بعد اعتذار هولندا لإندونيسيا.. إرث الاستعمار بين "الندم" والتعويضات

time reading iconدقائق القراءة - 15
جندي ألماني (يمين) وأسرى حرب من عرقية هيريرو وناما خلال تمرد على الاستعمار في ناميبيا - بين عام 1904إلى 1908 - AFP
جندي ألماني (يمين) وأسرى حرب من عرقية هيريرو وناما خلال تمرد على الاستعمار في ناميبيا - بين عام 1904إلى 1908 - AFP
دبي - إيلي هيدموس

استحضر تقديم رئيس الوزراء الهولندي مارك روتي الخميس الماضي، اعتذاراً لإندونيسيا عن استخدام بلاده "عنفاً منهجياً ومفرطاً" لمنعها من نيل الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، الإرث الصعب للاستعمار في دول كثيرة بقارات عدة، واقترانه بعوامل مختلفة، إذ تعاملت دول بشكل متباين مع ماضيها الاستعماري.

إندونيسيا أعلنت استقلالها عن الحكم الاستعماري الهولندي في 17 أغسطس 1945، لكن هولندا رفضت الاعتراف بذلك وقاتلت لإبقاء سيطرتها عليها، إلى أن اعترفت بها كدولة مستقلة، في ديسمبر 1949.

لكن هذه السنوات الأربع كانت مكلفة لإندونيسيا، إذ أعلنت مصرع حوالى 40 ألف شخص خلال القتال، فيما يُقدّر معظم المؤرخين الهولنديين عدد الضحايا بنحو 1500، حسبما أفادت وكالة "أسوشيتد برس".

استعمرت هولندا إندونيسيا لنحو 350 عاماً، وأعرب السفير الهولندي في جاكرتا في عام 2013، عن ندمه على المجازر التي ارتكبها الجيش الهولندي لسحق المقاومة ضد الحكم الاستعماري، في جزيرتَي جاوة وسولاويزي، بعد إعلان إندونيسيا استقلالها في عام 1945.

جاء ذلك بعدما قاضت أرامل الضحايا الحكومة الهولندية، علماً أن تقريراً أعدّته هولندا في عام 1968، أقرّ بحصول "تجاوزات عنيفة" في إندونيسيا، مستدركاً أن القوات الهولندية كانت تنفذ "عملاً بوليسياً" يكون غالباً رداً على مواجهتها حرب عصابات وهجمات إرهابية، بحسب "أسوشيتد برس".

وأعلن روتي أن عرض بلاده لتقديم تسوية لمطالبات التعويض، لا يزال قائماً. هذا العرض قُدم في أكتوبر 2020، بعد شهور على اعتذار مفاجئ قدّمه ملك هولندا، فيليم ألكسندر، خلال زيارة لجاكرتا، عن "عنف مفرط" استُخدم خلال حرب الاستقلال.

"شرعنة مبادئ الامبراطورية"

يفيد كتاب بعنوان "إمبراطوريات الندم - السردية، ما بعد الاستعمار والاعتذار عن الفظائع الاستعمارية"، أعدّه توم بنتلي، بأن "الامبراطورية بقيت، حتى القرن العشرين، مصدر فخر لدول أوروبية وساستها"، مستدركاً أن "القرن الحادي والعشرين شهد ظهوراً غير متوقع لدول أوروبية تعتذر لمستعمراتها السابقة". ورصد الكتاب "طرقاً متغيّرة تمثل بها هذه البلدان ماضيها الاستعماري"، معتبراً أن "الاعتذارات تطفح بخطابات تذكّرنا بجوهر إضفاء الشرعية على مبادئ الامبراطورية، لا بنبذ الاستعمار برمته".

موقع "أوبن ديموكراسي" أشار إلى أن القرن العشرين شهد "اعتذارات ومطالبات بتعويضات عن فظائع ارتُكبت في سياق العلاقات بين شعوب ودول، كما يتضح من مبادرات ألمانيا في ما يتعلّق بالهولوكوست، واستجابة الولايات المتحدة في ملف الأميركيين اليابانيين الذين احتُجزوا خلال الحرب العالمية الثانية".

وأضاف أن القرن الحادي والعشرين تميّز بـ"طلب مُلحّ للاعتذار عن فظائع وعنف وجرائم ارتُكبت في ماضٍ بعيد إلى حد ما، في ظلّ الاستعمار الأوروبي"، مصحوباً أحياناً بمطالبات بتعويض الضحايا.

"اعتذار عن آثام الدولة"

في السياق ذاته، تساءل موقع "ذي كونفرسيشن" بشأن "ما إذا كان على أمّة أن تعتذر عن جرائم ماضيها؟"، لافتاً إلى أن أحد الحلول المحتملة لهذا الأمر بالنسبة إلى المدافعين عن الاعتذار، يكمن في "الاعتراف بأن الجيل الحالي لم يرتكب خطأً، لكن دولته فعلت ذلك. وبهذا المعنى، على القادة السياسيين، بوصفهم ممثلين للكيان المذنب، أن يعتذروا نيابة عن الدولة ومواطنيها عن آثام الدولة".

واستدرك أن ذلك "ينجح فقط عندما تكون الدولة هي التي ارتكبت الانتهاكات، وليس مستوطنين أو منظمات تعمل بشكل مستقل عن الدولة. كما يفترض أن الدولة التي ارتكبت الجرائم، لا تزال قائمة حتى اليوم". ولفت إلى "مثال إشكالي" في هذا الصدد، نتيجة "مطالبة تركيا بالاعتذار عن الإبادة الجماعية للأرمن، عندما وقع الحدث قبل تأسيس تركيا كجمهورية في عام 1923".

وأشار الموقع إلى أن "اعتذارات الدول ترتبط كثيراً بمطالبات بتعويضات"، مذكّراً بأن اعتذار الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريجان من الأميركيين من أصل ياباني، على احتجازهم خلال الحرب العالمية الثانية، اقترن بنيل كل ضحية على قيد الحياة 20 ألف دولار كتعويض. كذلك دفعت ألمانيا تعويضات لإسرائيل على الهولوكوست. ولكن "عندما يتعلّق الأمر بمسألة الاستعمار، حرص القادة على فصل ملف الندم عن التعويضات"، بحسب الموقع.

ألمانيا وناميبيا

بعد مفاوضات مع ناميبيا دامت 5 سنوات، اعترفت ألمانيا رسمياً في عام 2021، بالإبادة الجماعية لعرقية هيريرو وناما في البلد الإفريقي الذي خضع لاحتلال ألماني بين عامَي 1884 و1915.

ووصف مؤرخون الفظائع المُرتكبة بأنها "الإبادة الجماعية المنسية" في مطلع القرن العشرين، إذ قُتل عشرات الآلاف في ما كان يُعرف آنذاك بـ"جنوب غربي إفريقيا الألمانية".

وبدأت الإبادة الجماعية في عام 1904، بعد تمرد هيريرو وناما على استيلاء الألمان على أراضيهم وماشيتهم، إذ صدر أمر بإبادتهم، ثم أُرغم الناجون منهم على الذهاب إلى الصحراء قبل وضعهم في معسكرات اعتقال، حيث عملوا في السخرة.

وتحدث وزير الخارجية الألماني السابق، هايكو ماس، عن هدف "إيجاد طريق مشترك لمصالحة حقيقية في ذكرى الضحايا"، علماً أن برلين وافقت على دفع 1.1 مليار يورو لناميبيا التي اعتبرت الأمر "خطوة في الاتجاه الصحيح". لكن ممثلين عن عرقية هيريرو وناما وصفوا خطوة برلين بأنها "إهانة"، وطالبوها بدفع 480 مليار يورو.

صحيفة "فاينانشال تايمز" اعتبرت أن اتخاذ ألمانيا هذه الخطوة بعد مفاوضات دامت 5 سنوات يُظهر أن الأمر "مرتبط بشكل وثيق باعتبارات مالية وجيوسياسية"، مشيرة إلى أن "الاعتذارات التاريخية تستهدف تسوية صفقات سياسية، لا حقائق تاريخية".

فرنسا والاستعمار في إفريقيا

الصحيفة ذكّرت بأن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أقرّ رسمياً في مايو 2021، بدور بلاده في الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا في عام 1994. وطلب ماكرون الصفح، بعد جريمة أسفرت عن مصرع 800 ألف شخص من عرقيتَي التوتسي والهوتو.

وكان الرئيس الفرنسي اعتبر أن "الاستعمار كان خطأً فادحاً" ودعا إلى "طيّ صفحة الماضي"، خلال زيارة إلى ساحل العاج، وهي مستعمرة فرنسية سابقة، في عام 2019. وأضاف: "أنتمي إلى جيل لم يكن جيل الاستعمار"، داعياً الأفارقة إلى "بناء شراكة صداقة جديدة مع فرنسا".

ماكرون أثار عاصفة من الجدل في فرنسا، خلال حملته الانتخابية في عام 2017، بعدما وصف الاستعمار الفرنسي للجزائر بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، واعتبر تصرّفات مواطنيه هناك بأنها "بربرية، وتشكّل جزءاً من ماضينا علينا مواجهته من خلال تقديم اعتذار".

ولكن منذ توليه منصبه، لم يكرر ماكرون حديثه عن "جريمة ضد الإنسانية"، رغم تأكيده على تمسّكه بما قاله، علماً بأن علاقته مع الجزائر شائكة. ففي يناير 2021، رفض ماكرون إعلان "توبة ولا اعتذار" عن احتلال الجزائر، أو حرب التحرير التي استمرت 8 سنوات وأنهت الحكم الفرنسي، لافتاً إلى أنه سيشارك في "أعمال رمزية" تستهدف تعزيز المصالحة بين الجانبين.

في المقابل، طلب ماكرون "الصفح" من "الحركيين الجزائريين" الذين قاتلوا إلى جانب القوات الفرنسية في حرب الجزائر، ثم نُبذوا باعتبارهم خونة.

بلجيكا وجمهورية الكونجو الديمقراطية

أعرب ملك بلجيكا فيليب في عام 2020، عن "أسف عميق" للانتهاكات التي ارتكبتها بلاده خلال استعمارها جمهورية الكونجو الديمقراطية، لكنه لم يقدّم اعتذاراً رسمياً، ولم يُشِر إلى تعويضات. وتفيد تقديرات بمصرع 10 ملايين شخص في البلاد، كنتيجة مباشرة للحكم البلجيكي.

رسالة الملك، التي أُعدّت في الذكرى الستين لاستقلال الكونجو، سبقت إعلان رئيسة الوزراء البلجيكية السابقة، صوفي ويلميس، أن على بلادها "مواجهة ماضيها"، في إطار رغبة بلجيكا في معالجة ماضيها الاستعماري.

إيطاليا وليبيا

زار رئيس الوزراء الإيطالي السابق، سيلفيو برلوسكوني، بنغازي في عام 2008، حيث التقى العقيد الراحل معمر القذافي، واعتذر رسمياً عن "جروح عميقة" لحقت بليبيا خلال الحكم الاستعماري الإيطالي.

ووقّع برلوسكوني مع القذافي "اتفاق صداقة وتعاون" يستهدف تعويض ليبيا عن الأضرار التي لحقت بها آنذاك، لافتاً إلى أن "الاتفاق سيؤمّن 200 مليون دولار سنوياً طيلة السنوات الـ25 المقبلة، من خلال استثمارات في مشاريع البنية التحتية بليبيا".

وتحدث القذافي عن "لحظة تاريخية يعترف فيها رجلان شجاعان بهزيمة الاستعمار"، معتبراً أن "الليبيين عانوا من الظلم والاعتداء في منازلهم، ويستحقون اعتذاراً وتعويضاً".

لكن الحكومة الإيطالية جمّدت الاتفاق في عام 2011، بعد سقوط القذافي.

بريطانيا واستعمار الهند

أسِفت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، تيريزا ماي، في عام 2019، لمجزرة ارتكبتها القوات البريطانية في الهند عام 1919، لكنها لم تقدّم اعتذاراً. وقالت أمام مجلس العموم (البرلمان): "نأسف بشدة لما حدث والمعاناة التي سبّبها ذلك"، علماً أن زعيم حزب العمال المعارض آنذاك، جيريمي كوربن، دعا إلى تقديم "اعتذار كامل وواضح وقاطع".

وذكرت شبكة "فرانس 24" أن سجلات الحقبة الاستعمارية تُظهر مصرع حوالي 400 شخص، في 13 أبريل 1919، بعدما أطلقت القوات البريطانية النار على آلاف من المتظاهرين العزل، في ما عُرف بمجزرة جاليانوالا باج في مدينة أمريتسار. واستدركت الشبكة أن أرقاماً هندية قدّرت عدد القتلى بحوالى ألف.

ووصف رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون الأمر بأنه "مخجل جداً"، خلال زيارة للمنطقة في عام 2013، لكنه لم يقدّم اعتذاراً.

وكان وزير الخارجية البريطاني السابق، وليام هيج، أعرب في عام 2013 عن "أسف شديد" لتعذيب وانتهاكات ارتكبها ضباط بريطانيون خلال استعمار كينيا، في خمسينات القرن العشرين. وأعلن عن تعويضات بقيمة 19.9 مليون جنيه إسترليني (نحو 31 مليون دولار)، تُقسّم بين 5200 ضحية كينية.

نيوزيلندا وجزر ساموا

في عام 2002، اعتذرت رئيسة الوزراء السابقة في نيوزيلندا، هيلين كلارك، عن "مظالم" ارتكبتها بلادها خلال حكمها لجزر ساموا في جنوب المحيط الهادئ، الذي دام 48 عاماً.

جاء ذلك في خطاب ألقته في ساموا، في مناسبة استقلالها عن نيوزيلندا في عام 1962. وأعربت عن أملها بأن يتيح هذا الاعتذار تطوير "علاقة أقوى" بين البلدين.

اليابان وكوريا الجنوبية

قدّم رئيس الوزراء الياباني السابق، ناوتو كان، "اعتذاراً صادقاً" للكوريين الجنوبيين عن "الأضرار والمعاناة الهائلة التي سبّبها استعمار" بلاده لشبه الجزيرة الكورية، بين عامَي 1910 و1945.

لكن ثمة خلافاً بين البلدين، بشأن تعويض كوريين أُرغموا على العمل بالسخرة آنذاك، إضافة إلى ما يُعرف بـ"نساء المتعة".

المكسيك وإسبانيا

في عام 2019، وجّه الرئيس المكسيكي، أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، رسالة إلى ملك إسبانيا فيليبي الخامس، والبابا فرنسيس، طالباً اعتذاراً رسمياً عن "انتهاكات لما نسمّيه الآن حقوق الإنسان"، ارتُكبت ضد السكان الأصليين خلال "غزو" أميركا بلاده قبل 500 عام.

ورفضت مدريد هذا الأمر، داعية إلى تبنّي "منظور بنّاء" بدلاً من ذلك.

كتبت "فاينانشال تايمز" أن "الاعتذارات الرسمية باتت اللغة السائدة التي يتم من خلالها مواجهة التاريخ المثير للجدل"، مستدركة أن "الاعتذارات التاريخية تتعلّق أساساً بالحاضر، وليس الماضي".

اقرأ أيضاً:

تصنيفات