بعد سنوات من التحالف العلني، جاء إعلان حاكم ولاية فلوريدا الجمهوري رون ديسانتيس الترّشح في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2024، كإعلان تمرد على داعمه السياسي الأبرز، الرئيس السابق دونالد ترمب.
ويأتي ذلك وسط تساؤلات عن مصير ترمب بعد توجيه لائحة اتهام بحقه في قضية وثائق البيت الأبيض، وإعلان نائبه مايك بنس الترشح رسمياً للتنافس على بطاقة الحزب الجمهوري لخوض انتخابات الرئاسة.
البداية.. دعم متأخر
في عام 2012، خطى المدعي العام الفيدرالي آنذاك رون ديسانتيس أولى خطواته في العمل السياسي، بخوض السباق الانتخابي على مقعد الكونجرس عن الدائرة السادسة في فلوريدا. وبالفعل فاز بالمقعد، وأعيد انتخابه لعضوية الكونجرس عامي 2014 و2016.
في ذلك الوقت كرّس ديسانتيس جهده لمحاربة إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما داخل أروقة مجلس النواب. وكان يبني تحالفاً كبيراً مع ترمب، وكثيراً ما انتقد تحقيق المحقق الخاص روبرت مولر في مزاعم الصلة بين حملة ترمب والتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.
تجلى التحالف بينهما في مشاركة ديسانتيس، خريج كلية "ييل"، ثم "هارفارد" للحقوق، في تأسيس كتلة "الحرية" بمجلس النواب، وهي مجموعة مقربة من ترمب تُشكل أقصى اليمين داخل المؤتمر الجمهوري في المجلس.
وجاء تأييد ديسانتيس لترمب متأنياً، فبعد الحياد خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2016، وإعلان أنه لن يقدم تأييداً لأي مرشح، قال إنه سيدعم المرشح النهائي.
وعندما فاجأ ترمب الجميع بالحصول على بطاقة الحزب الجمهوري، أصدر ديسانتيس بياناً دعا فيه زملائه الجمهوريين إلى دعم رجل الأعمال الشهير، وقال فيه: "من الواضح الآن أن دونالد ترمب سيتمكن من جمع المندوبين اللازمين ليتم ترشيحه من قبل الحزب الجمهوري. إذا أردنا هزيمة هيلاري كلينتون ولدينا فرصة لتغيير مسار بلدنا، فنحن بحاجة إلى التوّحد خلف البطاقة الجمهورية في نوفمبر المقبل"، وفق ما أوردت وكالة "أسوشيتدبرس" .
لولا ترمب ما كان ديسانتيس
رسم ديسانتيس، البالغ من العمر 45 عاماً، مساره السياسي بتأنٍ وذكاءٍ، وأيضاً بسرعة كبيرة، مكّنته من الترّشح في الانتخابات الرئاسية عام 2024، أي في خلال 10 أعوام فقط من بدء دخوله المعترك السياسي.
لم يُرضِ مجلس النواب الطموح السياسي لديسانتيس، الذي خدم في البحرية الأميركية حتى عام 2010، فقرر الترشح لمنصب حاكم ولاية فلوريدا، وطلب من ترمب دعمه.
وبالفعل، كتب ترمب على "تويتر" في ديسمبر 2017: "عضو الكونجرس رون ديسانتيس زعيم شاب لامع، (جامعة) ييل ثم (جامعة) هارفارد. من شأنه أن يصبح حاكماً عظيماً لفلوريدا. إنه يحب بلادنا وهو مقاتل حقيقي".
وفي عام 2018، فاز بترشيح الحزب الجمهوري لمنصب الحاكم، وخلال الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري للمنصب، شدد ديسانتيس على دعمه لترمب وعدم اختلافه معه في أي قضية.
كان ترمب من أوائل الداعمين لديسانتيس، ذلك الدعم يجده أستاذ العلوم السياسية وعضو الأكاديمية الفخرية في جامعة "أوهايو" بول بيك السبب الرئيسي الذي ساعد ديسانتيس في الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري لمنصب حاكم فلوريدا.
وقال "بيك" لـ"الشرق" إنه "لولا ترمب، ربما لم يكن ديسانتيس ليحصل على ترشيح الحزب".
وأيد أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة "بوسطن" توماس والين رأي بيك، في أن ديسانتيس كان "الطرف المستفيد" إلى حد بعيد من تحالفه السابق مع ترمب.
وقال والين لـ"الشرق" إن "ترمب ساعد ديسانتيس في جعله اسماً تجارياً في السياسة الأميركية، واكتسب، الأخير، شهرة وشعبية في الساحة السياسية الأميركية من خلال اعتماده السياسات والأفكار اليمينية المتطرفة المشابهة للرئيس السابق دونالد ترمب".
شراكة و"خيانة"
قدم ترمب الدعم لديسانتيس للفوز بترشيح الحزب الجمهوري كحاكم ولاية فلوريدا، واعترف ديسانتيس بذلك، قائلاً: "أعتقد أننا سنحظى بشراكة رائعة"، لكن سرعان ما تغيرت العلاقة بينهما.
في سبتمبر 2018، وبعد عام كامل من ضرب إعصار "ماريا" بورتريكو، انتقد ترمب دراسة أجرتها "كلية معهد ميلكن للصحة العامة" بجامعة جورج واشنطن عن عدد ضحايا الإعصار، واتهم الديمقراطيين بـ"تضخيم" عدد الضحايا كحيلة سياسية لجعل إدارته تبدو سيئة، حسب ما ذكرت "واشنطن بوست" حينذاك.
من جانبه، رفض ديسانتيس مزاعم ترمب، وقال إنه لا يمكن المزايدة بأعداد الضحايا، فيما اعتبر ترمب التعليق "خيانة"، لأن تأييده ساعد ديسانتيس على التقدم في استطلاعات الرأي، والفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري كحاكم فلوريدا.
حاول ترمب العزوف عن دعم ديسانتيس، لكن مساعديه أقنعوه بضرورة استمرار دعمه، وجادل براد بارسكال، مدير حملته الانتخابية للرئاسة حينها، بأنه إذا خسر ديسانتيس سباقه الانتخابي، فسيكون من الصعب على ترمب الفوز بالولاية الثانية عام 2020. وأقنعه بأن الأمر ليس فقط بالنسبة لديسانتيس، بل لترمب في المقام الأول، وفقاً لـ"واشنطن بوست".
وفي يناير 2019، أدى ديسانتيس اليمين الدستورية كحاكم ولاية فلوريدا، وشكر ترمب، في خطاب النصر الذي ألقاه، على دعمه ومساندته له.
ترمب.. الأوفر حظاً
يرى مراقبون أن ديسانتيس نسخة شابة من ترمب، لا تعاني أعباءه السياسية ومشكلاته القانونية، لكن استطلاعات رأي تشير إلى أن ترمب أوفر حظاً من ديسانتيس، وأنه الخيار الأول للناخبين الجمهوريين المحتملين، وفق شبكة "سي إن إن".
ويفسر أستاذ العلوم الاجتماعية والين ذلك بأن القاعدة المتشددة للحزب الجمهوري تسير على إيقاع عازف الطبول، في إشارة إلى الرئيس السابق، قائلاً: "ترمب هو ترمب، يحبونه أكثر من ديسانتيس الذي يفتقر إلى نفس النوع من الكاريزما".
يتمتع ترمب بقاعدة دعم قوية بين الناخبين الجمهوريين الأساسيين المحتملين، وهو ما يعتقد بيك أنه جوهر المسألة برمتها، مشككاً في أنه حتى مع ادعاء ديسانتيس أنه ترمب دون مشكلاته أو خلافاته، لم يؤد ذلك إلى تحريك أو تأثير ديسانتيس على مؤيدي ترمب لزحزحتهم إلى جانبه.
وأضاف: "في الواقع، غرق ديسانتيس في استطلاعات الرأي، بينما ظل ترامب في المركز الأول بهامش 2 إلى 1 تقريباً".
منعطف على الطريق
في نوفمبر 2020، وفي الوقت الذي أبدى فيه بعض كبار الجمهوريين دعمهم لمزاعم الرئيس السابق بحدوث "تلاعب" في الانتخابات الرئاسية، التزم ديسانتيس الصمت.
كان ذلك بمثابة دعم غير معلن، كما يعتقد أستاذ العلوم السياسية في جامعة "نورث وسترن" جيمس دروكمان، خاصة أن ترمب كان قد وصف ديسانتيس قبلها بالصديق والتلميذ، الذي سانده في انتخابات الرئاسة ضد بايدن.
وقال دروكمان لـ"الشرق" إن ترمب فاز بولاية فلوريدا، حينها، بنسبة 3.4 نقطة مئوية، وهو هامش فوز أكبر مما كان عليه في عام 2016.
وأضاف: "اعتبر ديسانتيس من الذكاء وقتها أن يلتزم الصمت حتى يتحسس الماء".
لكن يبدو أن ذلك الصمت، لم يرضِ الرئيس السابق، الذي تجاهل ديسانتيس وفعاليات حملته الانتخابية كحاكم ولاية فلوريدا في انتخابات التجديد النصفي عام 2022، وفي نفس الوقت، ساند بقوة السيناتور ماركو روبيو في انتخابات مجلس الشيوخ عن نفس الولاية.
وقبل أيام قليلة من الانتخابات، كشف ترمب عن لقبه الجديد لديسانتيس وهو "رون دي سانكتيمونيوس" أي رون "مدعي الأدب والورع"، كنوع من السخرية.
ومع إعادة انتخاب ديسانتيس حاكماً لولاية فلوريدا، وتحقيقه فوز ساحق على منافسه شارلي كريست، الحاكم السابق للولاية، بهامش يعد الأكبر في الولاية منذ 40 عاماً، طفت العداوة على السطح بين ترمب وديسانتيس، وإن كان الأخير قد فضل التجاهل.
قبل إعلان ديسانتيس خوضه السباق الرئاسي بأشهر، كان ترمب أعلن خوضه السباق الرئاسي في ذلك الوقت، وبدأ الهجوم عليه كلما سنحت الفرصة، معتبراً قرار ديسانتيس غير المعلن بالترشح للرئاسة "خيانة كبيرة"، كما هدد بالإفصاح عن معلومات ضارة عنه حال ترشحه، حسما أفاد موقع "ذا هيل" نهاية يناير الماضي.
يراهن بيك على فوز ترمب ببطاقة ترشيح الحزب الجمهوري، ليس فقط لأنه يتمتع بالأسبقية على ديسانتيس في استطلاعات الرأي على مستوى البلاد، ولكن، أيضاً، لأن ترمب يكتسب الدعم من الحزب والمانحين بينما يخسر ديسانتيس ذلك، على حد قوله.
وأشار بيك إلى أنه علاوة على ذلك، أصبح عدد المنافسين الجمهوريين لترمب كبيراً، "وقد قسّم هؤلاء المرشحون أصوات المعارضة لصالح ترمب".
ديسانتيس ليس ترمب
في أواخر مايو الماضي، أطلق ديسانتس حملته لخوض انتخابات الرئاسة من ولاية أيوا، قائلاً: "أن تكون قائداً، هو ألا تقوم بالترفيه.. بل أن تحقق نتائج"، في إشارة ضمنية على أنّه البديل الأفضل لترمب دون ذكر اسمه.
ديسانتيس الذي تجنب على مدى أشهر الرد على ترمب، أشار إليه ضمنياً على تويتر بقوله: "يجب أن ننهي ثقافة الخسارة التي أصابت الحزب الجمهوري في السنوات الأخيرة. يجب أن نتطلع إلى الأمام وليس إلى الوراء". ودعا إلى أن يقود البلاد شخص "نشيط" يمكنه الحكم على مدى "ولايتين".
ويدرك ديسانتيس جيداً أنه في حال مهاجمة ترمب صراحة سيخسر الكثير من ناخبي الرئيس السابق وهو ما لا يريده قطعاً، كما يعتقد أستاذ العلوم السياسية دروكمان، موضحاً أن ديسانتيس أستفاد من ترمب كثيراً على مدار سنوات، وعرف متى تحديداً يمكن أن يتخطاه، "لكن بحدود".
ورجح دروكمان أنه في حال فوز ترمب بترشيح الحزب الجمهوري، فمن المحتمل أن يدعمه ديسانتيس في مقابل الحصول على منصب وزاري، "بينما إذا فاز ديسانتيس، فمن الصعب رؤية ترمب يدعمه".
وعلى نحو مماثل، قال أستاذ العلوم السياسية بيك: "أعتقد أنهم جميعاً سينتهي بهم الأمر بدعم ترمب، علناً على الأقل، إذا فاز بالترشيح. وإذا لم يفز، فلن أتوقع منه أن يدعم الفائز النهائي مهما كان".
اقرأ أيضاً: