
اختلف المحللون والباحثون في واشنطن حول تداعيات زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، والتي دفعت بالصين إلى إطلاق تدريبات عسكرية ضخمة في محيط الجزيرة، وتعليق تعاونها مع واشنطن في مجالات عدة.
وهناك من يرى هذه الزيارة ضرورية وحيوية لمصالح الولايات المتحدة الأمنية والسياسية، في ظل محاولات روسيا والصين تجاوز نظام الأحادية القطبية وترسيخ نظام عالمي جديد، في حين يرى آخرون أن الزيارة لم تكن ضرورية لأنها ستزيد توتر العلاقات مع بكين، وتأتي في سياق تحدي إدارة بايدن للصين لتحقيق أهداف داخلية في الولايات المتحدة.
لحظة حاسمة
استغرقت زيارة بيلوسي إلى جزيرة تايوان بالكاد 19 ساعة، لكنها كانت لحظة حاسمة في التنافس المرير بين الصين والولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن الصورة الكاملة للرد الصيني ستظهر خلال الأسابيع وربما الأشهر المقبلة، وقد لا تقتصر على استعراض القوة العسكرية عبر مناورات بحرية، وإطلاق صواريخ عبر مضيق تايوان، فضلاً عن اتخاذ إجراءات عقابية تجارية واقتصادية ضد تايوان، إلا أنها ستشمل قدراً أكبر من الضغط الاقتصادي والعسكري.
وبغض النظر عن الشكل النهائي لرد بكين الانتقامي، تنذر زيارة بيلوسي بمرحلة جديدة في جهود الصين للسيطرة على مصير تايوان، وسط مخاوف من أن تزيد هذه الإجراءات من خطر نشوب صراع مع القوات الأميركية في غرب المحيط الهادئ، حسبما حذرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية.
وفي حين أمرت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون) مجموعة حاملة الطائرات الأميركية الأكثر تطوراً "رونالد ريجان" بالبقاء في المنطقة لمراقبة المناورات العسكرية الصينية المستمرة رداً على زيارة بيلوسي، وإعلان المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي أن "المجموعة الضاربة ستجري عبوراً جوياً وبحرياً عبر مضيق تايوان في الأسابيع القليلة المقبلة"، إلا أن الإدارة الأميركية أجلت إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات للحد من أخطار سوء التقدير من الجانب الصيني، على عكس المناورات الصينية المزعزعة للاستقرار في 6 مواقع حول تايوان والمبالغ فيها، على حد وصفه.
لكن مع سعى البيت الأبيض إلى خفض التصعيد، وتشديده على عدم وجود تغيير في السياسة الأميركية بشأن تايوان، إلا أن التساؤل الأكثر بروزاً في واشنطن، يتعلق بما إذا كانت زيارة بيلوسي ستجلب لإدارة بايدن مكاسب أم خسائر أكبر.
تباين في التقييم
منذ الإعلان المبدئي عن زيارة بيلوسي إلى تايوان، كشف الرئيس الأميركي جو بايدن، عن غير قصد، عن خلاف داخل الإدارة الأميركية بشأن الرحلة، حين أشار إلى أن الجيش يعتقد أنها ليست فكرة جيدة في الوقت الحالي.
وأدت تعليقات بايدن إلى مزيد من المناقشات بين كبار مسؤولي الأمن القومي ومكتب بيلوسي، ومع ذلك لم يكن بوسع البيت الأبيض أن يقول علناً إنه يريد من بيلوسي أن تؤجل الزيارة، خوفاً من تعرض بايدن للهجوم وأن يبدو ضعيفاً أمام الجمهوريين في طريقة تعامله مع الصين بشأن تايوان.
ولهذا أظهر فريق بايدن دعماً قوياً بشكل عام لتايوان، بما في ذلك مبيعات الأسلحة والتدريب العسكري والمشاركة الدبلوماسية والبعثات البحرية الأميركية، التي تقوم بدوريات في مضيق تايوان هذا الأسبوع.
كما أن تأجيل الزيارة كان سيبعث برسالة إلى بكين بأن تكتيكاتها في التهديد بالعواقب الوخيمة والتحذير من اللعب بالنار قد نجحت، ولهذا كان من المهم عدم السماح للصين بالاعتقاد أن لديها حق النقض في كل مرة يريد فيها وفد من الكونجرس زيارة تايوان.
ومع ذلك، هناك رأي آخر مفاده أن الرحلة هي أحد أعراض نهج أميركا غير المتماسك تجاه الصين، التي تعد الخصم الوحيد الأكثر أهمية للولايات المتحدة على المدى الطويل، وأن الرحلة ربما كانت أصلاً مصممة لتوضيح أخطار التهديد بالقوة، بدلاً من إظهار ارتباك إدارة بايدن وافتقارها إلى الهدف، وهذا من شأنه أن يساعد إدارة بايدن على تعزيز مكانتها الدولية بما قد يساهم في تحسين شعبية الرئيس المنهارة داخلياً بسبب ارتفاع التضخم.
بكين في مأزق
وفقاً لمجلة "فورين بوليسي"، لم تشر أي مفردات في اللغة، التي استخدمها الصينيون، إلى وجود تهديد فوري بغزو تايوان، وبدلاً من ذلك، كرروا الفكرة القائلة بأن إعادة التوحيد أمر لا مفر منه، ونشروا عبارات مألوفة مثل "أدين بشدة" و"السير في الطريق الخطأ" و"اللعب بالنار".
ويعتقد ماثيو كرونيج، القائم بأعمال مدير مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن في واشنطن والمسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية ومجتمع الاستخبارات، أن التدريبات العسكرية الصينية علامة على أن الصين فشلت في تحقيق أهدافها، وأنها في مأزق، وتحاول إيجاد طريقة ما لمتابعة تهديدها بطريقة لا تثير حرباً كبرى، لا تريدها بكين الآن.
ومن الواضح أن الصين لا تريد صراعاً مباشراً مع الولايات المتحدة، ومن المستبعد اقتصادياً أن تقطع بكين علاقاتها مع واشنطن، ولهذا لا يتوافر لديها الكثير من الأوراق، حسبما يقول تشو شولونج، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة تسينجهوا في بكين، لصحيفة "واشنطن بوست"، الأمر الذي يجعل زيارة بيلوسي تشكل مكسباً لإدارة بايدن رغم التداعيات التي يمكن أن تجلبها.
ردع حرب أخرى
وفي حين تعد زيارة بيلوسي هي الأولى لتايوان من قبل رئيس مجلس النواب الأميركي منذ الجمهوري نيوت جينجريتش عام 1997، عندما كانت الصين ذات قدرات عسكرية واقتصادية أقل، إلا أن الوضع الصيني الآن اختلف كثيراً، ولهذا يرى كرونيج، في موقع "المجلس الأطلسي"، أن مناورة بيلوسي ستساعد في ردع اندلاع حرب أخرى ضد تايوان على غرار حرب أوكرانيا، فقد يقرر الرئيس الصيني شي جينج بينج الغزو لأنه يعتقد أن الأمر سيكون سهلاً، مثلما اعتقد فلاديمير بوتين ذلك في أوكرانيا، ولذلك هناك حاجة إلى إقناعه بأن هذا سيعني الحرب مع الولايات المتحدة.
ويعتبر فان شيه بينج، الأستاذ بمعهد الدراسات العليا للعلوم السياسية في جامعة تايوان الوطنية، أنه إذا كانت الصين تخطط لاستخدام القوة ضد تايوان في المستقبل، فإن العقوبات التي ستواجهها قد تكون أكثر خطورة من تلك التي تواجهها روسيا الآن، وأن الجهد الذي بذله الرئيس شي جين بينج لوقف زيارة بيلوسي هذه المرة، يشير إلى أن قضية تايوان لم تعد مشكلة يمكن حلها فقط على نطاق ضيق بين جانبي مضيق تايوان.
ويرى يون صن، مدير برنامج الصين في مركز ستيمسون، وهو معهد للسياسة الخارجية في واشنطن، في حديث مع شبكة "إن بي آر" الأميركية، أن استجابة بكين كانت مخيبة للآمال، خاصة إذا وضعت في سياق التهديدات الصينية قبل زيارة بيلوسي إلى تايوان.
وهدد الصينيون بفرض منطقة حظر طيران وخلق أزمة في مضيق تايوان إذا زارت بيلوسي تايوان، لكن بكين لم تتخذ أياً من ردود الفعل العسكرية العدوانية قبل أن تهبط طائرة بيلوسي في تايوان، وبدلاً من ذلك، أجرى الصينيون تدريبات عسكرية بالذخيرة الحية بعد مغادرة بيلوسي، وأعلنوا عقوبات على المنتجات التايوانية وحظر تصدير الرمال الطبيعية إلى تايوان، ما يعني أن رد الفعل الصيني على زيارة بيلوسي ركز بشكل أساسي على معاقبة تايوان، بدلاً من الرد على الولايات المتحدة.
زيارة غير استراتيجية
غير أن شيرلي مارتي هاجيس، الباحثة في مركز "جلوبال تشينا"، ترى أن الرحلة لم تكن قراراً سليماً من الناحية الاستراتيجية لأنها ستؤدي إلى تدهور العلاقات الأميركية الصينية والبيئة الأمنية في شرق آسيا.
ووترى هاجيس أن الزيارة أدت أيضاً إلى تسريع التوترات مع الصين دون داعٍ، وربما وضعت أميركا في حرب على جبهتين في مجال المعلومات دعماً لكل من أوكرانيا وتايوان، حيث تتصاعد الحروب السيبرانية من روسيا والصين.
وتوافق بوني جلاسر، مديرة برنامج آسيا في صندوق مارشال الألماني، وهو مؤسسة فكرية في واشنطن، على خطأ توقيت الزيارة، وقالت في مداخلة مع مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن، إنه كان ينبغي على بيلوسي أن تذهب إلى تايوان في وقت آخر لأن توقيت الزيارة يجعلها حساسة وخطيرة بشكل خاص.
وأضافت أن الصينيين اعتبروا توقيت الزيارة عملاً استفزازياً لأنها تسبق المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني والاحتفال بالذكرى السنوية لتأسيس جيش التحرير الشعبي حيث تنعقد اجتماعات القيادة كل صيف، ولا شك أنه كانت هناك ضغوط على شي جين بينج لإظهار عزيمة وإرادة قوية للغاية، لتحذير الولايات المتحدة وتايوان من السير في طريق تهديد المصالح الصينية.
ويشير زاك كوبر، كبير الباحثين في معهد أمريكان إنتربرايز على موقع المعهد، إلى أن بكين ترى هذه الرحلة التي قامت بها بيلوسي بشكل مختلف باعتبارها أكثر خطورة مع السياسات السابقة للولايات المتحدة.
وطالما سعت الصين إلى عزل تايوان دبلوماسياً وشعرت بحساسية شديدة من تبادل الزيارات بين تايبيه والمسؤولين الأجانب، لا سيما المسؤولين البارزين مثل بيلوسي، التي تعد الشخصية الثالثة في خط الرئاسة الأميركي بعد بايدن ونائبته.
وتخشى بكين أن يؤدي وجود بيلوسي إلى تطبيع مثل هذه الزيارات ويشجع حلفاء الولايات المتحدة على توطيد علاقاتهم غير الرسمية مع تايبيه.
"فائز واحد"
لكن شيرلي مارتي، في مركز "جلوبال تشاينا"، تعتقد أن هناك فائز واحد فقط على المدى الطويل وهو نانسي بيلوسي، التي أوضحت إرثها المتمثل في الدفاع عن الطلاب المدافعين عن الديمقراطية خلال زيارتها الشهيرة لساحة تيانانمين (السلام السماوي) في بكين عام 1991، كما تساعد رحلتها الحالية على إعادة تأكيد قدرة الكونجرس على أن يلعب دوراً في السياسة الخارجية الأميركية.
وعلى مدى العديد من الإدارات الأميركية، كانت لعضوة الكونجرس بيلوسي آراء لا تحظى بشعبية بين زملائها الديمقراطيين، وكان يُنظر إلى موقفها في بعض الأحيان على أنه غير مفيد في العلاقات الأميركية الصينية، وفقاً لما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" في تقرير لها.
لكن رحلة هذا الأسبوع إلى تايوان شكلت أيضاً لحظة مفاجئة من الحزبين، حيث انضم الجمهوريون إلى الديمقراطيين في الكونجرس لدعم رحلة بيلوسي، وهو تغيير ملحوظ لحزب يصنف الديمقراطيين بقوة على أنهم ضعفاء في التعامل مع الدولة الشيوعية.
فقد أصدر زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش مكونيل و25 من أعضاء المجلس بياناً، بعد لحظات من هبوط بيلوسي في تايوان، أشادوا فيه بتحديها للصين.
غير أن العامل المساعد في تحرك بيلوسي يعود بالأساس إلى مذبحة ميدان تيانانمن، ما جذبها إلى دور النائب البرلماني، الذي يمثل المجتمع الصيني البارز في سان فرانسيسكو، التي تمثلها بيلوسي في مجلس النواب.
تداعيات ومخاوف
وحذر "يون صن" من أن الوضع المتوتر يمكن أن يخرج عن السيطرة لأن الصينيين يحاولون قياس رد فعل تايوان على تدريباتهم العسكرية، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستأتي لدعم أو إنقاذ تايوان.
الحرب القادمة إلى تايوان
وتحذر صحيفة "وول ستريت جورنال" من أنه مع تعاظم قوة الصين العالمية، وتزايد مواجهة مشاكل اقتصادية وديموغرافية واستراتيجية عميقة، سوف تميل بكين إلى استخدام قوتها العسكرية المزدهرة لتغيير النظام الحالي في تايوان، ولهذا أصبحت البلاد أكثر احتمالاً من أي وقت مضى لتنفيذ تهديداتها.
وأوضحت الصحيفة أن "متلازمة ذروة القوة"، وهي ميل الدول الصاعدة إلى أن تصبح أكثر عدوانية عندما تصبح أكثر خوفاً من الانهيار الوشيك، أثبتها التاريخ في بعض أكثر الحروب دموية، وأنه ما لم تتصرف الولايات المتحدة وحلفاؤها بسرعة، فقد يؤدي ذلك إلى نشوب صراع من شأنه أن يجعل الحرب في أوكرانيا تبدو ثانوية بالمقارنة بها.
وأشارت إلى أنه على مدار العقد الماضي، أنتجت المصانع الصينية الذخيرة وأرسلت السفن الحربية إلى البحر أسرع من أي بلد منذ الحرب العالمية الثانية، كما يمارس جيش التحرير الشعبي بانتظام ضربات صاروخية على نماذج من الموانئ التايوانية وحاملات الطائرات الأميركية، وحذر الرئيس شي نظيره جو بايدن، الأسبوع الماضي، من أن "الذين يلعبون بالنار سيهلكون بها"، فيما يحذر كبار المسؤولين الأميركيين من أن الصين قد تهاجم تايوان في منتصف العقد الحالي، وربما حتى في الأشهر الثمانية عشر المقبلة.
شعور بالإلحاح
غير أن التأثير طويل المدى لرحلة بيلوسي سيتبلور من خلال متابعة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، التي تنظر في قانون سياسة تايوان، والذي سيزيد بشكل كبير الدعم العسكري الأميركي لتايوان، خاصة أن هناك دعماً من الحزبين في الكونجرس لزيادة الدعم العسكري، وربما توفير التمويل العسكري الأجنبي لتايوان والموارد الفعلية وبيع المزيد من الأسلحة الهجومية في المستقبل، وربما حتى تصنيف تايوان كحليف من خارج الناتو.
كل هذه الأمور موجودة في قانون سياسة تايوان، ومن غير المعروف ما إذا كان سيتم اقراره على هذا النحو، لكنه يبقى مؤشراً على الشعور المتزايد بالإلحاح في الولايات المتحدة، في الكونجرس وإدارة بايدن، أن على الولايات المتحدة أن تفعل المزيد لمساعدة تايوان في الدفاع عن نفسها.
الغزو مستحيل
ومع ذلك، تقول "فورين بوليسي" إن الغزو الفعلي لتايوان يبدو مستحيلاً في المستقبل القريب وغير مرجح للغاية على المدى القصير، لأنه سيتطلب مساراً لوجستياً يستحيل إخفاؤه من الاستخبارات الأميركية أو التايوانية، لكن تظل المشكلة الأساسية في أن بكين مقتنعة بشكل متزايد بأن تايوان لن يتم إقناعها بالعودة إلى الوطن الأم بسلام، وأن عليها أن تفي بالوعد الضمني للصينيين بأنها تستطيع الوفاء به.
ومن المفارقات أن أحد أفضل الآمال في السلام قد يكون الاقتناع السائد منذ الأزمة الاقتصادية لعام 2008 بين العديد من القادة الصينيين، بأن قوة الولايات المتحدة ستنهار كما فعلت القوة السوفياتية، ما يحرم تايوان من راعيها الأميركي ويجعلها أكثر عرضة للإكراه، ولهذا فإن التمسك بهذه الفكرة يسمح بتأجيل الصراع إلى أجل غير مسمى لغزو مكلف ومحفوف بالمخاطر.