كان لنتائج الانتخابات النصفية الأميركية أثر واسع النطاق على السياسة الأميركية، سواء بما يتعلق داخل الكونجرس أو حتى السياسة الرئاسية. ومع انحسار "الموجة" الجمهورية، وفشلها في السيطرة على مجلس الشيوخ، فإن الحزب الجمهوري يشهد تحديات كبرى خصوصاً خلال السباق الرئاسي في 2024.
ويبدو أن الوحدة من أبرز التحديات التي ستواجه الحزب في انتخابات الرئاسة، خصوصاً مع إعلان الرئيس السابق دونالد ترمب ترشحه، رغم توجه البعض إلى إلقاء اللوم عليه في النتائج "الباهتة" التي حصدها الجمهوريون الذين دعمهم في سباقات مجلسي الشيوخ والنواب.
صراع فصائل
في 16 نوفمبر، أعيد انتخاب السيناتور الجمهوري ميتش ماكونيل زعيماً للأقلية في مجلس الشيوخ، متفوقاً على منافسه في انتخابات القيادة عضو مجلس الشيوخ ريك سكوت، معززاً بذلك ولايته التاسعة في إدارة الحزب الجمهوري داخل المجلس.
الخلافات بين سكوت وماكونيل تخطت المنافسة في قيادة الكونجرس، التي عبّر عنها الأول في تغريدة قبل إجراء الانتخابات الداخلية، قال فيها إن "الوضع الراهن معطل، وهناك حاجة لتغيير كبير، لقد حان الوقت لقيادة جديدة في مجلس الشيوخ توحد الجمهوريين لدفع أجندة محافظة جريئة".
وقبل الانتخابات النصفية، تصارع الطرفان على تمويلات الحملات الانتخابية داخل مجلس الشيوخ، إذ قدم سكوت وهو عضو مجلس الشيوخ عن فلوريدا، نداءً إلى زملائه في مكاتب "اللجنة الوطنية لمجلس الشيوخ الجمهوري" (NRSC)، في أوائل أغسطس، لإرسال أموال التبرعات من حسابات حملاتهم الشخصية إلى اللجنة.
لكن آمال سكوت في استجابة الحزب الجمهوري الموحدة تبددت؛ بمجرد أن طالب زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل نفس المكاتب بإرسال 20% من الأموال من قادة الحزب الجمهوري إلى "صندوق القيادة في مجلس الشيوخ" (SLF)، وهو الصندوق الذي يشير مراقبون إلى قرب القائمين عليه من ماكونيل.
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية وعضو الأكاديمية الفخرية في جامعة ولاية أوهايو بول بيك في تصريح لـ"الشرق"، أن الحزب الجمهوري يضم العديد من الفصائل، وأكبر تلك الفصائل داعم لدونالد ترمب.
بجانب بعض الخلافات الداخلية على مستوى القيادة، فإن الاختلاف الرئيسي في مجلس الشيوخ، كما يذكره بيك، هو بين ماكونيل وحلفائه، والقادة المؤيدين لترمب مثل ريك سكوت وتيد كروز وجوش هاولي.
ويرى بيك أن إيجاد القضايا التي يمكن أن توحد الفصائل المتعددة داخل الحزب الجمهوري، هو التحدي الحقيقي حالياً.
ويضيف أن الرئيس جو بايدن والأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ سيعرقلان أي سياسات قد تفضلها الغالبية الجمهورية في مجلس النواب، فضلاً عن أن الأغلبية الجمهورية "ضعيفة" للغاية، وتتطلب إجماعاً لتمرير أي قرار، وهو ما يمكن أن يكون صعباً في ظل الصراعات الداخلية.
ويتفق أستاذ العلوم الاجتماعية في "جامعة بوسطن" توماس والين مع بيك، في أن الوحدة هي التحدي الأكبر للجمهوريين في المرحلة المقبلة.
ويضيف في تصريح لـ"الشرق"، أن الوحدة في المرحلة المقبلة تعني أن زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب كيفن مكارثي، سيتعين عليه تقديم تنازلات كبيرة للفصيل اليميني في الحزب.
وأوضح أن ذلك يعني أن مارجوري تايلور جرين وهي يمينية مؤيدة لترمب، ستحظى بنفوذ كبير على أجندة الحزب، وهو ما يبدو أنه يحدث في الواقع.
وتابع أن مكارثي أعلن بعد فوزه بترشيح الحزب الجمهوري لمنصب رئيس مجلس النواب الأسبوع الماضي، وأملاً في الحصول على 218 صوتاً قبل انعقاد الكونجرس بكامل هيئته في أوائل يناير، أنه يخطط لإعادة تايلور جرين إلى أحدى اللجان في مجلس النواب، بعد أن صوت المجلس على عزلها من جميع أدوار اللجان في 4 فبراير 2021، رداً على تصريحاتها المؤيدة للعنف السياسي.
إلا أن أستاذ السياسة العامة في "مركز الدراسات العليا" في جامعة نيويورك هيث براون يرى في تصريحات لـ"الشرق"، أن الاتفاق على سلطة وقيادة موحدة، هو خلاف قديم قدم السياسة نفسها، وهو الخلاف الرئيسي بين قيادات الحزب الجمهوري.
ويوضح براون أن الحزب الجمهوري موحد حول قضايا رئيسية مثل الضرائب والجيش والسياسة الاجتماعية، إذ "يتفق سكوت وماكونيل حول كل شيء، باستثناء من يجب أن يكون له أكبر سلطة في مجلس الشيوخ".
إصلاحات
وأثارت نتائج انتخابات التجديد النصفي دعوات داخل الحزب إلى ضرورة إجراء إصلاحات، خصوصاً بعدما اعتبر الكثير من الحزبيين ترمب سبباً في ضعف الأداء الجمهوري خلال الانتخابات، مشيرين إلى أن الحزب كان سيفوز بمزيد من السباقات، إذا دعم "الجمهوريين المحافظين التقليديين".
دعوات الإصلاح داخلياً، ليست بالأمر الجديد على الجمهوريين. فبعد خسارة المرشح الرئاسي ميت رومني أمام باراك أوباما في 2012، وجد الحزب الجمهوري أن سبب تعثره، يعود إلى "لهجة رومني" القاسية تجاه الأقليات.
وأصدر الحزب تقريراً بعنوان "تشريح الجثة"، مع توصيات بإعادة صياغة خطاب الحزب، وتقديمه كجمهوري أكثر لطفاً وشمولية. وكان "دعم إصلاح نظام الهجرة" ركيزة أساسية للتخلص من الصورة الجامدة للحزب، وضرورة لتوسيع قاعدته الشعبية.
لكن ترمب تجاهل "تشريح الجثة" وافتتح حملته الرئاسية عام 2016، بخطاب وصف المهاجرين المكسيكيين غير الشرعيين بأنهم "مغتصبون وقتلة"، وتبعه بعد تولي الحكم، بقرار حظر دخول مواطني عدة دول ذات غالبية مسلمة إلى الولايات المتحدة.
وفي انتخابات التجديد النصفي 2022، انجرف الحزب الجمهوري أكثر بشكل مطرد نحو اليمين، وظهر ذلك بشكل جلي في دعوات بعض السياسيين البارزين كعضو مجلس الشيوخ عن ولاية ساوث كارولينا ليندسي جراهام، الذي قدم مشروع قانون "حظر الـ15 أسبوعاً" في مجلس الشيوخ، لحظر الإجهاض على المستوى الوطني.
وأصبح إعادة تقييم رؤية الحزب وأداءه، تحد آخر ضروري أمام الجمهوريين، إذ يعتقد أستاذ العلوم الاجتماعية توماس والين أن أي حزب يتبنى "موقفاً معادياً لحق الاختيار، سيجد صعوبة في السباقات لكسب الناخبات".
وأضاف في تصريحات لـ"الشرق" أن "الشيء نفسه بالنسبة للناخبين الملونين الذين لا يقدرون المواقف العنصرية المستترة التي اتخذها الحزب، مثل معارضة العمل الإيجابي وحقوق التصويت".
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية بول بيك أن "ميل الحزب الشعبوي الناجم عن ترمب، يجتذب قاعدة من الطبقة العاملة البيضاء، مع نزعات دينية ومناهضة للأقلية وقومية لم تكن موجودة في الحزب الجمهوري السابق، وهو ما يؤدي إلى تآكله".
في المقابل، لا يعتقد أستاذ العلوم السياسية هيث براون أن الحزب الجمهوري يتآكل، مضيفاً: "لقد استعاد السيطرة على مجلس النواب، كما كان متوقعاً، ولكن ليس بهامش كبير". ويؤكد أن مستقبل الحزب الجمهوري يعتمد في الأساس على "إيجاد قادة يمكنهم الحكم، وكذلك تمثيل مصالح دولة متنوعة ومتغيرة".
تغير جذري
تغيرت سياسة الحزب الجمهوري، الذي أسسه الشماليون الرافضون لتوسع الرق عام 1854. وبدا حينها أكثر إيجابية تجاه حقوق الأميركيين من أصول إفريقية. بقي الحزب لأكثر من 100 عام محافظاً على سياساته، حتى أن الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور، أصدر أمراً إلى القوات المسلحة الأميركية لمرافقة تسعة طلاب من أصول إفريقية، لدمجهم في مدرسة "ليتل روك" الثانوية في ولاية أركنسو، التي كانت مدارسها العامة مقسمة عرقياً آنذاك.
وقبل انتخابات الرئاسة الأميركية عام 1964، التي فاز بها الديمقراطي ليندون جونسون، شن نيلسون روكفلر، الحاكم الجمهوري الوسطي من نيويورك، هجوماً ضد الجمهوري باري جولدووتر، عضو مجلس الشيوخ اليميني عن ولاية أريزونا، حيث كان الرجلان يستعدان للترشح للرئاسة.
أظهر جولدووتر توجهاً جديداً في الحزب، إذ كان معارضاً لتشريعات الحقوق المدنية، على عكس سابقيه من أعضاء الحزب. واتهم روكفلر برنامج جولدووتر بأنه "قائم على العنصرية واستقطاب فئات بعينها".
وظهرت فلسفة جولدووتر هذه الفترة، لكنها أصبحت أكثر يمينية واستقطاباً في عهد ترمب. ويُشّبه والين العلاقة بين روكفلر وجولدووتر بالعلاقة بين ميتش ماكونيل، زعيم الحزب في مجلس الشيوخ، والرئيس السابق دونالد ترمب.
ويضيف أن ماكونيل يدرك حقيقة شعبية ترمب بين الناخبين الجمهوريين، وهو ما دفعه إلى التصويت لصالح تبرئة ترمب في محاكمة العزل الثانية، بعد اتهامه مسبقاً بالتحريض على أعمال الشغب في 6 يناير في مبنى الكابيتول الأميركي. الفارق في تلك المقارنة بحسب والين، أن "ترمب لديه الآن كراهية شبه مرضية لماكونيل".
يتفق أستاذ العلوم السياسية بيك مع أستاذ العلوم الاجتماعية والين في تلك المقارنة، لكنه يرى أن روكفلر وجولدووتر كانا قائدين لأجنحة مختلفة في الحزب، منقسمين حول مسائل السياسة.
في حين يعتبر الخلاف بين ترمب وماكونيل شخصياً أكثر، "إذ لا يرغب ماكونيل في الانضمام إلى عربة ترمب. من الصعب أن نرى ما هي الاختلافات السياسية، باستثناء أن حلفاء ترمب هم أصحاب (أميركا أولاً) الانعزالية، وأن ماكونيل قوي أكثر على مستوى الدولة ومؤيداً للدعم الأميركي لأوكرانيا".
وتابع براون أن "القضايا السياسية العامة بين روكفلر وجولدووتر كانت أكبر بكثير مما هي عليه بين ماكونيل وترمب".
في الوقت ذاته، يرى أستاذ العلوم الاجتماعية والين أن الحزب الجمهوري التقليدي "مات"، وأن الحزب الحالي "انعزالي ومناهض للتجارة الحرة".
ويضيف في تصريحات لـ"الشرق" أن الحزب أصبح "حزب ترمب"، ولا يعتقد أنه سيتغير في أي وقت قريب، "قد لا يكون ترمب هو المرشح الرئاسي في عام 2024، لكن مرشحاً شبيهاً بترمب سيرأس الحزب الجمهوري قريباً".