مع تزايد القلق في الولايات المتحدة بشأن مخدر "الفنتانيل"، نشب خلاف حاد للغاية بين حكومتي الولايات المتحدة والمكسيك، وسط دعوات "لتدخل الجيش" الأميركي، ما يهدد التعاون في مجال مكافحة المخدرات بين البلدين.
وذكرت صحيفة "واشنطن بوست" في تقرير، أن المشكلة تتعلق بخلاف جوهري حول سبب الأزمة، واختلاف الرؤى بشأن سبل التصدي لها، مشيرة إلى أن مسؤولين أميركيين يلقون باللائمة في تدفق المخدر الذي يعبر الحدود، على جماعات مكسيكية في المقام الأول، ويضغطون على الحكومة لبذل المزيد من الجهد لوقف ذلك.
مع ذلك، يصر الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، على أن المصدر الرئيسي للمخدر الاصطناعي هو آسيا. ويقول إن المجرمين المكسيكيين يقومون فقط بتحويل مسحوق "الفنتانيل" إلى حبوب أثناء عبوره البلاد.
وفي أحدث سلسلة من التصريحات التي ترد على ما تقوله واشنطن، قال الرئيس المكسيكي: "نحن لا ننتج "الفنتانيل" في المكسيك"، بينما ألقى باللوم في الأزمة على نقص "القيم الأسرية" في الولايات المتحدة، والذي يدفع الناس إلى تعاطي المخدرات.
دعوات أميركية "لتدخل الجيش"
في المقابل، اتهم العديد من الجمهوريين الأميركيين البارزين، الرئيس المكسيكي بإنكار الانتشار الواسع لعصابات المخدرات المكسيكية.
وباتت قضية مخدر "الفنتانيل" على رأس أولويات أجندة الحزب الجمهوري، بينما توافق مشرعون، ومسؤولون بارزون سابقون، ومرشحون رئاسيون حول فكرة كانت ذات يوم هامشية، باستخدام الجيش الأميركي لمهاجمة عصابات المخدرات، ومختبرات "الفنتانيل" في المكسيك.
ولفتت الصحيفة إلى أنه بينما تعارض إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هذه الفكرة، من المؤكد أن تكون اقتراحاً جمهورياً رئيسياً، إذ يتجه كلا البلدين إلى الانتخابات الرئاسية في عام 2024.
في غضون ذلك، يحذّر مسؤولون مكسيكيون من أن التدخل الأميركي أحادي الجانب، سيكون له "عواقب وخيمة".
وقال وزير الخارجية المكسيكي مارسيلو إبرارد لصحيفة "واشنطن بوست": "في عمل واحد، ستدمرون كل التعاون الأمني بين المكسيك والولايات المتحدة"، مشيراً إلى أنه يعتبر مثل هذه الضربة "غير مرجحة".
"واشنطن بوست" قالت إن إحباط الولايات المتحدة يتجاوز مسار الحملة الانتخابية، وأعلن مدعون فيدراليون هذا الشهر لوائح اتهام شاملة، تحدد ما وصفوه بـ"الجهود الوقحة" التي تبذلها عصابة "سينالوا"، لإغراق الولايات المتحدة بـ"الفنتانيل".
واعتبر أحد كبار المسؤولين الأميركيين صراحة، أن لوبيز أوبرادور كان يناقض قواته الأمنية. وقال المسؤول للصحافيين، متحدثاً بشرط عدم الكشف عن هويته: "إنهم يعرفون أن توليف الإنتاج يجري في المكسيك".
سبب الوفيات الأول
ومما يغذي الموقف الأميركي، هو ارتفاع حصيلة ضحايا "الفنتانيل"، والتي تبلغ نحو 100 ضعف مقارنة بالمورفين. ومن بين ما يقرب من 107 آلاف حالة وفاة بجرعة زائدة في الولايات المتحدة في عام 2021، كان ثلثاها يتعلق بالمواد الأفيونية الاصطناعية، وبشكل أساسي "الفنتانيل".
وهذا المخدر هو الآن السبب الأول لوفاة الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و49 عاماً، وفق تحليل بيانات أجرته الصحيفة.
وتضاعفت مضبوطات المخدرات على الحدود الأميركية المكسيكية ثلاث مرات منذ عام 2020. وضبطت السلطات المكسيكية كميات كبيرة من السلائف الكيميائية المستخدمة في تصنيعها. ومع ذلك، اكتشفت الحكومة المكسيكية عدداً قليلاً من مختبرات إنتاج "الفنتانيل"، كما يقول الجانبان.
وما وجدته السلطات المكسيكية بالضبط غير واضح، ويرجع ذلك جزئياً إلى غموض البيانات الصحفية من الجيش، وهو الجهة الرائدة في مصادرة المخدرات. وأُبلغ عن تدمير أكثر من ألف "مختبر كيميائي" في أربع سنوات. لكن الغالبية العظمى منها، كما يقول مسؤولون ومحللون، تبين أنها مختبرات للميثامفيتامين.
وأفاد وزير الدفاع المكسيكي لويس كريسينسيو ساندوفال هذا الشهر، في تقرير نشرته الرئاسة المكسيكية، بأن السلطات ضبطت 37 موقعاً لتصنيع حبوب "الفنتانيل" منذ تولي لوبيز أوبرادور منصبه في ديسمبر 2018.
وفيما فسره محللون على أنه تحول في النبرة، أقر التقرير بأن المرحلة النهائية من الإنتاج (تحويل مادة ANPP الكيميائية إلى فنتانيل) كانت تحدث بالفعل في المنشآت.
ومع ذلك، أشار التقرير إلى أن المكونات الكيميائية للمخدر جاءت من الخارج، وأن المكسيك لم تكن الجاني الرئيسي في أزمة "الفنتانيل" التي تجتاح الولايات المتحدة.
تشكيك في جهود المكسيك
ويعتبر سياسيون جمهوريون أن مثل هذه الاستنتاجات، تعد مؤشراً على أن المكسيك ليست على استعداد لمحاربة مهربي المخدر.
وقال السيناتور ليندسي جراهام (جمهوري من ولاية ساوث كارولاينا) الشهر الماضي: "إذا لم تتعاون المكسيك، فسيتعين علينا القيام بما هو في مصلحتنا الوطنية"، وقدم تشريعاً لتصنيف جماعات الجريمة المكسيكية على أنها "إرهابية".
وأضاف جراهام: "سنطلق العنان لغضب وقوة الولايات المتحدة ضد هذه العصابات"، وتعهد بـ"منح الجيش سلطة ملاحقة هذه المنظمات أينما وجدت، ليس لغزو المكسيك وإسقاط الطائرات المكسيكية، ولكن لتدمير مختبرات المخدرات التي تسمم الأميركيين".
وتقول الصحيفة إنه من المعروف أن من الصعب العثور على مختبرات "الفنتانيل". وعلى عكس منشآت الكوكايين مترامية الأطراف المكتشفة في الأدغال الكولومبية، غالباً ما تكون مختبرات "الفنتانيل" صغيرة وبسيطة. ولا تنبعث منها بصمات حرارية أو أبخرة كيميائية أو روائح قوية، كما يحدث في مختبرات الميثامفيتامين.
مسألة معقدة
وتعد المعلومات الاستخباراتية أمراً بالغ الأهمية للعثور على مثل هذه المواقع، لكن المكسيك تعاني من نقص حاد في المحققين المدربين تدريباً جيداً. ولا يوظف الجيش محققين، وغالباً ما تضعف تحقيقات المتابعة في المواد الكيميائية أو المختبرات المضبوطة.
ويقدم الجمهوريون مقترحات عدة، من التصنيف "الإرهابي"، إلى التدخل داخل المكسيك للقضاء على عصابات المخدرات.
وما زاد الأمور تعقيداً، أن الرئيس المكسيكي لوبيز أوبرادور حد من أنشطة إدارة مكافحة المخدرات الأميركية في المكسيك، بحجة أن الإدارة لها تاريخ في انتهاك السيادة الوطنية.
وأصبح غاضباً، عندما علم أن عملاء إدارة مكافحة المخدرات حققوا سراً مع وزير الدفاع المكسيكي السابق، الجنرال سلفادور سيينفويجوس، بشأن مزاعم تهريب مخدرات.
وألقي القبض على سيينفويجوس أثناء إجازته في لوس أنجلوس في عام 2020، ولكن أطلق سراحه لاحقاً وسط مخاوف أميركية بشأن صلابة القضية، وتأثيرها المحتمل على العلاقات.
وجمعت وكالات الأمن الأميركية معلومات مستفيضة عن إنتاج العصابات المكسيكية لـ"الفنتانيل"، من شهود متعاونين ومخبرين، ووسائل استخباراتية، حسبما نقلت "واشنطن بوست" عن مسؤول كبير سابق في إدارة مكافحة المخدرات.
لكن المسؤول السابق أضاف أنه "بما أنه ليس لديك تعاون ثنائي في المكسيك، لا يوجد أحد لتمرير المعلومات إليه".
حملة مكلفة
ومن المرجح أن تكون الحملة على "الفنتانيل" في المكسيك مكلفة، سواء من الناحية السياسية أو في الأرواح المفقودة.
وأشارت الصحيفة إلى ما حدث في يناير، عندما اجتاح الجيش المكسيكي قرية ريفية في سينالوا للقبض على المهرب المزعوم أوفيديو جوزمان. وقاوم عناصر العصابة، ما أسفر عن مصرع 10 جنود وإصابة 35 وإحداث دمار.
وفي محاولة سابقة للقبض على جوزمان، استولى المئات من مسلحي الكارتل على مدينة كولياكان، عاصمة الولاية، وتمكنوا في نهاية المطاف من إطلاق سراحه.
وقال الباحث في مؤسسة "راند" ديفيد لوكي، المحقق الرئيسي في تقرير للكونجرس الأميركي عن "الفنتانيل" صدر العام الماضي: "لم تثبت الحكومة المكسيكية أن لديها القدرة أو القدرات لمعالجة مشكلة الفنتانيل هذه".
وأضاف أن هذا قد يفسر إحجام لوبيز أوبرادور عن الاعتراف بإنتاج "الفنتانيل" المحلي، موضحاً أنه: "من خلال عدم اعتراف أوبرادور بأن المكسيك لديها مشكلة، لا يمكن محاسبتها".
وتنفي الحكومة المكسيكية فشلها في الاستجابة لأزمة "الفنتانيل". وألقت السلطات القبض على اثنين من تجار "الفنتانيل" المزعومين، وهما جوزمان، نجل زعيم كارتل سينالوا السابق المسجون خواكين "إل تشابو" جوزمان، وخوسيه جوادالوبي تابيا، الذي يقال إنه مقرب من إسماعيل "إل مايو" زامبادا، وهو زعيم كارتل آخر مشهور.
توتر متصاعد
وعلى الرغم من توتر العلاقات مع إدارة مكافحة المخدرات بالولايات المتحدة، تواصل المكسيك تعاونها في مكافحة المخدرات مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) والوكالات الأميركية الأخرى، حسبما يقول مسؤولون.
وقدم الجمهوريون، الذين أغضبهم عدم إحراز تقدم، تشريعاً في مجلسي الكونجرس لتصنيف عصابات المخدرات "منظمات إرهابية". وتم تبني فكرة استخدام القوة العسكرية الأميركية ضد المهربين المكسيكيين، من قبل المرشحين الرئاسيين الجمهوريين دونالد ترمب، وفيفيك راماسوامي.
وقال ترمب إن سياسته ستكون "القضاء على الكارتلات، تماماً كما قضينا على داعش في العراق وسوريا".
وقد يتم رفض مثل هذا الحديث، باعتباره مجرد قعقعة لغرض الحملة الانتخابية. لكن وفقاً لمجلة "رولينج ستون"، طلب ترمب، المرشح الأوفر حظاً لنيل بطاقة ترشيح الحزب الجمهوري، من مستشاريه "خطط معركة" لمواجهة المهربين المكسيكيين.
وخلال فترة رئاسته، اقترح ترمب مرتين إطلاق صواريخ على مختبرات مخدرات مكسيكية، وفقاً لوزير دفاعه السابق مارك إسبر. وعارض الجيش الأميركي الفكرة.
ويقول محللون، إن فكرة استخدام الجيش لتفجير مختبرات المخدرات أو استهداف المهربين، تعكس سوء فهم لكيفية عمل العصابات المكسيكية. وليس من الواضح، ما إذا كان قتل كبار المهربين أو القبض عليهم سيعطل التجارة بشكل كبير.
اقرأ أيضاً: