
أطلق عدد من النشطاء في المغرب حملة على مواقع التواصل الاجتماعي، تدعو لاعتماد اللغة الإنجليزية لغة ثانية في التدريس بدل الفرنسية، لغة المستعمر السابق، والتي يقولون إنها "أضحت متجاوزة عالمياً"، في مجالات الثقافة والعلوم والتكنولوجيا والاقتصاد.
وبعد مرور أكثر من نصف قرن على استقلال المغرب عن فرنسا، لا تزال "لغة موليير" تحتل مكانة مهمة في الحياة العامة بالمغرب، إذ تعد اللغة الأساسية في دراسات الطب والهندسة والاقتصاد، كما أنها لغة التخاطب في كثير من الإدارات الحكومية، وهي أيضاً لغة الأعمال والنخب الاقتصادية.
إلا أن خبراء تحدثت إليهم "الشرق"، أشاروا إلى "مؤشرات على تحول المغرب نحو اعتماد الإنجليزية، في ظل تحالفات سياسية جديدة في الأفق".
"هيمنة الفرنسية"
ليست هذه المرة الأولى التي ترتفع فيها مثل هذه المطالب، فقد أُطلقت حملات مشابهة في المغرب عامي 2015 و2018، لكنها "لم تلقَ صدىً لدى الحكومة السابقة"، كما يقول مدير مركز حماية الحقوق الاجتماعية والاستراتيجيات الإنمائية، نبيل بكاني، مشيراً إلى أن الحملة تتجدد اليوم في سياق تشكيل الحكومة الجديدة، وتزامناً مع بدء العام الدراسي الجديد.
وأكد بكاني في حديثه لـ"الشرق"، أن اللغة الإنجليزية اليوم هي "لغة العلوم وتكنولوجيا المعلومات، أما الفرنسية فقد أضحت متجاوزة"، لافتاً إلى أن فرنسا "نفسها أصبحت تتجه بشكل متزايد نحو اعتماد الإنجليزية في التعليم".
وكان قانون لإصلاح التعليم قد أثار جدلاً واسعاً عام 2019، عندما سمح أحد بنوده بتدريس المواد العلمية والتقنية باللغة الفرنسية، وانتقدته عدة أحزاب سياسية وهيئات مدنية.
وشدد بكاني على أن الدعوات تمتد أيضاً "للقطع مع هيمنة اللغة الفرنسية على الإدارة، بما يخالف الدستور المغربي"، مشيراً إلى "وجود لوبيات اقتصادية تستفيد من هذا الوضع"، وقال إن الانفتاح على الإنجليزية "يتيح فرصاً أوسع للشباب في الحصول على عمل، كما يسمح للبلد باندماج أكبر في السوق الدولية وجلب الاستثمارات".
بدوره، قال أستاذ علم الاجتماع في جامعة محمد الخامس بالرباط، عمر بنعياش، إن النقاش بشأن ضعف الفرنسية علمياً واقتصادياً، كان مطروحاً في المغرب منذ عقود، مشيراً إلى أن هناك وعياً متنامياً بضرورة إجراء هذا التحول نحو الإنجليزية، لكن عوامل عدة أخرته "منها صعوبة إجراء هذا التحول في التعليم والإدارة والاقتصاد"، فضلاً عن أن القرار "سيغضب فرنسا ويضر بمصالحها الاقتصادية".
"غنيمة حرب"
في المقابل رفض عدد من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، دعوات إزاحة الفرنسية من المشهد العام في المغرب، وقالت صفحة على فيسبوك تسمى "المغرب بالفرنسية"، إن وجود الفرنسية في المغرب "واقع أملاه القدر، إن وجودها لا يتعلق بسيادة لغوية، بل هو قيمة مضافة وثراء ثقافي".
وقال متحدث باسم الصفحة لـ"الشرق"، رفض الكشف عن هويته خشية "الهجوم على مجموعتهم"، إنه "من غير المعقول أن ننسب المأساة التاريخية التي عاشتها البشرية لأي لغة، فاللغات سبقت الفكر الاستعماري".
واعتبر المتحدث أن الفرنسية بمثابة "غنيمة" خلفها الاستعمار، فيما أشار منشور للصفحة إلى أن اللغة الفرنسية "هي التي أخرجت العالم من العصور الوسطى إلى عصر الأنوار، ولا ينبغي الخلط بين اللغة وماضي فرنسا الاستعماري".
أبعاد سياسية
وإذا كان مطلقو حملة استبدال الفرنسية يقولون إن دعوتهم "لا تستند إلى أي خلفيات سياسية"، إلا أن خبراء يرون أن هناك مؤشرات بالفعل على تحول في سياسة المغرب الخارجية، قد يكون من صوره التوجه نحو القطع مع الفرنسية تدريجياً لمصلحة الإنجليزية.
وقال أستاذ اللسانيات فؤاد أبو علي، إن للغة "بعداً استراتيجياً، باعتبارها مثالاً طبيعياً للعلاقات بين القوى العظمى"، مشيراً إلى أن المسار الذي اتخذته السياسة الخارجية المغربية مؤخراً "يوحي بالتوجه نحو الإنجليزية لغة للتواصل العلمي والإداري مستقبلاً".
وأكد أبو علي في حديث لـ"الشرق"، أن استخدام الفرنسية في المغرب والدول الإفريقية "يرتبط بهيمنة وكلاء الفرنكوفونية على الشأن السياسي والاقتصادي والثقافي، مع ما يستتبع ذلك من ربط المغرب بالمركز الفرنكوفوني"، محذراً من أن "كل محاولة للفكاك من أسر لغة فقدت الكثير من بريقها، هي أشبه بعملية تحرر ثانٍ من استعمار لغوي وثقافي".
تحالفات المغرب الجديدة
الأمر نفسه مضى إليه أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس في الرباط عمر بنعياش، الذي قال إن إحلال الإنجليزية مكان الفرنسية "قرار سيادي مرتبط بالمصالح السياسية والاقتصادية للمغرب، وبتحالفاته الجديدة"، مؤكداً أن فرنسا "لن تقبل بسهولة أن تفقد موطئ قدم لها في مستعمراتها القديمة".
وأشار بنعياش في حديث لـ"الشرق"، إلى أن فرنسا "يمكن أن تذهب بعيداً في معاداة المصالح القومية والاستراتيجية للدول التي يمكن أن تحاول الاستقلال عن اللغة الفرنسية، والاقتصاد الفرنسي".
ويتحدث مراقبون عن تحالفات سياسية جديدة يعقدها المغرب مؤخراً، تضم محور بريطانيا والولايات المتحدة، التي اعترفت نهاية العام الماضي بسيادة المغرب على الصحراء، المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو، في اتفاق ثلاثي شمل تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
واعتبر أستاذ علم الاجتماع، أن اختفاء الفرنسية في المغرب "أمر حتمي، لكنه لن يتم بين عشية وضحاها، فهي لغة الإدارة والنخبة الاقتصادية، وبالتالي سيمر هذا التحول عبر مراحل تتطلب جهداً كبيراً، لإعداد الكوادر المتمكنة من استخدام الإنجليزية، خصوصاً في قطاع الإدارة والتعليم".
اقرأ أيضاً: