انتقلت اليابان إلى السرعة القصوى في تعزيز قدراتها العسكرية، والاعتماد بشكل أكبر على نفسها في مواجهة التحديات الراهنة، من الصين إلى كوريا الشمالية ومروراً بروسيا، بعدما أمضت نحو سبعة عقود في الاعتماد على التزامات حليفتها الولايات المتحدة في مدها بالحماية.
وتستضيف اليابان 86 قاعدة عسكرية أميركية، وأكبر عدد من القوات الأميركية في الخارج، وتجري تدريبات معها بانتظام، كما اشترت عدداً من الطائرات المقاتلة الشبح (F-35) الأميركية الصنع، أكثر من أي دولة أخرى خارج الولايات المتحدة.
وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في تقرير، الاثنين، أنَّ اليابان تسعى باتجاه مزيد من الاعتماد على نفسها دفاعياً، والتحول إلى قوة عسكرية، مشيرة إلى أنَّ هذا التحول في سياسات اليابان من شأنه تغيير موازين القوى في آسيا.
لكن الآن، وفي ظل تحدي الغزو الروسي لأوكرانيا للافتراضات الأمنية القائمة منذ فترة طويلة، وتزايد التهديدات من الصين وكوريا الشمالية، بدأت اليابان في الاعتماد أكثر على نفسها في التحول العسكري.
زيادة ميزانية الدفاع
يدفع الحزب الحاكم في البلاد لزيادة ميزانية الدفاع بصورة كبيرة للغاية، وتطوير المزيد من المعدات العسكرية محلياً، مع العمل في الوقت نفسه على إعادة النظر فيما يمكن فعله بهذه الأسلحة في ظل الدستور السلمي المعمول به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
من خلال تأكيد قوتها الرادعة، يمكن لليابان وهي ثالث أكبر اقتصاد في العالم، تغيير موقعها من "محمية عسكرية للولايات المتحدة إلى شريكٍ مساوٍ"، على حد تعبير الصحيفة.
واعتبرت "نيويورك تايمز" أنَّ هذا التغيُّر يلبي رغبة القادة الأميركيين في أن تكون اليابان بمثابة معادل عسكري أقوى للصين.
كما ستضطر اليابان أيضاً لمواجهة كوريا الشمالية التي أطلقت سلسلة من الصواريخ خلال الأسابيع الأخيرة، وتبدو متحفزة لتوسيع ترسانتها النووية، مستغلة انشغال العالم بالحرب في أوكرانيا، على حد وصف الصحيفة.
وخلال اجتماع دول مجموعة "آسيان" وحلفائها في كمبوديا نهاية الأسبوع، أشار رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا إلى أنَّ استقرار تايوان "يؤثر بشكل مباشر" على الأمن الإقليمي، منتقداً بكين "لتكثيفها" الأنشطة التي تهدد بانتهاك سيادة اليابان في بحر الصين الشرقي.
وفي اجتماع مع الرئيس الأميركي جو بايدن بايدن والرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، تعهد الزعماء الثلاثة باتخاذ "خطوات حازمة" لنزع السلاح النووي لكوريا الشمالية.
توازن حرج
ويأتي التوجه الياباني الجديد في لحظة جيوسياسية حساسة، تتطلب قدراً كبيراً من التوازن.
وأشارت "نيويورك تايمز" إلى أنه بينما تريد طوكيو إثبات أنها قوة عسكرية كبيرة في حد ذاتها، فإنها أيضاً لا تريد استعداء الصين، وهي شريك تجاري مهم، أو تخويف جيرانها في جنوب شرق آسيا ممن يرغبون في النأي بأنفسهم عن الأطراف المتصارعة، وقد ينظرون إلى الموقف الأمني الياباني القوي بوصفه خطراً على الاستقرار الإقليمي.
لكن بعض خبراء الدفاع يصرون على أن اليابان "يجب أن تكون أكثر واقعية"، بشأن حدود الحماية الأميركية، خصوصاً مع انشغال الولايات المتحدة بالحرب في أوروبا، والمشهد السياسي الأميركي المضطرب، حيث يمكن لتغير الإدارات أن يؤدي إلى تقلبات سريعة في السياسات.
وقال شيجيرو إيواساكي، وهو جنرال متقاعد عمل في السابق رئيساً لأركان قوات الدفاع الذاتي الجوية اليابانية: "إذا كنا في حالة أزمة، فهل سيأتي الجيش الأميركي لإنقاذنا في جميع الأحوال؟".
في المقابل، يرى بعض الخبراء أن الهدف من جهود اليابان لتعزيز اكتفائها الذاتي ليس إبعادها عن مظلة الحماية الأميركية، وإنما ضمان بقاء علاقة طوكيو مع واشنطن قوية.
وقال السفير الياباني السابق لدى الولايات المتحدة إيتشيرو فوجيساكي: "علينا تقوية دفاعاتنا من أجل تقوية التحالف. لا يمكننا أن ندع الأميركيين يفعلون كل شيء، بل علينا أن نفعل المزيد بأنفسنا".
تطوير الصواريخ والطائرات
وتعمل اليابان على تطوير صواريخ محلية الصنع يمكن استخدامها للدفاع ضد الهجمات الخارجية، أو حتى صواريخ قد تكون قادرة على الوصول إلى أهداف داخل أراضي العدو.
كما بدأت وزارة الدفاع اليابانية مشروعاً لتصنيع طائرة مقاتلة جديدة، واختبار تكنولوجيا الدفاع الصاروخي الفرط صوتي.
واقترح الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم أن تزيد اليابان من ميزانيتها الدفاعية إلى 2% من الناتج الإجمالي، على مدى السنوات الخمس المقبلة، بدلاً من حوالي 1%، وهو هدف يتماشى مع التزامات الإنفاق الدفاعي لأعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وحتى وقت قريب، رفض اليابانيون أي اقتراح لتغيير الإنفاق الدفاعي بشكل جذري، لكن الآن وقد أثار الغزو الروسي لأوكرانيا مخاوف من إقدام الصين على اجتياح تايوان، الواقعة على بعد أقل من 100 ميل غرب الجزر اليابانية في أقصى جنوبي البلاد، فإنَّ الاستطلاعات الأخيرة تُظهر أنَّ أكثر من نصف الشعب الياباني يدعم ميزانية دفاع موسعة إلى حد كبير.
ويقول مسؤولون إنَّ اليابان ستواصل شراء المعدات الأميركية والغربية عموماً، لكنها مع ذلك بحاجة إلى شراء المزيد من المعدات العسكرية من الشركات اليابانية تحسباً للإشكاليات المتعلقة بسلاسل التوريد، سواء من حيث تأخر طلبات الاستيراد، أو من حيث تأمين قطع الغيار.
وقال وزير الدفاع السابق رئيس لجنة أبحاث الأمن التابعة للحزب الليبرالي الديمقراطي، إيتسونوري أونوديرا: "إذا اعتمدت اليابان فقط على المعدات الأميركية، فقد تكون الصيانة صعبة"، وفقاً لما نقلته "نيويورك تايمز".
وأشار أونوديرا إلى أنَّ المسؤولين العسكريين اليابانيين "أصبحوا محبطين بشكل متزايد لأن الشركات المصنعة الأميركية تحجب التكنولوجيا السرية التي يبيعونها لليابان"، لافتاً إلى أنه "نتيجة لذلك، لا يمكن للجيش الياباني تكييف الطائرات المقاتلة أو أنظمة الدفاع الصاروخي المشتراة من الولايات المتحدة".
تحديات التحول العسكري الياباني
وبدأت اليابان في تطوير طائرة مقاتلة جديدة منذ عامين، منفقة في سبيل ذلك أكثر من 200 مليار ين -حوالي 1.37 مليار دولار- على ما يسمى (F-X)، والتي تصممها شركة "ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة"، إحدى أقدم التكتلات الصناعية في اليابان.
وكشف أونوديرا أنَّ وزارة الدفاع اليابانية تشاورت في البداية مع شركات الدفاع الأميركية بشأن شراكة محتملة، لكنهم قالوا إنهم لا يملكون خطة محددة لطائرة مقاتلة من الجيل التالي.
وتجري اليابان مناقشات مع الحكومة البريطانية حول تعاون بين "ميتسوبيشي" و"بي أيه إي سيستمز"، أكبر شركة دفاعية بريطانية.
وقال تسوتومو ديت، المسؤول في قسم إدارة مشروع الطائرات في وزارة الدفاع اليابانية، إن من مميزات الشراكة البريطانية هي المزيد من المشاركة المفتوحة للتكنولوجيا.
وأكد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية مارتن ماينرز أنَّ الولايات المتحدة تدعم "تعاون اليابان مع الحلفاء والشركاء المتشابهين في التفكير، بما في ذلك المملكة المتحدة"، مضيفاً أن واشنطن وطوكيو "تعززان تعاونهما الدفاعي في عدد من المجالات الواعدة".
ومع ذلك، قال أستاذ الدراسات اليابانية في جامعة وارويك البريطانية كريستوفر هيوز، إنه من خلال اختيار شريك بريطاني، فإنَّ اليابان "تحاول إلى حد ما أخذ احتياطاتها من خلال الرهان على أكثر من طرف، والاحتفاظ ببعض الاستقلالية في علاقاتها الأمنية".
شكوك في قدرات اليابان
مع ذلك، هناك تساؤلات حول ما إذا كانت اليابان لديها الخبرة لصنع المعدات العسكرية المتطورة. وفي عام 2021، تم تخصيص أقل من 2% من جميع الأبحاث التي ترعاها الحكومة للدفاع في اليابان، مقارنة بما يقرب من النصف في الولايات المتحدة و10% في فرنسا، وفقاً لبيانات من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
لكن في العام الماضي، سمحت الحكومة اليابانية بإنفاق قياسي على البحث والتطوير ضمن ميزانية الدفاع الإجمالية، أي أكثر من ضعف المستوى الذي كان عليه قبل خمس سنوات. وهذا العام، قدمت وزارة الدفاع طلباً لاعتمادات قياسية تتضمن تركيزاً أكبر على تطوير الأسلحة المحلية.
ويرى بعض الخبراء أنَّ اليابان ليس لديها المعرفة اللازمة لصنع طائرة مقاتلة متطورة، مشيرين إلى أن الحكومة تستخدم الإنفاق الدفاعي لدعم الشركات المصنعة المحلية، وفقاً لـ"نيويورك تايمز".
وقال الأميرال المتقاعد في قوة الدفاع الذاتي البحرية اليابانية يوجي كودا، إن مشروع (F-X) هو "حلم للمهندسين، ولكن للدفاع عن بلدنا ضد تهديد العدو وفي حالة اندلاع الحرب، علينا أن ننتصر. يجب أن يكون مقاتلونا المحليون المتقدمون قادرين على قتل العدو إذا لزم الأمر. أين الضمان؟".
كما يشكك المحللون أيضاً في قرار اليابان تمويل التطوير المحلي لمجموعة متنوعة من الصواريخ، بما في ذلك تلك التي يمكن أن تهاجم أهدافاً معادية في الخارج.
وأقر أونوديرا بأن القانون الياباني غير واضح بشأن ما إذا كانت الصواريخ يمكن أن تستهدف مواقع داخل دولة أخرى.
وبالنظر إلى هذا الغموض، يتساءل المحللون عما إذا كان الإنفاق على تطوير صواريخ ذات نطاقات ممتدة، هو استخدام حكيم لأموال الحكومة، خاصة وأنَّ الدولة المثقلة بالديون والشيخوخة تواجه أسئلة حول كيفية تحمُّل قفزة كبيرة في الإنفاق الدفاعي.
وبحسب "نيويورك تايمز"، يرى خبراء الدفاع أنَّ هناك حاجة أكثر إلحاحاً للإنفاق على بناء ملاجئ أفضل للطائرات الحالية، وتركيب اتصالات وخطوط وقود احتياطية، إضافة إلى دعم مخزونات الذخيرة.
وقال كبير علماء السياسة في مؤسسة راند المتخصص في الأمن الياباني جيفري هورنونج: "عندما تأتي ضربة صينية، فإنه من خلال حماية ما تمتلكه اليابان بالفعل، يمكن لقدراتها أن تنجو من الهجوم".