي من تدمير صوامع إطلاق الصواريخ النووية الثابتة من قبل الصواريخ الأميركية العابرة للقارات. وهو ما دفع السوفيت إلى التفكير في بدائل لإطلاق ونقل الصواريخ النووية، يصعب تحديد موقعها من قبل الجيش الأميركي.
وبحسب موقع "The Drive" الأميركي المتخصص في الصناعات العسكرية، فإن الاتحاد السوفيتي بدأ في تطوير نظام إطلاق الصواريخ من القطارات المتحركة عام 1969.
وواجه الاتحاد السوفيتي تحديات تقنية هائلة في تطوير النظام، إذ كانت الصواريخ الروسية آنذاك تعتمد على الوقود السائل، ويُحدث إطلاقها اهتزازات قوية قد تتسبب في انقلاب القطار. كما أن استخدام تلك الصواريخ ينطوي على مخاطر تسرب الوقود والتسبب في كوارث نووية.
ولم ينته الاتحاد السوفيتي من تطوير النظام حتى عام 1980، بعدما استطاع مكتب "يوجنوي" الحكومي للتصميم تطوير "مولوديتس RT-23"، وهو صاروخ باليستي قادر على حمل رؤوس نووية، ويشتغل بالوقود الصلب، وهو ما مكّن من استخدامه في منصات إطلاق متنقلة على السكك الحديدية.
استثناء من معاهدة ستارت
وشكل النظام السوفيتي نقطة خلاف خلال مفاوضات معاهدة "ستارت" للحد من انتشار الأسلحة النووية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بحسب ورقة عن تاريخ المعاهدة نشرتها مكتبة الكونجرس الأميركي.
ولفتت الورقة إلى أن الاتحاد السوفيتي رفض إدخال النظام باليستي المثبت على القطارات ضمن الأسلحة التي تحظرها المعاهدة، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى التفكير في تطوير نظام مماثل.
وفي ديسمبر 1986، وافق الرئيس الأميركي آنذاك رونالد ريجان، على الشروع في تطوير نظام لإطلاق صواريخ باليستية عابرة للقارات من السكك الحديدية ، وهو برنامج عُرف باسم "Peacekeeper Rail Garrison".
وبحسب موقع "History" الأميركي، فإن خطة الرئيس ريجان كانت تعتمد على تطوير 25 قطاراً، يحمل كل واحد منها صاروخين ويتم ركنها في مختلف القواعد العسكرية في جميع أنحاء الولايات المتحدة، خلال حالات السلم.
وفي حالات الحرب، تنتقل القاطرات عبر شبكة السكك الحديدية في البلاد، حيث يمكنها إطلاق الصواريخ من القطارات، وفقاً للموقع ذاته.
بديل للغواصات
تشير جامعة سلاح الجو الأميركي إلى أن السبب المنطقي لسعي القوى النووية إلى امتلاك أنظمة إطلاق الصواريخ الباليستية من عربات القطار، يكمن في قدرة هذا النظام على التنقل المستمر، ما يجعل رصده أمراً صعباً، بالإضافة إلى القدرة على استخدامه على وجه السرعة في الهجمات الانتقامية.
وتوضح الجامعة أن الدول التي تملك ترسانة نووية صغيرة تفضل أنظمة الصواريخ الباليستية المتنقلة عبر القطارات أو عبر شاحنات على الطرق، لأنها لا تستطيع تحمل هجوم من شأنه تدمير جزء كبير من قوتها الرادعة.
ووفقاً للمصدر ذاته، فإن منصات إطلاق الصواريخ الباليستية من القطارات تشكل البديل المثالي لصوامع الإطلاق الثابتة، والغواصات النووية التي تتطلب تكاليف ضخمة وتكنولوجيا معقدة. وتقول الجامعة إن الغواصات تبقى معرضة لخطر الصواريخ المتقدمة المضادة للغواصات.
وعلى النقيض من ذلك، تضيف الجامعة، فإن أنظمة إطلاق الصواريخ المثبتة على القطارات لا تحتاج لتكنولوجيا معقدة أو مكلفة، بينما توفر مزايا إطلاق الصواريخ النووية من الصوامع الثابتة والغواصات.
كما أن استهداف هذه القطارات المتنقلة يكون صعباً، اعتماداً على طول شبكة السكك الحديدية وتعقيدها، وعدد القطارات المسلحة.
وبالنسبة للدول التي تملك عدداً كبيراً من الرؤوس النووية، فإن امتلاكها للقطارات النووية لا يشجع الدول الأخرى على شن الضربة الأولى ضدها، إذ يتطلب الهجوم عليها عدداً كبيراً الصواريخ النووية لتدمير محطات الإطلاق النووية المكشوفة.
في المقابل، تبقى القطارات النووية التي يصعب رصدها سلاحاً فتاكاً في الرد السريع بالنسبة للدولة التي تعرضت للهجوم، خصوصاً أن الضربة الأولى تكشف مواقع إطلاق الصواريخ النووية في البلاد التي انطلقت منها، وفقاً للمصدر ذاته.
سلاح الحرب العالمية الثالثة
وتخلصت روسيا من آخر قطاراتها النووية بحلول عام 2005، وذلك بموجب اتفاقية تقليص الأسلحة الهجومية الاستراتيجية الموقعة عام 1993، فيما أغلقت آخر قاعدة للقطارات النووية عام 2007، بحسب ورقة لـ مكتبة الكونجرس الأميركي.
وبحسب الورقة، فإن معاهدة ستارت الجديدة لا تتضمن منصات إطلاق الصواريخ النووية من القطارات، بالنظر إلى أن كلاً من روسيا والولايات المتحدة لا تنشر هذه الأنظمة في الوقت الراهن. وأشارت إلى أن هذا الأمر يفتح المجال أمام روسيا لتطوير أنظمة مماثلة في المستقبل.
وكانت روسيا قد بدأت في تطوير منظومة صواريخ محمولة على الخط الحديدي، في عام 2013، وأطلقت عليه اسم "قطار "بارجوزين". وفي يوليو 2017، أعلن دميتري روجوزين، نائب رئيس الحكومة الروسية آنذاك، استعداد روسيا لإنشاء قطار "بارجوزين".
وبحسب وكالة "سبوتنيك" الروسية، فإن قطار "بارجوزين" يحمل 6 صواريخ باليستية عابرة للقارات، يقدر الواحد منها على حمل من 3 إلى 6 رؤوس نووية، مشيرةً إلى أن هذا النظام هو "سلاح الحرب العالمية الثالثة"، بالنسبة لروسيا.
وتمتاز منظومة "بارجوزين" بالقدرة على ضرب أهداف بالصواريخ حتى بعد أن يبادر إلى توجيه الضربة الصاروخية على مواقع الصواريخ الاستراتيجية الروسية، وذلك لأن تحديد مكان وجود قطار الصواريخ أمر صعب أو مستحيل، فهو ينتقل من مكان إلى آخر قاطعاً مسافة 1000 كيلومتر في اليوم، ويمكنه أن يختبئ داخل أنفاق السكك الحديدية، بحسب "سبوتنيك".
وعلقت روسيا البرنامج في أواخر 2017، بسبب نقص في التمويل، حسب ما أفادت وكالة "تاس" الروسية للأنباء. غير أن تقارير روسية تفيد بأن روسيا قد تعيد إحياء المشروع في الأعوام المقبلة.
قطارات فائقة السرعة
بدورها، اختبرت الصين في ديسمبر 2015 إطلاق صاروخ باليستي من طراز "DF-41" من منصة على قطار متحرك، وفقاً لما رصدته الاستخبارات الأميركية. وبحسب موقع "the diplomat" الأميركي، فإن صاروخ "DF-41" قادر على ضرب أهداف في الولايات المتحدة.
وفي عام 2019، أكد الجيش الأميركي في تقرير قدمه إلى الكونجرس، أن الصين استمرت في تطوير صواريخ "DF-41" في عام 2018، وأن بكين "تخطط لتطوير نسخ جديدة من منصات إطلاق DF-41 على السكك الحديدية".
وأكد تقرير الجيش الأميركي ما نشرته مجلة "ناشيونال إنترنست" الأميركية عام 2018 بشأن تخطيط الصين للشروع في تطوير جيل جديد من منظومة الصواريخ الباليستية المتنقلة عبر القطارات، وذلك باعتماد قطارات فائقة السرعة.
ولفتت المجلة إلى أن القطارات الجديدة التي يطلق عليها "النهضة" ستكون قادرة على الانطلاق بسرعات تصل إلى 400 كيلومتر في الساعة، مقارنة بشبكة السكك الحديدية الحالية التي تمتد عبر الأراضي الصينية.
وتستخدم القطارات في حمل الصواريخ النووية الاستراتيجية لقدرتها على تغيير مواقعها بسرعات كبيرة تمكن الجيش الصيني من تغيير مكان إطلاق الصواريخ النووية في حالة الحرب، وتغيير مواقعها بصورة تجعل اكتشافها أو استهداف منصات الإطلاق غاية في الصعوبة.
هل يجب القلق من قطارات كوريا الشمالية؟
ويعكس النظام الباليستي المثبت على قطارات السكك الحديدية جهود كوريا الشمالية لتنويع خيارات الإطلاق، التي تشمل الآن العديد من المركبات ومنصات الإطلاق الأرضية وقد تشمل في النهاية غواصات.
لكن هل يمكن لكوريا الشمالية تطوير منصات إطلاق صواريخ من القطارات المتحركة بقدرات الأنظمة المماثلة التي تتوفر عليها الصين وروسيا؟
كيم دونج يوب، الأستاذ في جامعة الدراسات الكورية الشمالية في سيول، أوضح لشبكة "إن بي سي نيوز" الأميركية أن الصور التي نشرتها كوريا الشمالية تشير إلى أن الصواريخ التي أطلقتها من منصات السكك الحديدية تستخدم الوقود الصلب، وقصيرة المدى.
ولفت إلى أن بيونج يانج اختبرت إطلاق هذا النوع من الصواريخ لأول مرة من منصات متثبة على الشاحنات في عام 2019.
ووفقاً لـ"إن بي سي نيوز"، فإنه من المرجح أن كوريا الشمالية استلهمت تصميم هذه الصواريخ من صواريخ "إسكندر" الروسية ، التي تطلق على ارتفاعات منخفضة نسبياً، حيث يكون الهواء كثيفاً بدرجة كافية تسمح للصاروخ بمناورة أنظمة الدفاع الصاروخي الأكثر صعوبة.
وشكك يانج في قدرة نظام الصواريخ المحمولة على القطارات في تحسين القدرات النووية لكوريا الشمالية، قائلاً إن شبكات السكك الحديدية في البلاد بسيطة وتشكل أهدافاً سهلة خلال الحروب.