صوت أكثر من 500 نائب بريطاني لصالح "اتفاق وندسور" الذي أبرمه رئيس الوزراء ريشي سوناك مع الاتحاد الأوروبي، بشأن بروتوكول إيرلندا الشمالية، الشهر الماضي، فيما اعتبره محللون بمثابة اعتراف ضمني بالقيادة الحالية للبلاد في هذه المرحلة الحرجة.
ومع وضع "اتفاق وندسور" على طريق التنفيذ، والعمل على تعديل بروتوكول إيرلندا الشمالية بعيداً عن تلك الصيغة التي أبرمها رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون عام 2020، ما يعني رفع الحدود البحرية بين مكونات المملكة المتحدة، وعبور السلع بين شقي الجزيرة الإيرلندية عبر ممرات "حمراء" منفصلة عن "الخضراء" المخصصة لتجارة بلفاست مع لندن وأدنبرة وكارديف.
وبعيداً عن أبعادها الاقتصادية، تحمل مصادقة البرلمان البريطاني على "اتفاق وندسور" كثيراً من الدلالات السياسية وفق خبراء ومختصين، بعضها يرتبط بالحزب الحاكم على وجه الخصوص، ومنها ما يقرأ على صعيد الدولة ككل، خاصة أن المعارضة العمالية وقفت إلى جانب الحكومة في طرق أبواب جديدة للعلاقات مع الاتحاد الأوروبي.
أقلية محافظة ضعيفة
عارض "اتفاق وندسور" 28 نائباً، بينهم 6 ينتمون إلى الحزب الوحدوي في إيرلندا الشمالية، و 22 نائباً من المحافظين على رأسهم جونسون ورئيسة الحكومة السابقة ليز ترس، بالإضافة إلى وزيرة الداخلية السابقة بريتي باتيل، ووزير التجارة والصناعة السابق جاكوب ريس موج، ورئيس مجموعة الأبحاث الأوروبية مارك فرانسوا.
وتمثل هذه المجموعة المعارضة في الحزب الحاكم "صقور بريكست"، وكانوا يأملون أن يشكل رفضهم المسبق للاتفاق جبهة قوية بين صفوف المحافظين، لكن تصويت البرلمان جرى عكس رغبتهم، وتبين أنهم باتوا يشكلون أقلية لا تحمل تأثيراً على توجهات السياسة الداخلية، خاصة في ملف العلاقة مع الاتحاد الأوروبي بعد طلاق لندن وبروكسل.
وفسر وزير شؤون إيرلندا الشمالية ستيف باكر الأمر بأن جونسون وترس اختارا أن يكونا تابعين لنايجل فراج بدلاً من أن يتذكرهم البريطانيون كقياديين بارزين في الدولة.
وفراج هو الرئيس الفخري لما يسمى حزب "الإصلاح"، وكان أبرز قادة معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 2016، كما ترأس حزب "بريكست" خلال الفترة بين 2019 و2021.
بالنسبة لفراج وما يمثله من تيار شعبي وسياسي في بريطانيا لن يكتمل إنجاز "بريكست" أبداً إذا تم تنفيذ "اتفاق وندسور"، لكن دراسة حديثة لكلية الأبحاث الإيرلندية في جامعة ليفربول أفادت بأن نحو 80% من القاعدة الشعبية للحزب الوحدوي تؤيد الاتفاق، وبالتالي تريد تحويل المنافسة مع الاتحاد الأوروبي إلى السياق التجاري بدلاً من ميدان السياسة.
ضغوط داخلية وخارجية
وجاء تمرير "اتفاق وندسور" في البرلمان ليضع الحزب الوحدوي الإيرلندي أمام ضغوط داخلية وخارجية للعودة إلى المشاركة في حكومة بلفاست، خاصة أن الشهر المقبل يصادف مرور 25 عاماً على إبرام اتفاق "الجمعة العظيمة" لإنهاء الحرب الأهلية بين شقي الجزيرة الإيرلندية، ومن المقرر أن يزور الرئيس الأميركي جو بايدن إيرلندا الشمالية بهذه المناسبة.
ثمة ضغوط أميركية وأوروبية وبريطانية مورست على الحزب الوحدوي للتراجع عن اعتكافه السياسي. كما أن ثلثي أعضاء الحزب يميلون إلى العمل مع لندن بشأن مخاوفهم المتعلقة بسلطة القانون الأوروبي في "اتفاق وندسور"، بدلاً من أن يواصلوا مقاطعة العمل الحكومي ودفع لندن نحو الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة جديدة في إيرلندا الشمالية.
ويقول وزير الدولة لشؤون إيرلندا الشمالية جريس هاريس إن "إطار وندسور" يحمي اتفاق "الجمعة العظيمة" بين بلفاست ودبلن.
وأمام البرلمان البريطاني، شدد هاريس على أن سكان إيرلندا الشمالية "يدركون تماماً أن ما فعلته الحكومة اليوم سيرسخ السلم الأهلي ويحافظ على أمن الجزيرة الإيرلندية لـ25 عاماً مقبلة دون أي قلق".
نهاية حقبة جونسون
ويشير تحليل لصحيفة "بوليتيكو" إلى أن التصويت لصالح "اتفاق وندسور" مثل إعلاناً صريحاً لنهاية حقبة جونسون، وطوى فصلاً كاملاً من المعارضة لقيادة رئيس الوزراء ريشي سوناك، منوهاً إلى أن 48 نائباً في حزب المحافظين امتنعوا عن التصويت ضد الاتفاق لأنهم لا يريدون مزيداً من الشقاق في الحزب، ولا يبحثون عن الصدام مع سوناك.
وقال النائب السابق في البرلمان بول جودمان إن الذين عارضوا "اتفاق وندسور" كانوا يمثلون حتى الأمس القريب أعتى قادة الحزب الحاكم، لكن يبدو أنه لم يعد لديهم ذلك الحضور المؤثر على الأكثرية المطلقة للمحافظين في مجلس العموم، خاصة أن جونسون يحاكم اليوم بتهمة تضليل البرلمان، بينما غادرت ترس منصبها "مكسورة" قبل أشهر.
ولفت جودمان في مدونته الخاصة إلى أن مجموعة الأبحاث الأوروبية، التي كانت ثقل معارضة سوناك، أصبحت اليوم ظلاً لما كانت تنطوي عليه من تأثير في السابق. فمن صوت ضد "اتفاق وندسور" في البرلمان هم قادة هذه المجموعة، لكنهم وجدوا أنفسهم بمفردهم، وأدركوا متأخراً أن تسخير الحزب لتعميم وجهة نظرهم يحتاج لأكثر من الكلام.
وأشار النائب السابق إلى أن سوناك لم يكن بحاجة إلى مساندة العمال والليبراليين الديمقراطيين لتمرير "اتفاق وندسور" لأنه بات يتمتع بأكثريته الخاصة في مجلس العموم، والتي ستوفر له، حتى موعد الانتخابات المقبلة، "الدعم الكافي لتعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وإجراء الإصلاحات التي قد تعيد ثقة الشارع بالحزب الحاكم".
عودة صقور المحافظين
ويرى الباحث في الشأن البريطاني جوناثان ليز أن وقوف أحزاب المعارضة إلى جانب الحكومة في دعم "اتفاق وندسور" تحت قبة مجلس العموم أحرج خصوم سوناك داخل الحزب الحاكم، ناهيك عن أن رئيس الوزراء بات يتمتع بأكثرية بين النواب المحافظين نتيجة لجملة خطوات تبناها أخيراً وترددت أصداؤها بإيجابية داخلياً وخارجياً.
وعلى الرغم من هذا، يلفت ليز، في حديث لـ"الشرق"، إلى أن من الخطأ الحديث عن هزيمة مجموعة الأبحاث الأوروبية وبقية النواب المعارضين لسوناك بين المحافظين بالضربة القاضية، مشدداً على أن عودة "صقور المحافظين" إلى سابق عهدهم في مواجهة سوناك يعتمد كثيراً على نتيجة محاكمة جونسون بتهمة "تضليل البرلمان".
ويبدو أن تمرير الجزء الأساسي من "اتفاق وندسور" في البرلمان لن يوقف "صقور المحافظين" عن معارضة سوناك والاتفاق معاً، إذ كتبت وزيرة الداخلية السابقة بريتي باتيل في صحيفة "التليجراف" تطالب رئيس الوزراء البريطاني بالعودة إلى الاتحاد الأوروبي للتفاوض على اتفاق أكثر "عدلاً" للمملكة المتحدة عامة، وإيرلندا الشمالية بشكل خاص.
وقال وزير التجارة السابق جاكوب ريس موج، على "تويتر"، إنه دخل مجلس العموم عن حزب المحافظين في ظل قيادة جونسون، ومن أجل تحقيق أهداف مختلفة عما يجري عليه العمل اليوم. ومن هنا جاء تصويته ضد "اتفاق وندسور الذي لا يضمن وحدة أراضي المملكة المتحدة"، مضيفاً أنه سيواصل الالتزام التام بثوابت انتخابات عام 2019.
أهداف اقتصادية مبطنة
ولا يختلف اثنان على قدرة "إطار وندسور" على صون حرية تنقل الأفراد والمشاركة السياسية بين شقي الجزيرة الإيرلندية، وفق ما رسمته اتفاقية "الجمعة العظيمة" للسلام عام 1998، لكن البعد الاقتصادي للاتفاق لا يقل أهمية عن الجانب السياسي في دفع عدد من نواب البرلمان نحو تأييد إنجاز سوناك، على الرغم من عدم وضوحه بشكل كامل.
وقال النائب ستيفن فاري إن "اتفاق وندسور" سوف يعيد الاستقرار للاقتصاد الوطني، و"قد حان الوقت لتمضي المملكة المتحدة قدماً بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي".
وأضاف في مداخلة أمام مجلس العموم أن أي صفقة من هذا النوع تحمل ما هو إيجابي تماماً، وما ينطوي على نوع من التنازل لصالح الهدف النهائي، وهذا لا يدين الحكومة والاتفاق.
وأيد النائب المحافظ أندرو بوي ما جاء على لسان زميله فاري، بشأن ضرورة المضي قدماً إلى "مرحلة ما بعد الخروج".
وقال بوي، في تعليقه على تصويت مجلس العموم، إن "إقرار اتفاق وندسور يمنح البلاد واقتصادها فرصة للنظر إلى علاقات أوسع مع العالم الخارجي، بينما نتمتع بعلاقات جيدة قابلة للتطور دائماً مع شركائنا الأوروبيين".
في المقابل، قال المحلل الاقتصادي اسلم بوسلان إن المنفعة الاقتصادية لـ "اتفاق وندسور" لا تبدو واضحة بشكل كاف حتى الآن، "فالاتفاق لا يغير الإطار العام للعلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، وإنما يفترض أن الانفتاح على التكتل في بروتوكول إيرلندا الشمالية قد يدفع بروكسل لمزيد من المرونة وتعزيز التبادل التجاري مع لندن".
وأضاف رسلان لـ"الشرق" أن تحسن فرص إبرام المملكة المتحدة لاتفاقيات تجارة حرة مع دول وتكتلات أخرى حول العالم بعد "اتفاق وندسور"، لا يزال مبهماً أيضاً، "فلا تزال الظروف الدولية بعيدة عن إنجاز مثل هذه الاتفاقيات بين بريطانيا ودول أخرى، وبوجه خاص مع الولايات المتحدة التي تعول عليها لندن كثيراً بعد بريكست".
اقرأ أيضاً: