شكّلت جزر مارشال لعقود حليفاً قوياً للولايات المتحدة، إذ إن موقعها وسط المحيط الهادئ جعلها مركزاً استراتيجياً أساسياً بالنسبة إلى الجيش الأميركي، لكن ثمة خلافاً مع واشنطن بشأن شروط اتفاق "ميثاق الارتباط الحر" الذي ينتهي قريباً.
وترفض الولايات المتحدة أن تناقش مع جزر مارشال مطالبها بشأن ضرر بيئي وصحي ناجم عن عشرات التجارب النووية التي نفذتها في أربعينات وخمسينات القرن العشرين، بما في ذلك تفجير ذري حراري ضخم في منطقة بيكيني أتول.
وأفادت وكالة "أسوشيتد برس" بأن النزاع أقلق مشرّعين أميركيين أعربوا عن خشيتهم من احتمال أن تستفيد الصين من هذا الشرخ بشكل يؤجّج تنافسها مع الولايات المتحدة في الهيمنة الجيوسياسية على العالم.
منذ الحرب العالمية الثانية، تعاملت الولايات المتحدة مع جزر مارشال، إضافة إلى ميكرونيزيا وبالاو، كما لو كانت أراضي أميركية. وفي جزر مارشال، طوّرت واشنطن منشآت عسكرية واستخباراتية وجوية، في منطقة تنشط فيها الصين بشكل خاص.
في المقابل، استفاد اقتصاد جزر مارشال من الأموال والوظائف الأميركية. كما استفاد كثيرون من سكانها، من قدرتهم على الإقامة والعمل في الولايات المتحدة، وانتقلوا بالآلاف إلى أركنسو وهاواي وأوكلاهوما.
مخاوف أميركية من بكين
لكن عشرة من النواب الديمقراطيين والجمهوريين وجّهوا هذا الشهر رسالة إلى مستشار الأمن القومي للرئيس جو بايدن، جيك سوليفان، بشأن محادثات الولايات المتحدة مع جزر مارشال وميكرونيزيا وبالاو. ووَرَدَ في الرسالة: "مُحزنٌ أن هذه المفاوضات لا يبدو أنها تشكّل أولوية، إذ لم تُعقد اجتماعات رسمية منذ تنصيب هذه الإدارة، حتى مع استمرار تحوّل تركيزنا الدولي إلى المحيطين الهندي والهادئ".
ونبّه النواب إلى أن هذا التأخير يُضعف موقف واشنطن، مشيرين إلى أن "الصين مستعدة تماماً للتدخل وتأمين البنية التحتية المطلوبة بشدة، واستثمارات المرونة المناخية التي يسعى إليها هؤلاء الشركاء منذ فترة طويلة".
وزارة الخارجية الصينية اعتبرت أن على الولايات المتحدة أن تتحمّل مسؤوليتها بشأن الضرر البيئي الذي سببته، من خلال تجاربها النووية. وأعلنت أن بكين مستعدة للتعامل مع جزر مارشال ودول جزر أخرى في المحيط الهادئ، على أساس الاحترام المتبادل والتعاون بموجب "مبدأ صين واحدة"، الذي يعتبر تايوان جزءاً من الصين. وأضافت: "نرحّب بالجهود المبذولة لتعزيز العلاقات الاقتصادية وتحسين نوعية الحياة بين الجانبين".
وذكرت "أسوشيتد برس" أن الصين استمالت بشكل مطرد حلفاء تايوان في المحيط الهادئ، بما في ذلك كيريباتي وجزر سليمان، في عام 2019. وشهدت جزر سليمان احتجاجات قبل أيام، في اضطرابات ربطها بعضهم بنقل الاعتراف من تايوان إلى الصين.
"قطرة في بحر"
وقال جيمس ماتايوشي، رئيس بلدية رونجيلاب أتول في جزر مارشال، إنه ومئات آخرين لا يزالون نازحين من جزرهم المرجانية، منذ التجارب النووية الأميركية، ويريدون إحياءها. وأضاف أن مسؤولين أجروا محادثات مع مستثمرين محتملين من آسيا، بعد فشل اقتراح سابق قدّمه رجل أعمال صيني من جزر مارشال. وتابع: "ستكون صفقة تجارية. نحن لا نؤيّد الحرب أو أي تأثير لقوة عظمى، ولكننا نريد أن نكون قادرين على العيش في ديارنا والاستمتاع بالحياة هنا".
مثل كثيرين آخرين في جزر مارشال، يعتقد ماتايوشي أن تسوية مع واشنطن بقيمة 150 مليون دولار أُبرمت في ثمانينات القرن العشرين، لم ترقَ إلى معالجة إرث التجارب النووية الأميركية. وذكر أن والدته الراحلة كانت حاملاً خلال تفجير نووي هائل، وتعرّضت لإشعاع يعادل 25 ألف صورة بالأشعة السينية، قبل أن تلِد طفلاً ميتاً.
لكن موقف الولايات المتحدة لم يتبدّل منذ أكثر من عقدين، وهي المرة الأخيرة التي أُعيد فيها التفاوض بشأن اتفاق "ميثاق الارتباط الحر". وتصرّ واشنطن على التعامل مع ملف التعويضات النووية في إطار "تسوية كاملة ونهائية" لا يمكن فتحها مجدداً.
وقال السيناتور في جزر مارشال، ديفيد بول، إن استمرار ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان ونزوح سكان لا يزالان يشكّلان أزمة كبرى، علماً أنه عضو في لجنة التفاوض في بالجزر ويمثل أيضاً منطقة كواجالين أتول التي تضم قاعدة عسكرية أميركية أساسية.
وأضاف: "يدرك الجميع أن المفاوضات في ذلك الوقت لم تكن عادلة أو منصفة. عندما تنظر إلى التكلفة الإجمالية للأضرار التي لحقت بالممتلكات والمشكلات الصحية المستمرة حتى الآن، فإنها تمثل قطرة في بحر. إنها إهانة".
"قبة الصبّار"
تفيد تقديرات بأن التكلفة الحقيقية للضرر تبلغ نحو 3 مليارات دولار، بما في ذلك إصلاح منشأة ضخمة للنفايات النووية، تُعرف باسم "قبة الصبّار"، ويشير علماء بيئة إلى أنها تسرّب نفايات سامة إلى المحيط، بحسب "أسوشيتد برس".
ووَرَدَ في تقرير أعدّته وزارة الطاقة الأميركية وسلّمته إلى الكونجرس العام الماضي، أن هذه القبة تحتوي على أكثر من 76 ألف متر مكعب من التربة والحطام الملوثين إشعاعياً، مستدركاً أن هيكلها لا يواجه خطراً فورياً. وخلص التقرير إلى أن أي مياه جوفية ملوثة تتدفق تحت الهيكل، لا تؤثر بشكل ملموس في البيئة.
وكما فعلت في المفاوضات السابقة، عرقلت الولايات المتحدة النقاش بشأن إرث الاختبارات النووية، وهذا أمر يقرّ به مسؤولون أميركيون. ونقلت "أسوشيتد برس" عن مسؤول أميركي بارز قوله: "ندرك أن هذا أمر مهم، ولكن هناك تسوية كاملة ونهائية، وافق الجانبان عليها. لذلك، فإن هذا الملف لن يُعاد فتحه مجدداً. لكن ما زلنا مستعدين للعمل مع (جزر مارشال) بشأن القضايا الأوسع التي تهمّنا، وهذا ما نأمل أن نفعله".
أما وزارة الخارجية الأميركية فشددت على أن منطقة المحيطين الهندي والهادئ تشكّل محور السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وأضافت: "نعطي الأولوية لإنجاح المفاوضات المتعلقة بميثاق الارتباط الحر مع (جزر مارشال وميكرونيزيا وبالاو)، بوصفها هدفاً للسياسة الخارجية الإقليمية".
"التزام قانوني وأخلاقي"
وعكست رسالة وجهها وزير خارجية جزر مارشال، كاستن نمرا، الشهر الماضي إلى النائبة الديمقراطية كاتي بورتر التي ترأس هيئة الإشراف والتحقيق في لجنة الموارد الطبيعية بمجلس النواب، إحباط سلطات الجزر، إذ ورد فيها: "إن المسؤولين المعنيين في وزارتَي الخارجية والداخلية لم يكونوا مستعدين لمناقشة جدول أعمال للمحادثات وحاولوا حصر النقاش في مقترحاتهم المحدودة. واضحٌ أن الملف النووي كان أحد الأسباب. وقوبلت كل المسائل التي أثارتها جزر مارشال بتأكيدات على عدم تمتعها بالسلطة لمناقشة الأمور، من دون أي إشارة إلى أنها ستطلبها".
وشدد السيناتور بول على وجوب أن تبدّل واشنطن نهجها في هذا الصدد، قائلاً: "لدى الولايات المتحدة التزام قانوني وأخلاقي لتسوية الأمر. نريد التأكد من حصولنا على اتفاق أفضل هذه المرة".
اقرأ أيضاً: