مستقبل الملكية في بريطانيا.. ما الذي يمكن أن يتغيّر في عهد تشارلز؟

time reading iconدقائق القراءة - 12
الملك تشارلز الثالث يتقدم الأسرة الملكية خلال حمل نعش الملكة إليزابيث الثانية إلى قاعة وستمنستر في لندن، 14 سبتمبر 2022. - REUTERS
الملك تشارلز الثالث يتقدم الأسرة الملكية خلال حمل نعش الملكة إليزابيث الثانية إلى قاعة وستمنستر في لندن، 14 سبتمبر 2022. - REUTERS
لندن - بهاء جهاد

التظاهرات التي خرجت في العاصمة البريطانية لندن الاثنين، للمطالبة بإلغاء الملكية واستبدالها بنظامٍ جمهوري، لم تجمع حشوداً كبيرة، لكنّ حناجر المشاركين بها باحت برأيٍ يتردد في المملكة المتّحدة منذ سنوات، وارتفع صوت أصحابه أكثر بعد رحيل الملكة إليزابيث الثانية في الثامن من سبتمبر الجاري.

أصوات المطالبين بالجمهورية بدلاً من الملكية البريطانية، تتردّد أصداؤها داخل شوارع السياسة وأروقتها، لدول لا تزال تتبع للتاج البريطاني ضمن منظّمة الكومنولث. ومجموعها 14 دولة موزّعة على جميع القارّات تقريباً، إذ كانت المملكة المتّحدة في يومٍ من الأيام إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وتحكم ربع العالم. 

مناعة ضدّ التغيير

ثمّة من يعتقد أن الملكية البريطانية فقدت مناعتها ضدّ التغيير بعد رحيل الملكة إليزابيث الثانية، فيما يعتقد آخرون أن مستقبل هذه الملكية لن يوضع على المحكّ بعد وصول تشارلز الثالث إلى العرش، سواء في داخل البلاد أو خارجها.

وبين المتشائمين والمتفائلين تمتدّ مجموعة من الآراء التي تتوقّع تغيرّات كانت مؤجّلة احتراماً للملكة. 

لا يتعلّق الأمر بالسلطة والنفوذ، ولكن للتغيير في بعض جوانبه أبعاد رمزية واقتصادية واجتماعية، مع مراعاة أن التحوّل إلى الجمهورية في دول لم تعرف منصب رئيس الدولة من قبل، لن يحدث بين ليلةٍ وضحاها، وقد يستدعي إجراءات من قبيل تنظيم استفتاءات شعبية في هذا الشأن.  

مَلَكية أو جمهورية؟

أدانت منظّمة "الجمهورية" في بريطانيا تعامل الشرطة "العنيف" مع التظاهرات المطالبة بإلغاء المَلَكية. وقالت إنها تقدّمت بطلبٍ إلى السلطات المختصّة لتنظيم احتجاجاتٍ مماثلة يوم جنازة الملكة الأمّ. 

وبحسب المتحدّث باسم المنظّمة جراهام سميث، فإن رحيل إليزابيث الثانية سيتبعه تراجعاً كبيراً في شعبية العائلة المَلَكية، وزيادة عدد الراغبين في التحوّل إلى النظام الجمهوري في المملكة المتّحدة والدول التابعة للتاج. 

بعد سنوات من عملها، تضمّ منظّمة "الجمهورية" اليوم نحو 80 ألف عضو. وهذا الرقم مقارنةً بالحشود التي تملأ الشوارع في عواصم المملكة المتّحدة منذ أيام لوداع الملكة، والاحتفال بالملك تشارلز الثالث، يكاد لا يذكر، ولا يثير القلق حالياً لجهة تحوّل البلاد إلى مسارٍ مختلف عن "المَلَكية الدستورية" السائدة.  

الأكاديمي المختصّ في العلاقات الدولية، أحمد عجّاج، يقول إن المَلَكية في بريطانيا لن تتأثّر بعد وفاة الملكة لأنها محكومة بمرجعياتٍ قانونية توضح العلاقة جيداً بين الملك والبرلمان والحكومة.

ويضيف عجّاج في مقابلة مع "الشرق"، أن المحدّدات الدستورية التي تحكم تلك العلاقة منذ عقود طويلة، لا يستطيع أيّ ملك تغييرها حتى لو أراد ذلك. وقد أعلن تشارلز الثالث سلفاً تمسّكه بنهج الملكة الراحلة. 

تشارلز على خطى والدته

ويرى الأكاديمي المختصّ في العلاقات الدولية، أن البريطانيين سيشعرون بفراغٍ كبير بعد غياب الملكة الأمّ، لكنّ الملك تشارلز الثالث سيملأه في وقتٍ سريع. لقد عاش الملك الجديد إلى جانب أمّه عقوداً طويلة، ونهل من تجربتها وخبرتها الكثير. وهو يبلغ من العمر الآن 74 عاماً، وبالتالي فهو قادر على تولّي العرش. 

وفي خطاب تولّيه العرش، تعهّد الملك تشارلز الثالث بالمضي على خطى والدته في احترام علاقة المَلَكية بالسلطتين التنفيذية والتشريعية. وقال تشارلز إن الملكة إليزابيث كانت مثالاً حيّاً لكلّ من عاصرها، وقد أفنت حياتها في خدمة بلدها، والحفاظ على المَلَكية الدستورية، و"ترسيخ تقاليد عريقة سيحرص دائماً على الالتزام بها".

توجهات مختلفة  

بينما اعتبر الباحث في الشأن البريطاني توني جوردان، في حديثه لـ"الشرق"، أنه من المبكر التنبّؤ بالتغيّرات التي يمكن أن يُحدثها الملك تشارلز الثالث في التوجّهات العامّة للمملكة داخلياً. يعرف عن الملك اهتمامه بقضايا البيئة والإنسان، وربما يدفع باتجاه زيادة الاهتمام الحكومي والشعبي بهذا الأمر، ولكن طبعاً ضمن إطار صلاحياته الدستورية.

وقال جوردان، إن تشارلز الثالث، ربما يختلف عن الملكة الراحلة في بعض التوجّهات، ولكن أفراد الأسرة الملكية يدركون أهمّية الالتزام بالقوانين المنظمة لعلاقتهم مع الشعب والبرلمان والحكومة. وبالتالي لن يخرج أيّاً منهم عن القنوات الدبلوماسية والمسارات المنظّماتية أو الجمعياتية في التعبير، بمن فيهم الملك. 

وقبيل احتفالات اليوبيل البلاتيني للملكة الراحلة، أظهر استطلاع أجرته مؤسسة يوجوف، أن 62% من البريطانيين يعتقدون أن الدولة يجب أن تحافظ على المَلَكية، فيما قال 22 % إنه يجب التحوّل إلى الجمهورية. وتعكس هذه الأرقام تراجعاً مقارنةً بالعقد الماضي، إذ بلغت نسبة المؤيّدين للملكية في العام 2012 نحو 75%. 

الاستطلاع ذاته أشار إلى أن كبار السنّ في المملكة المتّحدة أكثر دعماً للملكية من الشباب. والسبب يفسره جوردان بارتباط الملكية بالنسبة لكبار السنّ بالملكة، وما فعلته وقدّمته لهم وللدولة وحتى لمنظّمة الكومنولث. أمّا الشباب فهم ينظرون إلى المَلَكية من خلال معايير مختلفة اقتصادية، وإيديولوجية، وحقوقية، وإنسانية. 

نقاط ضعف

صحيفة "بوليتكو" الأميركية نشرت تقريراً مطوّلاً حول التحديات التي تواجه الملك تشارلز الثالث. وبحسب الصحيفة، يأتي ترتيب البيت الداخلي في مقدّمة الاختبارات التي تنتظر عهد الملك الجديد. فلا يوجد ضمانات بأن لا يستأنف الأمير هاري وزوجته ميجان ماركل، توجيه الاتهامات بالعنصرية للأسرة الملكية. كما أن شقيق الملك الأمير أندرو، قد يعود للمطالبة ببعض الامتيازات التي جرّدته منها الملكة الراحلة بسبب "قضية جوفري". 

وفق الصحيفة أيضاً، هناك نقطتا ضعف في العلاقة الخاصّة بين الملك نفسه والبريطانيين، لا بدّ له من إصلاحهما. الأولى تتمثّل فيما بقي من تداعيات وفاة زوجته الأولى وطليقته وأمّ أولاده الأميرة ديانا، وانعكاسات العلاقة المتعثرّة التي كانت تجمعه بها. فلا يزال هناك بين سكّان المملكة المتّحدة من يلوم الملك على موتها حتى الآن.

النقطة الثانية "السوداء" تتعلّق بتمويلات المؤسسات الخيرية التي يُشرف عليها الملك. فهي اليوم محطّ تدقيقٍ مضاعف بعد وصول تشارلز إلى العرش. ولم يعد بإمكان الملك الجديد قبول دفعات كبيرة من التبرّعات لتنفيذ اهتماماته البيئية والإنسانية. وحتى هذه الاهتمامات ذاتها لن يُسمح لها بعد اليوم أن تتحرّك خارج سياق الخطط الحكومية، أو تربك السياسات المرسومة عبر البرلمان والحكومة في هذه المجالات وغيرها.  

وفي مقابلة مع "الشرق"، يقول أستاذ الاستراتيجية في جامعة إكستر البريطانية، جوناثان ماركوس، إن الإطار الدستوري في المملكة المتّحدة يضمن نجاح العملية الانتقالية بين المَلَكية الراحلة والملك الجديد. كما أن تشارلز الثالث يدرك جيداً حدود مسؤولياته وحقوقه الدستورية. كما يعرف أن الهامش الذي كان يتمتّع به في إبداء المواقف والآراء عندما كان وليّاً للعهد، قد تقلّص بعدما أصبح ملكاً، وعليه من الواجبات أكثر بكثير. 

من وجهة نظر ماركوس، ما يُثار بشأن احتمالات انقسام العائلة الملكية في العهد الجديد، وأيضاً حول احتمالات انقلاب الرأي العام البريطاني على الملكية بعد وصول الملك تشارلز الثالث إلى العرش، إنما ينطوي على مبالغةٍ تثيرها الصحافة الصفراء سعياً وراء مزيدٍ من الربح، وهو لا يظنّ أن واقع الحال سيتغيّر في أيّ اتجاه. 

 العائلة الملكيةوالخزينة 

بعد وفاة الملكة الأمّ، أصبحت الامتيازات الملكية والواجبات موزّعة على 7 أفراد فقط من الأسرة المَلَكية. الملك وزوجته كاميلا، وولي العهد ويليام وزوجته كيت ميدلتون، والأخ الأصغر للملك الأمير إدوارد وزوجته صوفي رايس، فضلاً عن شقيقة الملك الأميرة آن التي كانت الأكثر قرباً من الملكة الأمّ إليزابيث الثانية. 

ومع وصول الملك تشارلز الثالث إلى العرش، عادت الأسئلة حول كلفة العائلة المَلَكية على خزينة الدولة وأموال الضرائب، وخصوصاً  أن المملكة المتّحدة تمرّ الآن بتحديات اقتصادية جمّة. والبريطانيون يعيشون ارتفاعاً في كلفة المعيشة وأسعار الطاقة، حتى أن الحكومة الجديدة تخطّط لإنفاق عشرات المليارات لمساعدتهم.  

برأي الباحث الاقتصادي أسلم بوسلان، فإن "كلفة" المَلَكية هي من الأسباب التي تدفع فئة من البريطانيين للمطالبة بالتحوّل إلى الجمهورية. ولكن الأرقام التي تتحدّث عن هذه الكلفة "لا يمكن أن تفجّر هذه الرغبة"، كما أن العائلة الملكية تؤدّي عملاً مهمّاً، ليس فقط على المستوى الإنساني والدبلوماسي، وإنما الاقتصادي أيضاً، وخصوصاً في السياحة التي يرتبط الكثير من معالمها وفعالياتها وأجندتها بهذه العائلة.

بحسب الأرقام الرسمية، بلغت فاتورة العائلة المَلَكية المموّلة من ضرائب البريطانيين بين عامي 2020 و2021 ما يزيد على 86 مليون جنيه إسترليني. وهو ما يجعل مساهمة الفرد في دفع هذه الفاتورة تقدّر بنحو جنيه ونصف تقريباً. وبالتالي لا يبدو هذا الرقم دافعاً للتمرّد على العائلة الملكية، وفقاً للباحث بوسلان.

تقول صحيفة "صنداي تايمز" إن ثروة الملكة الراحلة بلغت 370 مليون جنيه إسترليني عام 2022، بزيادة قدرها 5 ملايين جنيه عن العام الماضي. وبعد وفاتها يحصل تشارلز الثالث على الثروة كاملةً من دون الحاجة إلى دفع ضريبة الميراث، وفقاً لقانون أقرّه البرلمان عام 1993 لمنع تفتّت إرث وأموال الأسرة الملكية. 

من وجهة نظر الباحث بوسلان، ثمّة الكثير من ممتلكات العائلة البريطانية يعود للملك أو الملكة بصورة رمزية، وهي واقعياً تعود إلى الدولة. ومن ناحية أخرى تدفع الأسرة الملكية تكاليف كبيرة على قصورها وقلاعها ومنشآتها الخاصّة، وهذه المبالغ التي تتحمّلها خزينة الدولة، ولا تُقتطع من ضرائب البريطانيين أيضاً.  

الكومنولث  

تشير المعطيات إلى أن الانتقال من الملكة الأمّ إلى ابنها الملك تشارلز الثالث، لن يحمل تغيرّات على واقع الأسرة الملكية، والإطار الدستوري الذي يحدّد واجباتها وحقوقها داخل المملكة المتّحدة. ولكن ماذا عن الدول التي تتبَع للتاج البريطاني حول العالم؟ وهل يمكن لمنظّمة الكومنولث أن تتأثّر بوفاة الملكة الراحلة؟

الحديث عن استقلال بعض من الدول الـ14 التابعة للتاج البريطاني لم يعد سرّاً. وعلى رأسها أستراليا التي تقول صحيفة الجارديان إنها حزنت بصمت على وفاة إليزابيث الثانية، استعداداً لمرحلة قادمة تمضي الحكومة المنتخبة فيها نحو استفتاءٍ شعبي للتحوّل إلى الجمهورية والخروج من عباءة منظّمة الكومنولث.

انفصال عن التاج!

وبعد ثلاثة أيام على وفاة الملكة إليزابيث الثانية، أعلن رئيس وزراء جزيرة أنتيجوا وبربودا، إحدى دول التاج البريطاني، عن إجراء استفتاء للانفصال عن التاج البريطاني والانتقال إلى الجمهورية في غضون 3 سنوات.

أمّا رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، فقالت إن بلادها لا تخطّط حالياً لتغيير نظام الحكم. موضحةً أن التخلّي عن المَلَكية لن يبارح تفكير النيوزلنديين بكل فئاتهم على المدى الطويل، ولكن لا يوجد خطط نحو هذا التغيير الكبير في الوقت الراهن وبشكلٍ سريع. وما قالته رئيسة حكومة نيوزيلندا يبوح بلسان حال دول عدّة تتبع للتاج. فليس هناك ما يستدعي العجلة برأي المؤرّخ البريطاني جون ماكهوجو.

لا تؤثّر الملكية على مسار الدول التابعة للتاج البريطاني في ظلّ رمزية رئاسة "الملك" لتلك الدول. ويعتقد المؤرّخ ماكهوجو، أن تحوّل الدول الـ14 إلى النظام الجمهوري لن يكون من أجل التخلّص من الملك، بقدر ما سيكون عنواناً عريضاً في الحملات الانتخابية للساسة والمهتمّين بتجاوز "الحقبة الاستعمارية".

أما بالنسبة لمنظّمة الكومنولث ودولها الـ 54، فإنها باقية على حالها طالما بقي الملك تشارلز الثالث مؤيّداً وداعماً لها كما كانت الملكة الراحلة. وخصوصاً أن الملك هو رئيس المنظّمة منذ العام 2018 عندما كان وليّاً للعهد.

ويوضح المؤرّخ ماكهوجو أن المنظّمة هي عبارة عن شبكةٍ واسعة جداً من العلاقات الدبلوماسية بنتها الملكة الراحلة على مدى عقودٍ طويلة، فهل هناك ما يستدعي التخلّي عنها؟

اقرأ أيضاً:

تصنيفات