موسكو وورقة الاعتراف بلوهانسك ودونيتسك.. أبعد من الأزمة الأوكرانية

time reading iconدقائق القراءة - 13
جنود أوكرانيون خلال تدريبات عسكرية في مكان غير معروف- 18 فبراير 2022 - REUTERS
جنود أوكرانيون خلال تدريبات عسكرية في مكان غير معروف- 18 فبراير 2022 - REUTERS
موسكو-الشرق

صادق مجلس النواب الروسي (الدوما)، الثلاثاء الماضي، على تقديم مذكرة للرئيس بوتين تدعو للاعتراف بجمهوريتي لوهانسك ودونيتسك اللتين أعلنتا استقلالهما عن أوكرانيا من جانب واحد عام 2014، ورغم تأكيد الكرملين أن "روسيا لم تتخذ أي قرارات رسمية تخص الاعتراف بالجمهوريتين"، تزامناً مع اتخاذ موسكو خطوات عملية، في حال اكتمالها، ستطوى صفحة احتمال قيامها بغزو عسكري للأراضي الأوكرانية، ولو إلى حين.

إلا أن وضع الاعتراف على طاولة الرئيس يؤشر إلى إمكانية إجراء تغيير في التكتيكات التي ستتبعها روسيا، من المقدر لها، إذا نجحت، أن تدخل الأزمة الأوكرانية في طور جديد ومُعقد ليس أقل خطورة على مستقبل أوكرانيا من الحرب مع روسيا، وربما يمتد ليطال دولاً أخرى كانت ضمن الاتحاد السوفيتي.

ولكن الأرجح أن تبنّي القانون غير الملزم للرئيس فلاديمير بوتين، جاء لأهداف دعائية بالدرجة الأولى، وربما لإجبار الغرب على الضغط على أوكرانيا لتنفيذ اتفاقيات مينسك الأكثر فائدة بالنسبة لاستراتيجية روسيا بشأن عدم جواز ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، من دون التعرض لعقوبات غربية باهظة الثمن.

 محافظة على الغموض

مجلس الدوما علل اقتراحه على لسان رئيس المجلس، فياتشيسلاف فولودين، بأن الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين "سيخلق أسُساً لضمان الأمن وحماية سكانهما ضد التهديدات الخارجية، وكذلك تعزيز السلام الدولي والاستقرار الإقليمي، وفق أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وسيضع بداية للاعتراف الدولي لكلا البلدين".

وعلًق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على اقتراح (الدوما) بالقول إن "نواب البرلمان في روسيا كما في أي بلد آخر، يعتمدون على الرأي العام وآراء ناخبيهم".، معتبراً خلال مؤتمر صحافي مشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتز، أن ما يجري في دونباس "إبادة جماعية".

وأضاف بوتين: "من الواضح تماماً أن الغالبية الساحقة من مواطنينا متعاطفون مع أهالي دونباس، ويؤيدونهم، ويأملون أن يتغير الوضع هناك بالنسبة إليهم إلى الأفضل بصورة جذرية".

وكان واضحاً أن بوتين تعمّد عدم الإجابة عن خطواته المستقبلية، وحافظ على الغموض الذي تبنته روسيا في الشهرين الأخيرين.

سيناريو مكرر

سبق لروسيا أن استخدمت سيناريو مشابهاً، يصل إلى حد التطابق، في التعامل مع الأزمة الجورجية عام 2008، حيث وقع الرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيدف على مرسوم، أعلن بمقتضاه اعتراف روسيا بجمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اللتين أعلنتا الانفصال عن جورجيا.

وجاء إعلان مدفيدف في 26 أغسطس 2008، بناءً على مذكرة قدمها له مجلس النواب الروسي، وتتويجاً للتدخل العسكري الروسي إثر محاولة الجيش الجورجي استعادة السيطرة على أوسيتيا الجنوبية في السابع من الشهر نفسه.

ومن اللافت أن مدفيدف برّر تدخل بلاده العسكري في جورجيا والاعتراف بجمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، بأنه كان "الخيار الوحيد للحفاظ على أرواح الناس"، لافتاً إلى أنه "لم يكن سهلاً"، وحمَّل تبليسي مسؤولية ذلك معتبراً أن محاولتها إعادة بسط سلطتها على أراضي الجمهوريتين الانفصاليتين شكلٌ من أشكال "الإبادة لبلوغ أهداف سياسية"، وأن الرئيس الجورجي (حينذاك) ميخائيل ساكاشفيلي، ألغى عبر ذلك كل آمال التعاون السلمي بين الأوسيتيين والأبخاز والجورجيين في دولة واحدة".

ويشار هنا إلى أن مجلس الدوما مهَّد لإعلان الاعتراف بجلسة استماع عقدتها لجنة شؤون رابطة الدول المستقلة التابعة للمجلس، قبل أشهر من الاجتياح الروسي في 13 مارس 2008، لبحث طلب تقدمت به أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وبريدنيستروفيا ( ترانسنيستريا) إلى روسيا للاعتراف بها كدول مستقلة عن كل من جورجيا ومولدافيا.

وتمت مناقشة صيغٍ مختلفة للعلاقة بين روسيا و(الجمهوريات الثلاث)، أولها الاعتراف باستقلال هذه الجمهوريات، والثانية عدم الاعتراف بها، والثالثة صيغة ما يُعرف في القانون الدولي بالوضع المؤجل لـ(الجمهوريات).

وخلص المشاركون في هذه المناقشات باقتراح افتتاح بعثات روسية في كل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وبريدنيستروفيا، وتحضير اقتراحات لإلغاء الرسوم الجمركية على التجارة بين روسيا وهذه (الجمهوريات). 

وفي استحضار لا يخلو من إسقاط سياسي، في خضم الأزمة الأوكرانية، شدَّد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في مؤتمر صحافي مشترك، الثلاثاء الماضي، مع نظيره البولندي زبيجنيف راو، على أن موسكو تدخلت في جورجيا عسكرياً لمنع ما وصفه بـ" ارتكاب جريمة القتل الجماعي بحق سكان أوسيتيا الجنوبية"، وأنها "اعترفت باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا، ونشرت قواعد عسكرية روسية هناك بناء على طلب من سلطات الجمهوريتين، لكي لا تخطر على بال الجورجيين حتى فكرة في إمكانية ارتكاب مثل هذه الجرائم".

أقل من اعتراف أكبر من تحالف!

منذ اندلاع الأزمة في شرق أوكرانيا دعمت روسيا الإقليمين الانفصاليين بالأسلحة إضافة إلى الدعم الاقتصادي، واستطاعت فرض اتفاقيات مينسك في فبراير 2015، والتي تصب بوضوح في مصلحة الانفصاليين.

ووقّع بوتين مرسوماً عام 2018 يقضي بأن تقبل روسيا، على أراضيها جوازات سفر ووثائق الميلاد والوفاة لسكان دونباس الصادرة عن الجمهوريتين الانفصاليتين.

وحسب إعلان صادر عن مجلس "الدوما"، منذ يومين، فقد تم منح أكثر من 820 ألف شخص من دونباس، جوازات سفر روسية. 

وفي نوفمبر 2021، وقَّع الرئيس بوتين مرسوماً آخر يقضي باتخاذ إجراءات استثنائية في غضون شهر، تشمل اعتراف روسيا بالشهادات حول منشأ البضائع الصادرة عن الأجهزة العاملة بالفعل في أراضي دونيتسك ولوهانسك (الانفصاليتين) شرقي أوكرانيا.

وبموجب المرسوم المذكور، لن تفرض روسيا قيوداً متعلقة بالاستيراد والتصدير في المنطقتين الأوكرانيتين، وستسمح لشركات المنطقتين الانفصاليتين بالمشاركة في المناقصات الحكومية الروسية. 

كما نص المرسوم على "السماح بدخول البضائع من منطقتي دونيتسك ولوهانسك إلى أسواق روسيا بشروط متساوية مع السلع الروسية".

ورحب قادة الجمهوريتين الانفصاليتين بمجموعة الخطوات الروسية السياسية والاقتصادية، والتي لولاها "ما كانت دونباس لتصمد"، باعتراف رئيس جمهورية لوهانسك المعلنة من جانب واحد، ليونيد باشنيك، الذي أضاف بأن الانفصال عن أوكرانيا "هو المسار نحو الاندماج مع روسيا".

وبمقارنة بسيطة بين ما وقع في جورجيا 2008 وما يجري في أوكرانيا منذ عام 2014، وحلقتها ما قبل الأخيرة، على ما يبدو،  من دعوة مجلس "الدوما" الرئيس بوتين للاعتراف بجمهوريتي الدونباس الانفصاليتين، من الواضح أن موسكو ستستخدم ورقة التقسيم للضغط على كييف، لفرض أمر واقع لن تستطيع فيه أوكرانيا الحفاظ على وحدتها دون تفاهمات تمليها روسيا، على أرضية "اتفاقيات مينسك"، التي تتحفظ الحكومة الأوكرانية فيها على البند المتعلق بـ"الوضع الخاص لمنطقة دونباس"، بينما تصرّ موسكو على تنفيذها دون أي تعديلات أو قيود.

بيد أن نجاح موسكو في اللعب بورقة الانفصاليين، لتفجير أوكرانيا من الداخل، لا يبدو سهل المنال، والدرس المستفاد من تجربة أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليتين يؤكد أن نجاح روسيا في تثبيتهما وحمايتهما بحكم الأمر الواقع كنتيجة للهزيمة التي ألحقها الحيش الروسي بالجيش الجورجي، قابله فشل ذريع في تسويقهما دولياً ولم يعترف بهما أحد سواها. ولا شك في أن الأمر سيكون أعقد بالنسبة لدونيتسك ولوهانسك.

دائرة المخاوف تتسع

وبصرف النظر عن واقعية تحقيق روسيا لأهدافها من وراء استخدام المواطنين الأوكرانيين من أصل روسي لإعادة رسم خريطة أوكرانيا، إذا أصرت كييف على نهج مستقل بعيداً عن موسكو، يجب أن تأخذ الأخيرة في حساباتها أن ذلك سيُثير حفيظة العديد من دول الاتحاد السوفيتي السابق، تعيش بشكل أو آخر أوضاعاً مشابهة للوضع الأوكراني، وهذا يشمل مولدافيا، التي تعيش حالة انفصالية متمثلة بـ(جمهورية بريدنيستروفيا) المدعومة من روسيا.

وكذلك دول البلطيق التي تدعي أن موسكو تحاول استخدام المواطنين الناطقين باللغة الروسية لاستعادة نفوذها الذي كانت تمتلكه خلال الحقبة السوفيتية، تحت ذريعة حمايتهم.

ومع أن خطر ذلك منخفض نظراً لاندماج المواطنين من أصول روسية في مجتمعاتهم، إلى حد بعيد، لكن هذا لا يمنع من احتمال استخدام مجموعات من بين صفوفهم في حرب هجينة تغذيها الدعاية الروسية القوية.

ويشوب العلاقات بين كازاخستان وروسيا عوامل عدم ثقة تغذيها أطماع تاريخية روسية بالأراضي الكازاخية، ومنذ إعلان كازاخستان استقلالها، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، تٌثير روسيا مسائل تتعلق بالحدود بين البلدين، طفت على السطح بتصريحات للرئيس الروسي الأسبق، بوريس يلتسين، قال فيها إن "حدود الحقبة السوفيتية قد لا تعكس بالكامل مصالح الكرملين"، مؤكداً أن له "الحق في إثارة مسألة الحدود".

وكان بوتين أوضحْ من سلفه في هذا الخصوص، حيث رد على سؤال لأحد الصحافيين  بعد مشكلات أثارتها تصريحات إعلاميين ومسوؤلين روس حول تبعية مناطق واسعة في شمال كازاخستان لروسيا، وعدم وجود كيان سياسي جامع في كازاخستان قبل حكم الامبراطورية الروسية والدولة السوفيتية، قائلاً إنه "لم يكن للكازاخيين دولة خاصة بهم".

وتنتشر في أوساط المواطنين من أصول روسية في المناطق الشمالية لكازاخستان ادعاءات قومية، ذات طابع انفصالي، تزعم أن الجزء الشمالي من كازاخستان أراض روسية.

ويُذكر أن المخاوف في كازاخستان تنامت بعد اندلاع الأزمة في أوكرانيا عام 2014. علماً بأن ذوي الأصول الروسية يُمثلون أغلبية في تلك المناطق، حيث يبلغ تعدادها 3.4 مليون نسمة، ويشكلون 20% من إجمالي سكان البلاد.

وفي ظل التجارب السابقة، وتصريحات المسؤولين الروس، يمكن النظر إلى إقدام روسيا على الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين على أنه بداية لمشروع جيوسياسي واسع لتحقيق أطماع موسكو من خلال تحويل العديد من دول الاتحاد السوفيتي السابق كقطع من الجبن السويسري، حيث تعمل الورقة الديموغرافية الروسية عمل البكتريا، إن صح التعبير، لإحداث فجوات في النسيج الاجتماعي لتلك الدول، والانتقاص من سيادتها والمس بوحدة ترابها.

الكرة في ملعب من؟

رداً على مذكرة مجلس "الدوما"، الداعية إلى الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين، أعلنت أوكرانيا على لسان وزير خارجيتها، دميتري كوليبا، أنها ستعتبر هذا الإجراء بمثابة انسحاب لروسيا من "اتفاقيات مينسك، وأضاف كوليبا في مؤتمر صحافي الثلاثاء الماضي: " إذا تم اتخاذ قرار بشأن الاعتراف، فسوف تنسحب روسيا بحكم الأمر الواقع وبحكم القانون من اتفاقيات مينسك، بكل ما ينطوي عليه ذلك من تبعات". 

بالمقابل، اتهم الرئيس فلاديمير بوتين السلطات الأوكرانية بالتهرب من تنفيذ اتفاقيات مينسك لعام 2015، والاتفاقات التي تم التوصل إليها لاحقاً خلال لقاءات "رباعية النورماندي"، بما في ذلك في برلين وباريس. وحملها مسؤولية ما أسماه "تجاهل إمكانية إعادة سلامة أوكرانيا الإقليمية"، لرفضها إجراء حوار مباشر مع قادة الانفصاليين في دونيتسك ولوهانتسك.

الموقف الأوروبي عبَّر عنه المستشار الألماني، أولاف شولتز، الذي وصف الاعتراف في حال حصل بأنه "كارثة سياسية، ومخالفة لاتفاقيات مينسك". 

وفي ظل المواقف المتباعدة لكل من موسكو وكييف إزاء آليات تطبيق "اتفاقيات مينسك" كأساس لتسوية الصراع في شرق أوكرانيا، وتبني رؤى وتفسيرات متناقضة حول بعض البنود الواردة فيها، تفقد تلك الاتفاقيات إمكانية تحولها إلى أرضية صالحة للتسوية المنشودة.

وفي حين من المتوقع أن تُبقي موسكو على تكتيكها الذي يمزج بين التلويح بالخيار العسكري والضغط على كييف لتنفيذ "اتفاقيات مينسك" بحذافيرها، جنباً إلى جنب مع اللعب بورقة الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك، ترى كييف أن تراجع احتمال الحرب يعد مكسباً تكتيكياً لها، يعطيها هامشاً للمناورة في سعيها لإدخال بعض التعديلات على "اتفاقيات مينسك"، وأن بإمكانها رمي الكرة في ملعب الكرملين.

لكنها لعبة محفوفة بالمخاطر، حيث أثبتت أحداث وتطورات الأسابيع الماضية أنه من الصعب التنبؤ بما قد تقدم عليه روسيا في المواجهة مع أوكرانيا، وهي مازالت قادرة على تنفيذ عمليات لخلط الأوراق تلقي بظلالها على استقرار أوكرانيا ومستقبلها ككيان مستقل وموحد، فإقدام موسكو على الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك سيؤدي في أقل تقدير إلى تجميد الصراع بين كييف والانفصاليين على وضعه الراهن، كما وقع تماماً مع إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا وإقليم بريدنيستروفيا في مولدافيا.

وفي ضوء الحسابات الدقيقة والمعقدة لأطراف الصراع، الأرجح أن يحتفظ الرئيس بوتين بورقة الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين تحت الطاولة، ولن يشهرها إلا في حال فقدان الأمل من تنفيذ اتفاقيات مينسك، وفشل جهوده في إقناع الغرب بإغلاق أبواب الناتو بوجه أوكرانيا بنصوص مكتوبة، على أن يتبع الخطوة بتشجيع أقاليم أخرى في أوكرانيا وغيرها من بلدان الاتحاد السوفيتي السابقة طلب حماية روسيا أو الانضمام إليها.

وفي المقابل يبدو أن إطالة حالة الغموض تخدم روسيا عبر زيادة الانقسامات في المعسكر الغربي، ما يسمح لسيد الكرملين بتنفيذ مخططاته الجيواستراتيجية، وإعادة بناء الاتحاد السوفيتي من جديد بعدما وصف الانهيار بأنه أكبر كارثة تعرض لها في حياته. وهنا فإن الكرة في ملعب الغرب الذي بات أمام خيارات صعبة لا تقتصر على أوكرانيا.

تصنيفات