أنهى الرئيس الأميركي جو بايدن زيارته القصيرة إلى إيرلندا الشمالية بإشارات استفهام عدة حول العلاقة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، إذ جمعه لقاء عابر برئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك، وآخر مع قادة أحزاب بلفاست، من دون الإعلان عن أي تغيير في الأمور المعلقة بين البلدين اقتصادياً وسياسياً.
وكانت وسائل الإعلام البريطانية تراقب 3 محاور رئيسة في هذه الزيارة، الأول هو الأمل في إبرام اتفاق تجارة حرة بين لندن وواشنطن. ويتعلق الثاني بدور بايدن في إعادة الحياة السياسية إلى بلفاست والمعطلة منذ نحو عام، أما الثالث فيتعلق بمدى تأثير "تسريبات الوثائق السرية الخاصة بوزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون)" على خطط دعم الغرب لأوكرانيا.
ووفقاً لمحللين ومراقبين، يسود نوع من البرود في العلاقات البريطانية الأميركية لا يريد أي من الطرفين إبرازه أو تضخيمه. لكن "حسن إدارته" إن جاز التعبير، لم تمنع تساؤل الإعلاميين عن حقيقة "كره" بايدن لبريطانيا، وعما إذا كان سوناك ضيَّع فرصة عقد لقاء طويل مع الرئيس الأميركي في إيرلندا الشمالية.
"اتفاق الجمعة العظيمة"
حرص جو بايدن على إبراز "اتفاق الجمعة العظيمة" بين بلفاست ودبلن كعنوان وحيد لزيارته، فتركز خطابه في "جامعة أولستر" على هذا الاتفاق وما يعنيه لبلاده وللأجيال المقبلة في شقي الجزيرة الإيرلندية. ومن خلال الخطاب بعث بايدن برسائل سياسية واضحة إلى أحزاب إيرلندا الشمالية وللحكومة البريطانية على حد سواء.
وقال الرئيس الأميركي إن "أعداء السلام في إيرلندا الشمالية لن ينتصروا أبداً"، مشيراً إلى أن واشنطن دعمت بقوة اتفاق الجمعة العظيمة، الذي أنهى الحرب الأهلية بين شقي الجزيرة الإيرلندية. وقال إنه بالغ الأهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ويحمي مستقبل الأجيال المقبلة في الجزيرة، ويعد سكانها بمزيد من الازدهار الاقتصادي.
وأبرم "الجمعة العظيمة"، أو "اتفاق بلفاست"، في عام 1998 بين بريطانيا وجمهورية إيرلندا وأحزاب إيرلندا الشمالية الكبرى، وأنهى حرباً أهلية بين شقي الجزيرة الإيرلندية امتدت لأكثر من 30 عاماً وقُتل خلالها نحو 3500 شخص، بعد أن ألزم كلا من البروتستانت والكاثوليك على تقاسم السلطة في إيرلندا الشمالية.
وحضّ بايدن، في خطابه، أحزاب برلمان إيرلندا الشمالية على العمل من أجل حماية "اتفاق الجمعة العظيمة". كما دعا بـ"ألفاظ منتقاة جداً"، كما وصفتها وسائل الإعلام محلية، الحزب الوحدوي إلى العودة لتشارك السلطة في البلاد، لكن يبدو أن دعوته لم تجد القبول الكافي بين أوساط الوحدويين الديمقراطيين بشكل خاص.
عودة تقاسم السلطة
ويقول الرئيس الأميركي إن زيارته لم تحمل تدخلاً في الشؤون الداخلية لإيرلندا الشمالية، وإنه يجب على الأحزاب السياسية إجراء نقاش أكبر حول مستقبل الدولة، لكن زعيم الحزب الوحدوي الديمقراطي السير جيفري دونالدسون يرى أن حضور بايدن لن يغير واقع الحال الذي تعيشه بلفاست منذ "بريكست" نهاية 2020.
ولفت دونالدسون في تصريحات أدلى بها بعد لقائه الرئيس الأميركي، إلى أن حزبه يريد العودة إلى تقاسم السلطة واستقرار المؤسسات الرسمية كما يأمل بايدن، "لكن ذلك رهن بوجود المقومات القوية التي تحتاجها البلاد، وتلك المقومات لا يوفرها "إطار وندسور" الذي توصلت إليه لندن وبروكسل قبل أشهر قليلة".
ووصف بايدن "إطار وندسور" بشأن تعديل بروتوكول إيرلندا الشمالية في صفقة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بأنه "إيجابي وخطوة صحيحة لحماية اتفاق الجمعة العظيمة بين بلفاست ودبلن"، وقال إنه يزيل أسباب الخلاف حول قضايا عدة كانت تهدد بجدية العلاقة بين لندن وبروكسل.
وصادق برلمان بريطانيا على "اتفاق وندسور" بأغلبية مطلقة قبل زيارة بايدن بنحو 3 أسابيع، لكن الحزب الوحدوي يراه غير كاف لضمان سيادة إيرلندا الشمالية ووحدتها مع المملكة المتحدة. وبسبب ذلك يرفض الحزب العودة إلى اتفاق تقاسم السلطة مع منافسه حزب "شين فين" الذي يفضل الوحدة مع جمهورية إيرلندا.
وقالت زعيمة حزب "شين فين" ميشيل أونيل إن خطاب الرئيس الأميركي بعث رسالة واضحة من أجل العودة لاتفاق تقاسم السلطة في إيرلندا الشمالية.
وحذرت أونيل بعد لقائها بايدن، من التبعات السياسية لاستمرار تعنت الوحدويين ورفضهم تشكيل الحكومة وإطلاق يد برلمان بلفاست من أجل معالجة مشكلات البلاد وأزماتها.
وأعلنت أنها كانت تتمنى استضافة بايدن في برلمان إيرلندا الشمالية، لكن مقاطعة الحزب الوحدوي لاتفاق تقاسم السلطة "تبقي ذلك الصرح مغلقاً، كما تضيع على عموم سكان المملكة المتحدة فرصاً حقيقية كان يمكن أن تخرج بها زيارة الرئيس الأميركي على الصعيد الاقتصادي والاستثمار الأجنبي" وفقاً لما صرحت به.
وعود اقتصادية
وقال بايدن إن "إطار وندسور" يعد بفرص اقتصادية كبيرة لإيرلندا الشمالية ويشجع الشركات الأميركية على الاستثمار فيها، لكن ما تتمناه لندن أكثر من ذلك بكثير، فهي تتطلع لاتفاق تجارة حرة مع الولايات المتحدة، يعوضها عن الضرر الذي طال أسواق المملكة المتحدة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وقال مصدر في الحكومة البريطانية لصحيفة "تليجراف" إن محادثات التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لن تبدأ قبل 2025 ووصول رئيس أميركي جديد إلى البيت الأبيض، منوهاً إلى أن إدارة بايدن لا تبدو متحمسة للخوض في مثل هذه المحادثات وما يمكن أن ينتج عنها من تأثير على أوروبا.
وقالت مديرة مجلس الأمن القومي الأميركي الخاص بأوروبا أماندا سلوت، قبيل لقاء بايدن وسوناك، إن الزعيمين لن يبحثا إبرام اتفاق تجارة حرة بين البلدين، لكن الرئيس الأميركي دعا رئيس وزراء بريطانيا لزيارة واشنطن يونيو المقبل لبحث عدد من الموضوعات الاقتصادية ذات الاهتمام المشترك.
بحسب الباحثة في الشأن البريطاني جين كوبر، كان سوناك يأمل بموقف أميركي أكثر مرونة إزاء مفاوضات التجارة الحرة بعد توقيع "إطار وندسور" بين لندن بروكسل، لكن يبدو أن الأمر بالنسبة للإدارة الأميركية الحالية لن يتغير ولن يتأثر بتحسن العلاقات السياسية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وتشير كوبر، في حديث مع "الشرق"، إلى أن الإدارة الأميركية ترى في اتفاق التجارة الحرة نوعاً من المكافأة الأميركية للمملكة المتحدة على "بريكست"، كما أنها تخشى من انعكاسات للاتفاق على علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، ولذلك تفضل الإبقاء على واقع الحال كما هو بين البلدين، اقتصادياً.
برود العلاقات
ويبدو أن مفاوضات التجارة الحرة ليست الأمر الوحيد الذي يتجنبه بايدن في العلاقة مع المملكة المتحدة، إذ قرر عدم المرور بالعاصمة لندن في طريقه إلى إيرلندا الشمالية للاحتفال بالذكرى الـ25 لـ"اتفاق الجمعة العظيمة"، كما أعلن أخيراً أنه لن يحضر تنصيب الملك تشارلز الثالث على العرش في مايو.
وتوجهت وسائل إعلام بريطانية بسؤال إلى البيت الأبيض عما إذا كان بايدن "يكره" المملكة المتحدة فعلاً، لكن الجانب الأميركي نفى ذلك، وقال إن العلاقات بين البلدين تاريخية واستراتيجية، وهذا أيضاً ما قاله سوناك بعد لقائه القصير مع بايدن، رغم أن اللقاء بحد ذاته كان سبباً في السؤال حول متانة العلاقات بين البلدين اليوم.
وبرر رئيس وزراء بريطانيا قصر المقابلة مع بايدن بأن هناك ما سبقها وما سيلحق بها قريباً من لقاءات لبحث القضايا ذات الاهتمام المشترك، مشدداً على أن العلاقات بين لندن وواشنطن لا تعاني مشكلات، "والتحالف بين البلدين قوي ومستمر كما هو عليه منذ عقود طويلة".
ومع ذلك، يرى مدير "مركز القرن القادم" للدراسات جعفر الأحمر "مؤشرات على برود العلاقة بين لندن وواشنطن أخيراً، من دون أن يؤثر ذلك على تحالف البلدين سياسياً وعسكرياً".
واعتبر الأحمر في حديث مع "الشرق"، أن المصالح المشتركة للبلدين في دعم أوكرانيا ومواجهة التمدد الصيني، لا يمكن التفريط بها.
وقال الأحمر إن برودة العلاقات بين البلدين ربما تعود إلى أسباب اقتصادية، لكن أياً كانت الأسباب، لن تغامر لندن أو واشنطن بتصعيد الخلافات الآن، كما أنهما سيواصلان التعاون في الملفات الخارجية، من دون أي تغيير عما نشهده منذ بداية الحرب الأوكرانية الروسية في شهر فبراير عام 2022.
ويرى الأحمر أن بايدن وسوناك تطرقا حتماً خلال لقاء بلفاست إلى "تسريبات البنتاجون" التي تحقق فيها واشنطن، لكنه توقع ألا تخرج أي تداعيات لهذه التسريبات على العلاقة بين البلدين إلى العلن.
وقال: "لن تسمح لندن وواشنطن بظهور شرخ في التعاون الأمني والاستخباراتي بينهما في هذا الوقت تحديداً".