
أعلنت وزارة الخارجية الإسبانية، الجمعة، أنَّ مدريد والمفوضية الأوروبية أرسلتا إلى بريطانيا اقتراحاً لإبقاء الحدود البرية لجبل طارق مفتوحة، ضمن حل نهائي لتسوية وضع الجيب البريطاني بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ومن شأن هذ التسوية المقترحة إيجاد وضع جديد للمنطقة التي تعد محل خلاف دائم بين بريطانيا التي تعتبرها جزءاً منها، وإسبانيا التي تطالب بالسيادة عليها.
وقال وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس للسلطات المحلية والإقليمية الإسبانية قرب جبل طارق الجمعة، إنَّ إسبانيا والمفوضية الأوروبية أرسلتا إلى بريطانيا "اقتراحاً لجعل المنطقة منطقة رخاء مشترك"، وذلك بحسب ما ذكرته وكالة "رويترز".
وينصُّ المقترح بشكل خاص على أن "تمارس إسبانيا، نيابة عن الاتحاد الأوروبي، الرقابة والحماية للسوق الداخلية، طالما أنَّ الضوابط الجمركية بين إسبانيا وجبل طارق ستختفي".
ويتطلَّب تنفيذ المقترح "أن تتولى إسبانيا، نيابة عن منطقة شنجن ضمان مراقبة الحدود الخارجية لجبل طارق، لتكون قادرة على ممارسة وظائف وسلطات معينة ضرورية لأمن منطقة شنجن"، وفقاً لبيان وزارة الخارجية الإسبانية.
وقال وزير الخارجية الأسباني خوسيه مانويل الباريس في بيان إنَّ "النص المقدم إلى المملكة المتحدة مقترح شامل يتضمن أحكاماً بشأن التنقل بهدف إزالة السياج الحدودي وضمان حرية الحركة"، وذلك بحسب ما نقلته وكالة "فرانس برس".
من ناحيته، قال الوزير الأول في جبل طارق فابيان بيكاردو أمام البرلمان، إنَّ تصريحات ألباريس "تعرض وجهة نظر إسبانيا" بشأن المفاوضات المتواصلة لوضع تفاصيل معاهدة لمرحلة ما بعد بريكست مع الاتحاد الأوروبي بشأن مستقبل الجيب.
وأضاف أنَّ "المملكة المتحدة وجبل طارق لديهما أيضاً مقترحات على الطاولة وضعت لتعود بالفائدة على سكان المنطقة بأسرها".
صراع تاريخي
وتتميز منطقة جبل طارق التي يبلغ عدد سكانها 34 ألفاً بموقع استراتيجي، وتقع جنوب إسبانيا، ما يجعلها متداخلة جغرافياً مع شبه الجزيرة الإيبيرية.
وسيطر الأسطول البريطاني على جبل طارق في عام 1704 خلال ما يعرف بحروب "الخلافة الإسبانية"، ثم في عام 1713 تم تسليم المنطقة لبريطانيا بموجب "معاهدة أوترخت"، ما أتاح للبحرية البريطانية ربط المتوسط بالأطلسي.
وعلى الرغم من المحاولات العسكرية العديدة لإسبانيا لاستعادة السيطرة على جبل طارق أو "الصخرة" كما يسميه البريطانيون، إلا أنه بقي تحت السيطرة البريطانية، ويعد حالياً بمثابة قاعدة جوية وبحرية بريطانية شديدة التحصين تحرس مضيق جبل طارق.
ويتمتع جبل طارق بالحكم الذاتي في جميع الأمور ما عدا الدفاع. وللجبل حاكم يعينه ملك بريطانيا، ويعد الرئيس التنفيذي للمنطقة، ويقوم بدوره بتعيين رئيس وزراء وحكومة مكونة من الحزب أو تحالف الأحزاب التي تحصل على غالبية المقاعد في برلمان جبل طارق.
الصراع على السيادة
ومنذ ستينات القرن الماضي، صعَّدت الحكومة الإسبانية مطالبها بإنهاء ما تصفه بـ"استعمار جبل طارق". وبناءً على هذه المطالب تم إجراء استفتاء في عام 1967 لتخيير السكان بين السيادة الإسبانية أو استمرار الارتباط الوثيق مع بريطانيا، لتأتي النتيجة بغالبية ساحقة تطالب بالبقاء مع بريطانيا (12138 صوتاً مقابل 44).
وفي عام 1969 قدَّمت بريطانيا دستوراً جديداً لجبل طارق يؤكد بصراحة انتماء الجبل لبريطانيا مع منحه في الوقت نفسه حكماً ذاتياً كاملاً للشؤون الداخلية.
ورداً على هذا الدستور، أغلقت إسبانيا حدودها مع الجبل، حارمة إياه من تجارتها وعمالتها، واستمر الإغلاق حتى عام 1985.
وعلى الرغم من رفع الحظر الحدودي، بقي وضع جبل طارق مسألة خلافية بين الحكومتين البريطانية والإسبانية. وفي عام 2002، كشف استفتاء غير ملزم، ولم تعترف به أي من الحكومتين، عن رفض 99% من السكان للسيادة البريطانية الإسبانية المشتركة على الجبل.
في عام 2004، ساعد إنشاء "المنتدى الثلاثي للحوار" الذي ضمَّ ممثلين عن حكومات بريطانيا وإسبانيا وجبل طارق، على تخفيف التوترات. وفي يوليو 2009، شهد الاجتماع الثلاثي في جبل طارق المرة الأولى منذ عام 1704 التي يزور فيها وزير إسباني المنطقة.
لكن التوترات تجدَّدت في أغسطس 2013، عندما أدَّى الخلاف حول حقوق الصيد إلى قيام الحكومة الإسبانية بزيادة الرقابة على الحدود في جبل طارق، وهو ما انتقدته بريطانيا باعتباره "انتهاكاً لقوانين الاتحاد الأوروبي التي تنظم حرية التنقل".
تداعيات بريكست
ومثَّل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مصدراً آخر للتوتر، فعلى الرغم من تمسُّك سكان جبل طارق بالبقاء مع المملكة المتحدة، ورفضهم السيادة الإسبانية، إلا أنهم صوتوا بغالبية كبيرة للبقاء في الاتحاد خلال الاستفتاء في عام 2016.
ويجري الاتحاد الأوروبي وإسبانيا مفاوضات مكثفة مع بريطانيا لبحث علاقة الجبل بالاتحاد، وتنظيم التنقل بين الجانبين.
ويتنقل حوالي 15 ألف شخص يومياً من إسبانيا إلى جبل طارق، وفي حال عدم التوصل إلى اتفاق سيضطر هؤلاء إلى الخضوع للفحص وختم جوازات السفر.
واتفقت إسبانيا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي في 31 ديسمبر 2020، قبل ساعات من خروج بريطانيا الكامل من التكتل، على أنْ يظل جبل طارق جزءاً من اتفاقيات الاتحاد الأوروبي مثل منطقة شنجن، وأن تقوم إسبانيا بمراقبة أمن الميناء والمطار في انتظار حل نهائي.
قضايا عالقة
لكن رغم هذا الاتفاق، إلا أنَّ هناك عدداً من القضايا التي لا تزال عالقة، بما في ذلك مسألة من سيقوم بمراقبة أمن المطار.
وتطالب بريطانيا بتولي عناصر "الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل" (فرونتكس) هذه المهمة، إذ تعتبر وجود عناصر إسبانية على الحدود اعتداء على سيادتها، وذلك بحسب مجلة "ذا ديبلومات".
لكن الطلب البريطاني يواجه معارضة أوروبية قوية، مع إصرار دول الكتلة على أن يخضع عناصر "فرونتكس" الذين سيتم نشرهم في جبل طارق، لمسؤولية السلطات الإسبانية، وليس لبريطانيا، نظراً لكونها ليست عضواً في الاتحاد.
"الاستعمار البريطاني"
كما يعد الوضع القانوني للمنطقة كلها من القضايا الخلافية بين لندن وبروكسل، وذلك مع دعم الاتحاد الأوروبي مطالبات مدريد بالسيادة على المنطقة.
وكان الاتحاد تبنى في السابق مواقف محابية لبريطانيا التي انضمت للكتلة قبل إسبانيا، عندما يتعلَّق الأمر بمسألة جبل طارق، لكن منذ مغادرة لندن للكتلة غيَّر الاتحاد مواقفه، واصطف بالكامل مع مدريد.
وقال مسؤول رفيع في الاتحاد: "موقف الاتحاد كان الموقف البريطاني، لكن مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصبح موقف الاتحاد الآن هو الموقف الإسباني. سندعم دائماً أعضاءنا ضدَّ غير الأعضاء"، وذلك بحسب ما ذكرته "رويترز".
ووصفت وثيقة صادرة عن المجلس الأوروبي في فبراير 2019 جبل طارق بأنه "مستعمرة للتاج البريطاني"، مشيرة إلى "الخلاف" بين إسبانيا وبريطانيا بشأن السيادة على هذه المنطقة، بحسب ما نقلته شبكة "بي بي سي" البريطانية.
وأثار هذا الوصف غضب لندن التي اعتبرت أنه "من غير المقبول تماماً إطلاق هذا الوصف" على المنطقة، مشددة على أنَّها "جزء من عائلة المملكة المتحدة".
وكانت المنطقة بمثابة "مستعمرة للتاج" عندما انضمت بريطانيا إلى الكتلة الأوروبية في عام 1973، لكن لندن أعادت تصنيفها على أنها "إقليم بريطاني وراء البحار" في عام 2002.
وعلى الرغم من هذا التصنيف الجديد إلا أنَّ مؤسسات أوروبية استمرت في استخدام وصف "المستعمرة"، بما في ذلك محكمة العدل الأوروبية التي قالت في أحكام صدرت في عامي 2006 و2017 إن جبل طارق "مستعمرة للتاج البريطاني" وليست جزءاً من المملكة المتحدة، وفقاً لما ذكرته "رويترز".
الأولوية لبريكست
لكن مع تزايد الخلافات حول قضايا التجارة، وحرية الحركة بعد بريكست، خففت مدريد مطالبها في ما يتعلَّق بالسيادة على الجيب، للتركيز أكثر على التوصل إلى اتفاق مع بريطانيا بشأن هذه القضايا.
وقال وزير الخارجية الإسباني، الجمعة، إنَّ إسبانيا وافقت على تنحية مسألة مطالبتها بالسيادة على جبل طارق جانباً، للتركيز على فرصة إبقاء الحدود مفتوحة، وفقاً لـ"رويترز".
وكان وزير الدولة للاتحاد الأوروبي باسكوال نافارو، أعرب في تصريحات، الاثنين، عن ثقته في إمكانية التوصل إلى اتفاق "قبل نهاية العام" بين المفوضية الأوروبية والمملكة المتحدة، بشأن علاقات جبل طارق مع الكتلة الأوروبية.
واعتبر نافارو أنه "لا توجد نقطة عالقة" في المفاوضات بين لندن وبروكسل، لافتاً إلى أنَّ الجولة الأخيرة من الاتصالات التي استضافتها بروكسل في نهاية أكتوبر سمحت للأوروبيين بتقديم مقترح لاتفاق "على الطاولة".
ووصف نافارو المقترح بأنه "نص طويل ومعقد لأنه يؤثر على جميع جوانب العلاقات مع جبل طارق، وفيه الكثير مما تجب مناقشته"، مضيفاً: "لكن هذا لا يعني عدم وجود تقدم نحو الاتفاق النهائي".