حملت مجريات الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى دولة جنوب إفريقيا، الأسبوع الماضي، مؤشرات مهمة إلى حجم وطبيعة الرهان المتصاعد لدى روسيا والغرب في السباق المحموم بين الطرفين لكسب القارة السمراء وضمان توظيف العلاقات معها في المواجهة المتفاقمة حالياً.
جولة الوزير الروسي الإفريقية، التي ختمها في بريتوريا، عكست مستوى تزايد أهمية المنطقة بالنسبة لطرفي الصراع الحالي، فهذه الجولة الرابعة له هذا العام في القارة الإفريقية، والثانية خلال أشهر معدودة إلى جنوب إفريقيا.
وجاءت الزيارة في إطار خطوات نشطة لروسيا تقابل التحرك الغربي في القارة، والضغوط السياسية المتواصلة من جانب واشنطن لحمل المنطقة على الانخراط في نظام العقوبات المفروضة على موسكو، وكذلك لمواجهة تنشيط الدبلوماسية الأوكرانية الهادفة إلى ضمان حياد بلدان القارة أو جرها إلى تبني مواقف واضحة ونهائية حيال مبادرات السلام المطروحة من جهات مختلفة.
لذلك لم يكن غريباً أن تأتي زيارة لافروف مباشرة بعد جولة إفريقية واسعة قام بها وزير الخارجية الأوكراني ديمتري كوليبا.
شريك رئيسي
جنوب إفريقيا هي واحدة من أكبر 5 شركاء تجاريين للاتحاد الروسي في القارة الإفريقية، إذ بلغت التجارة الثنائية 1.139 مليار دولار في عام 2021، وفقاً لدائرة الجمارك الفيدرالية الروسية.
ومع أن هذا الرقم قفز خلال العام الماضي بنحو 16% لكنه إجمالاً يبقى متواضعاً، فهو يعادل 1% فقط من حجم التجارة الخارجية لجنوب إفريقيا، وبالمقارنة فقد بلغت تجارة جنوب إفريقيا مع الولايات المتحدة 21.2 مليار دولار العام الماضي.
لكن الاهتمام الروسي بهذه الدولة ليس تجارياً فقط، فهي باتت تشكل المدخل الروسي الرئيسي إلى القارة السمراء، والعلاقة مع بلاد مانديلا لها أبعاد أكثر حيوية حالياً نظراً للثقل المعنوي والسياسي، في إطار التحضير لقمتين مهمتين بالنسبة إلى موسكو أولهما القمة الروسية الإفريقية الثانية، التي تنعقد في عاصمة الشمال الروسي سان بطرسبورغ الشهر المقبل، والثانية هي قمة مجموعة "بريكس" المقررة في أغسطس المقبل في جنوب إفريقيا.
القمة الروسية الإفريقية كانت قد تأجلت العام الماضي، وتعمل موسكو بنشاط لإنجاحها هذا العام، على الرغم من الظروف المحيطة بها، ومن بين الأهداف الروسية المحافظة على حياد القارة الإفريقية في الحرب الدائرة، وكسب مواقع جديدة فيها تعزز الحضور الروسي.
معضلة "بريكس"
أما قمة "بريكس" فهي تشكل امتحاناً صعباً لجنوب إفريقيا نفسها، فهذا البلد العضو في المحكمة الجنائية الدولية يواجه معضلة الالتزام بقراراتها، وهو يستعد لاستقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ودارت تكهنات كثيرة حول احتمال إجراء تعديل دستوري يتيح للبلد عدم الامتثال للمحكمة التي أدرجت بوتين على لائحة الملاحقين بقضايا جرائم حرب. لكن هذا الخيار يبدو مستبعداً بسبب الضغوط الغربية المتصاعدة، ومواقف المعارضة الداخلية التي زادت مطالباتها باعتقال الرئيس الروسي لدى وصوله.
أمام هذا الواقع تبدو الخيارات محدودة بين سحب الدعوة الموجهة لبوتين لحضور القمة، ما يعني أنه سيكون على الرئيس الروسي أن يشارك افتراضياً عبر تقنية الفيديو كونفرانس، أو أن يوفد مبعوثاً يمثله. برغم ذلك أعلنت بريتوريا أنها تحترم حصانة كل ضيوف القمة تاركة الباب مفتوحاً أمام كل الاحتمالات.
العلاقة مع الغرب
لذلك كان ملف العلاقة مع الغرب وواشنطن تحديداً هو الحاضر الثقيل خلال محادثات لافروف، الذي لم يتردد من عاصمة جنوب إفريقيا في توجيه انتقادات حادة للولايات المتحدة على تدخلها في شؤون البلاد الإفريقية.
كما هاجم لافروف السفير الأميركي لدى بريتوريا الذي كان قد استبق زيارة وزير الخارجية الروسي باتهام جنوب إفريقيا بتزويد موسكو بأسلحة وذخائر، وهي الاتهامات التي أغضبت بريتوريا لدرجة تدخل رئيس الجمهورية سيريل رامافوزا بشكل مباشر في السجال لنفي صحة المعطيات الأميركية، مشيراً، في بيان، إلى "عدم تقديم أي دليل حتى الآن لدعم هذه الافتراضات".
لكن اللافت أن بريتوريا فتحت تحقيقاً داخلياً حول تلك المعطيات، التي تحدثت عن أن الأسلحة تم نقلها بواسطة سفينة شحن غادرت قاعدة "سيمونس تاون" البحرية في ديسمبر الماضي.
وكانت السفينة الروسية "ليدي آر" رست في جنوب إفريقيا لمدة يومين، ما أثار تكهنات عدة حول الغرض من هذه الرحلة وسط معطيات بأنه تم تحميلها بشحنات من الأسلحة ليلاً. وقال رئيس جنوب إفريقيا بعد ذلك إن سلطات الجمهورية تحقق في هذه المعلومات.
عموماً، فقد نفت موسكو بدورها صحة المعطيات، وتوقف لافروف طويلاً كما فعل في زياراته السابقة إلى المنطقة أمام "الماضي الاستعماري" للغرب ومساعيه لمواصلة فرض الهيمنة على بلدان المنطقة.
هذا المدخل مثَّل العنصر الأساسي في تحرك روسيا لمواجهة "قانون مكافحة الأنشطة الخبيثة لروسيا" الذي بلور استراتيجية واشنطن لمواجهة تمدد روسيا في القارة الافريقية.
حوافز موسكو
في الملف الاقتصادي، تدرك موسكو جيداً أنها تواجه وضعاً صعباً، على الرغم من أن الشراكة مع جنوب إفريقيا ظلت مستقرة لسنوات ولم تتأثر كثيراً بالتقلبات السياسية في العالم.
على سبيل المثال، استقبلت جنوب إفريقيا في نهاية الشتاء مناورات عسكرية بحرية مشتركة لروسيا والصين، وشكل ذلك تحدياً كبيراً للولايات المتحدة التي انتقدت المناورات خصوصاً أنها تزامنت مع الذكرى الأولى للحرب في أوكرانيا.
في مقابل الضغوط الأميركية والإغراءات التي تقدمها واشنطن، لحمل بريتوريا على تغيير سياساتها تجاه موسكو، سعت روسيا إلى تقديم حوافز قوية، لذلك فإن من بين الموضوعات الواعدة للتعاون مع جنوب إفريقيا، التي روج لها الوزير الروسي بقوة خلال زياراته، الفضاء السلمي والتكنولوجيا المتقدمة والمدن الذكية والطاقة النووية.
وتنطلق موسكو من أن بريتوريا مستعدة للتعاون، لكن السؤال هو كيفية إنشاء سلسلة إمداد وخدمات مالية للمشاريع المشتركة في مواجهة العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا.
العنصر الثاني المهم الذي تعول عليه موسكو هو ضمان استقرار الإمدادات الغذائية، خصوصاً مع الحاجة المتزايدة لجنوب افريقيا لإمدادات الحبوب والأسمدة. وقد انعكس هذا الأمر على زيادة التبادل التجاري العام الماضي، إذ كانت حصة صادرات روسيا من المواد الغذائية أساسية، وفقاً لتصريح وزير الموارد الطبيعية والبيئة في روسيا ألكسندر كوزلوف الذي قام برحلة عمل إلى جنوب إفريقيا سبقت زيارة لافروف.
وشارك ألكسندر كوزلوف في الاجتماع السابع عشر للجنة الحكومية المشتركة للتعاون التجاري والاقتصادي بين روسيا وجنوب إفريقيا، حيث ناقش الطرفان إمكانية توسيع توريد المنتجات والآلات والمعدات من روسيا.
وأشار الطرفان خلال الاجتماع إلى الاهتمام المتزايد لشركات الطاقة الروسية في سوق جنوب إفريقيا. أولاً وقبل كل شيء، يتعلق الأمر ببناء وتحديث مرافق توليد الطاقة.
في المجموع، يعمل البلدان حالياً على 11 مذكرة تعاون حكومية مشتركة بين الإدارات في المجالات الرئيسية، ومن المقرر توقيع بعضها على هامش القمة الروسية الإفريقية الثانية.
وتبقى المعضلة الرئيسية هي آليات ضمان سلاسل التوريد وعمليات التبادل بالعملات الوطنية وهو أمر تركز عليه حالياً سياسة روسيا تحضيراً لقمة "بريكس" المقبلة التي سيكون هذا أحد أبرز عناوينها.
وساطة إفريقية
كان لافتاً أيضاً أن جنوب إفريقيا استبقت زيارة لافروف بإعلان عزمها طرح مبادرة للوساطة بين روسيا وأوكرانيا، بالتعاون مع 5 بلدان إفريقية أخرى على رأسها مصر. لذلك كان من المهم أن يقوم لافروف بجولته مباشرةً بعد زيارة نظيره الأوكراني الذي روج للورقة الأوكرانية للسلام التي ترفضها موسكو.
وتدرك موسكو جيداً أن فرص المبادرة الإفريقية التي ينتظر أن تتضح ملامحها الرئيسية في نهاية شهر يونيو الجاري خلال زيارات منتظرة إلى موسكو وكييف ليست قوية بما يكفي، لكنها تشجع بريتوريا على المضي قدماً في مهمة الوساطة، في مسعى لتعميق الهوة الحاصلة حالياً مع الغرب الذي سارع إلى إبداء تحفظات على أي أفكار لا تضع أساساً لها من الورقة الأوكرانية.
ويقول خبراء روس إن مهمة الوساطة، التي تقودها جنوب إفريقيا، مهمة للغاية بالنسبة للأفارقة أنفسهم، كون هذه هي أول مبادرة موحدة منذ عقود من قبل مجموعة كاملة من الدول الإفريقية في أزمة خارج المنطقة.
صعوبات داخلية
مع الضغوط الخارجية تواجه بريتوريا صعوبات داخلية بسبب علاقاتها مع موسكو، وقد أظهر استطلاع للرأي العام أجرته مؤسسة Brenthurst للأبحاث ومقرها جوهانسبرج في الخريف الماضي أن 74.3% من مواطني جنوب إفريقيا اعتبروا تصرفات روسيا في أوكرانيا "عملاً عدوانياً يجب إدانته"، و12.7% فقط رأوا في تصرفات روسيا "استخداماً مقبولاً للقوة".
لقد انعكس هذا المزاج أيضاً في مطالب المعارضة باعتقال بوتين فور وصوله إلى العاصمة الجنوب إفريقية، لكن هنا لا يمكن تجاهل التبدل الكبير في مزاج الجزء الأكبر من النخب الحاكمة في جنوب إفريقيا حيال روسيا خلال العام الأخير.
وكمثال، فقد سئلت وزيرة الخارجية ناليدي باندور، خلال مؤتمرها الصحافي مع لافروف في زيارته الأولى هذا العام إلى جنوب إفريقيا، عما إذا كانت قد غيرت رأيها بشأن تصرفات روسيا في أوكرانيا خلال العام الماضي، حيث حمل السؤال تذكيراً ببيان أصدرته خارجية جنوب إفريقيا في 24 فبراير 2022 أي مباشرةً بعد اندلاع الحرب دعت فيه روسيا إلى "سحب قواتها على الفور من أوكرانيا".
وبعد مرور عام كامل تقريباً على هذا البيان كان جواب وزيرة الخارجية على السؤال لافتاً، إذ قالت: "إذا كررت هذا للسيد لافروف اليوم، سيبدو الأمر بدائياً وطفولياً، نظراً للإمداد الهائل من الأسلحة إلى أوكرانيا وبعد كل ما حدث".
ويعكس هذا مدى تطور المواقف في جنوب إفريقيا على المستوى الرسمي، لكنه لا يخفي الانقسام الواضح في البلاد بين مواقف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم والمعارضة، وخاصة حزب التحالف الديمقراطي، الذي يعارض بشدة التعاون الروسي الجنوب إفريقي.
ومن اللافت أيضاً هنا أن هذا التباين أقلق موسكو بشكل جدي، اذ تحدثت أوساط عن مخاوف من حدوث تبدلات في المواقف الرسمية بسبب الحملة الإعلامية المفرطة النشاط المناهضة لروسيا في البلاد. وفي مؤشر إلى مستوى المخاوف كانت الباحثة في جامعة العلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية مايا نيكولسكايا قالت لصحيفة "كوميرسانت" الرصينة إنه "لا ينبغي لروسيا أن تسترخي، فالمنافسة على قلوب وعقول مواطني جنوب إفريقيا ما زالت كبيرة".
اقرأ أيضاً: